رائحة الياسمين

كلاديس مطر 

بدأ القرن الواحد والعشرون مفلسا على الرغم من كل الحمولة الثقافية والتكنولوجية والسياسية التي انطلق بها . لم يأتِ الافلاس بسبب من عدم  قدرة رجال هذا القرن على فك شيفرة هذه الحمولة والتعامل معها ، وإنما بسبب إهمالها كلية والانطلاق في حركة تغيير مهولة أخذت في طريقها الملايين وشردت أكثر منهم . الافكار الماورائية المدمرة التي لعبت بعقول المشرعين، مشرعي الخراب، ومن يعتقدون انهم الوصايا على الفكر والسياسة، تركت الباب مفتوحا على مصراعيه امام المستحيل ، المستحيل الذي لن يأتي ولو بالدمار.

المتطلع الى المشهد البانورامي الدامي اليوم أمامنا في ديار العرب ، يرى حركة خرافية من توالد لا ينتهي لقطع الاحجية، الواحدة تلو الاخرى ، والواحدة تتوالد من أخرى ، وهناك قطع فالته تتوالد ذاتيا حول المشهد ، واخرى انبثقت وكأنها من اللامكان واللازمان لتتموضع عشوائيا فوق الجميع. ومن بين كل هذه الفوضى في المشهد العربي الربيعي العريض ، هناك خيوط عنكبوتية تشد المتفرج لكي يتورط في ” التمثيلية ” أمامه ، تشده بقوه وباستفزاز وبكل ما تملك من أدوات وعقوبات وأسلحة ومؤثرات صوتية ( مواعظ وتكفير وإفتاء وحتى ترغيب بالنكاح وحبوب الهلوسة ) .

المشهد كله مجنون ، غير عقلاني يحتشد بمصطلحات لا تناسبه، لا تناسب خشبته ولا حجم الصالة ولا قماش الستائر ولا كراسي المتفرجين ولا المتفرجين أنفسهم. إنها مصطلحات رُكبت عل طريقة (الكولاج) في الرسم . كلمات وعبارات وشعارات الصقت في غير مكانها إمعانا في ترك الاثر على المتفرج عن طريق خلق حالة من التناقض النافر أمام عينه الدامعة المنكسرة والمدهوشة في آن .

واذا كنت كاتبا او تدعي انك من متابعي الشأن العام، فإنك سترى أمامك واحدة من التراجيديات اليونانية الاكثر حيوية ؛ قدراً فارداً جناحيه كشبح ، وحوادث لا يمكن التكهن بها، ونسوة متشحات بالسواد يندبن على من راح ومن بقي . أما الدرس الاخلاقي هنا فهو غير موجود أصلاً، عدا عن سؤال فلسفي كبير جدا عن الوجود والعدم لكن من دون جواب . في هذه التراجيديا ، الإنسان لا يخاف، لايقلق، لا تتملكه الهواجس وإنما ينتحر من دون تفكير . يرمي بنفسه في لجة العمى الأجدب من غير رجعة  دافعا موته المشتهى ثمنا لحياته . أما الوسائل فكثيرة وهي ملك أيمانه ؛ قنبلة مرمية في حاوية، صهريج ممتلىء بـ ( السي 4) ، قذائف هاون عشوائية أو حتى جهاديين مدججين يأتون من دول صديقة لكي يذبحوا الاطفال والنساء السافرات من طوائف مختلفة.

هناك أيضا الجوقة الخفية للموت من وراء الكواليس . رجال بربطات عنق ونساء مسترجلات بـ ” تايورات من تصميم آن تايلور ” يحاولوا أن يفهموا طبيعة هذا العصر كما يدعون. إنهم يطلبون محاكمة هذا القرن الذي كان مسؤولا عن قتل وتشريد سبعين مليون بني آدم على هذا الكوكب خلال حروب النصف الاخير من القرن الماضي والثلاثة عشرة سنة الدموية من هذا القرن الفالت من عقاله. إنهم هناك منكبون على الخرائط الأكثر تعقيداً والكاميرات الاكثر تكبيراً بينما تنكمش عقولهم الصغيرة وهي تتحضر للهلع الذي يهيؤون له عن سابق تصور وتصميم . ايديولوجياتهم ليست خفية على أحد ؛ إنها هناك فوق الحافلات المسرعة في طرقات مدن الشرق الاوسط، وفي “منشيتات” جرائد الاحزاب الدينية ، وهي أيضا معلقة فوق المنابر العالية للدعوة للصلاة ، وفي فناجين القهوة المقلوبة  والخرق المقدسة وعبارات التطير . إنها أيضا في شيطنة رجل الشارع البسيط واطلاق الالقاب عليه ، وفي دك كل عقيدة تدعو الى التهدئة والسلام. ايديولوجياتهم مكتوبة على ظهور شحنات الاسلحة التي ترسل مع نسخ من القرآن المرتل لزوم الاقناع، وعلى كراسي الكتان والخشب لمخرجي هذا المشهد الذي غص بهم حتى أخذوا يسرقون مقاعد المتفرجين أنفسهم .

إنها كواليس – مطبخ العدم بامتياز حيث تتدافع ” الثورة التي انقلبت الى ديكتاتورية  من الطراز   الدموي ” مع ” التمرد الذي لامس عنفه الطفولة في مهدها ” ،  في طابور طويل لشراء الحرية والخبز يختلط فيه الحابل بالنابل. الثورة التي هي ابنة الفكرة الماورائية – كما يقول البير كامو – من دونها لا نشوة في اشعالها؛ من دون هذه الجذوة من اللامعقول والانتفاض وغرس خنجرها في القلوب التي تنبض بالحياة “من دون تطرف”.  الثورة تُولد نظرية في المقام الاول، لكنها تضل طريقها وتغدو تمردا من دون داع . إنها ليست معارضة ، لان للمعارضة اصولها الهادئة وفكرها التطبيقي ورؤيتها النقية والنقدية. المعارضة بناءة وهي لازمة في كل صرح سياسي حكومي . أما الثورة عندما تتسلح فهي تمرد ماورائي عبد فكرته وانتحر معها في مشهد تراجيدي سخيف . انها تتحول الى تمرد، الى آلة قتل مربوطة بفكرة ماورائية، مثقلة بأسهم تنطلق بكل اتجاه. وأول الضحايا هي المبادىء.

هذه العقلية اللاهوتية التي فتحت الباب على أقصاه لكل هذه الافكار الدموية القاسية ، آن لها أن تنتهي اليوم الى غير رجعة . لقد ثبت خطأ مقاربتها في كل حرب وفي كل معركة وفي كل ثورة وفي كل عصيان عبر التاريخ كله . هذه العقلية ليست شعبية ولم تكن يوما ولن تكون.  الشعب، الفكر الجماعي لايمكن  الا ان يكون  مدنيا بكليته ، مأخوذا كجماهير . العقلية اللاهوتية ليست معطاة للجميع  باعتبارها حالة شعبية ، وإنما هي ” تنزل ” على بعض العقول الصغيرة المحدودة الأفق كاستثناء ، والاستثناء لا يقبله الشعب ككتلة بشرية اجتماعية .

حين يفشل التمرد فإنه يلجأ الى ما هو أعنف من الاسلحة وفرض عقيدته الخاصة؛ التطهير العرقي والديني . إنه يبدو- هذا التمرد- وحيدا كملك مخلوع أو قيصر لم يعد يعثر على أحلام ليحققها. وبدلا من فك حصار عزلته،  تراه يمعن فيها تشذيبا وتنميقا ثم نحتا لصنمه الوحيد وفرضه، بعد ذلك، على كل الدنيا حوله حتى ولو لزم الأمر اقتلاع قلوب الآخرين وأكلها .  والحق إنه بهذا يجعل من ” نظامه ” الخاص القنبلة التي ستنفجر فيه تماما.

ما الذي يدفع ” الانتحاري ” ، وكل متمرد مسلح هو انتحاري ، الى العبور لوطنه من هذا المنفذ المرعب ؟ ما هذا الانتحار المقدس ، السامي، الذي يحمل مشروعيته في ذاته ويتنقل من عقل لعقل ومن روح لروح ومن وجهة نظر لوجهة نظر ؟؟؟ لربما كان الدافع هي الايديولوجية الماورائية القابعة في قعر الفناجين المقلوبة ، وتلك المكتوبة في الاحاجي المطوية والمدسوسة تحت الوسائد، والمعلقة بالدبابيس على حمالات صدور النساء . ربما هذا ما أحال هذه الدنيا ، المرة تلو الاخرى ، وعبر تاريخ هذه البشرية الحزين ، الى واحة من الفوضى والارهاب.

الواقع العربي اليوم، المؤله بقسم منه للثورات، يندفع نحو حتفه ليس من تلقاء نفسه وإنما بسبب الخيوط الكثيرة المعلقة فوق رأسه تحركه كدمية من خرق وخرز. إنها ليست خيوط خفيه كما هو الحال في مسرح الدمى وانما خيوط تعلن عن نفسها بكل فخر . لكن هذا المسكين الواقع في الفخ لا يراها لأنه أعمى ، فنظره في افضل حالاته طالما أنه قادر على قنص أخيه من مسافة كبيرة، وإنما لأن عماه يكمن في قلبه الذي شلته الايديولوجيات الماورائية . إن محرك خيوطه يقول له بكل شفافية الان سوف تقوم بكذا وكذا ، وسوف تكون ردة فعلك كذا وكذا وهو يتطلع إليه كطفل برىء مبتسم انهى وجبة ارضاع للتو .

التناقضات، الكذب والتضليل ، الجنس بأبشع وأرخص تبدياته، اللاعقلانية في المقاربات ، تشجيع القاتل في مكان وإدانته في مكان آخر، الهلوسة العربية الماورائية، ثم الغرب الذي دمر جذور جذوره في سوريا من أجل الخامات والطاقة ، وشعارات كابوسية مزيفة متل الديمقراطية التي تريد التغطية على الهدف الاول والحقيقي لكل هذا الدمار : خطوط أنابيب الغاز” الاسلامية” واتجاهها .

انهم يحاربون أكبر دولة ديمقراطية في الشرق الاوسط بينما يتركون شركاءهم الذين لم يعرفوا رائحة الديمقراطية في بلادهم ليكونوا رأس حربتها، حيث تخرج ” الدشاديش المكوية جيداً” عن عرفها الثقافي والماورائي لتخطب في السوريين ليل نهار عن كلمات لم ترد مرة واحدة كما هي مستعملة اليوم في تراثهم الديني الفحل  …………!!!!!

إن إمعان النظر البسيط  في خريطة سورية اليوم  يجعلنا نرى هذا الالتقاء والتقاطع الواضح بين المناطق التي يشتعل فيها الصراع والمناطق التي من المقرر ان يمر بالقرب منها او فيها خط الغاز القطري : حمص وريفها ودمشق وريفها . إنهم يريدون انهيار سوريا بنظامها الحالي وفقدانه للسيطرة على اراضي الجمهورية العربية السورية وذلك لانه متى حدث ذلك ، فانه سينهار بلحظة خط سير الغاز بمفهمومه  العالمي الجيو- سياسي.

لهذا فان المعارضة السلمية العقلانية لكل هذا مرفوضة في أدبيات الخراب والتمرد. المعارضة السليمة الصحية التي هي جزء لازم لا يتجزأ من اي نظام سياسي يريد أن يستمر، هي معارضة غير مقبولة ولا يريدونها، لانها ستكون حكماً معارضة تؤمن بالثوابت الوطنية وتلتزم بعقيدة الدولة الموحدة والفكر القومي . هل لمشروع الغاز وفلسفة التمرد أن يلتقي مع كل هذا ؟؟ طبعا لا. إن الخط الاسلامي ، أو خط إيران – العراق – سوريا هو الذي يجعل المعارضة تتسلح بمعونة تلك الدول التي تقترح مرورا آخر لهذا الخط في أراضيها؛ تركيا- قطر- اوروبا.  وفوق هذا وذاك ، هناك المكتشفات السورية الضخمة من الغاز ومقدرة سورية المستقبلية على تصديره الى الاتحاد الاوروبي ، خبر بالتأكيد لن يسر لاعدوا ولا ” صديقا” !

وحين تستيقظ مصر كشعب، ككتلة وجدانية عاشت وتربت على هذه الثوابت ، وتريد ان تضع القطار أخيرا على سكته الصحيحة فانهم يغضبون ويبدأون باستنساخ النموذج السوري لها.

ليس هذا موقفا متشائما مني للواقع وإنما توصيف . لربما كان لدى البعض ما هو أقسى لكي يقولونه ، ولربما كان لدى البعض الاخر ذكريات وأفكار أكثر اعتدالا، ولكني اجزم أن الجميع لن يرى نوراً آخر هذا النفق ولن يشم رائحة الياسمين النقي المنعش ، وانما رائحة الغاز القوي ونحن نلهث باتجاه    المحال .

:::::

كاتبة سورية

www.gladysmatar.net

https://www.facebook.com/Gladys.writer?ref=hl