غازي شعبان*
لمّا كانت المياه عصب الحياة الإنسانية، وسبب نمائها وتطوّرها، فإنها غدت عاملاً جيو استراتيجياً يتقدم على ما عداه. لذا، تحولت إلى عنصر أزمات ودوافع حروب وصراعات دائمة، بخاصة أن الموارد المائيّة هي إلى شحّ أكيد، وبالتالي يصعب التحكّم في تجدّدها أو زيادتها كونها مرتبطة بالعوامل البيئيّة الطبيعية.
يتضاعف الطلب على استهلاك المياه أكثر من الزيادة السكانية، زد على ذلك أن التوزيع غير العادل للمياه بين دول الحوض، من المنابع إلى المصبّات، يخضع لموازين القوى والثقل النوعي للدول المستفيدة ونفوذها. وبذلك يصحّ التوصيف بأن المياه هي عامل استراتيجي مستمر يخضع لاعتبارت القوّة والتقدّم. فعسكرة قضية الموارد المائية باتت توصيفاً يرتبط بالسياسة الخارجية والأمن القومي الاستراتيجي، أي أنها باتت عنصراً استراتيجياً خطيراً من شأنه إحكام الخناق على الدول المستفيدة بغية الحدّ من نموّها وتطوّرها في إطار موازين القوى والتوسّع وبسط النفوذ لإضعاف الآخر. من ذلك مثلاً، حالة مصر مع مياه النيل، والحرب القائمة على مياه نهر الأردن في إطار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، والتحكّم التركي بتوزيع مياه نهريْ دجلة والفرات مع سوريا والعراق واستخدام تركيا تفوّقها الاقتصادي والعسكري لأهداف جيوسياسية، بخاصة في ظل الأزمتين العنيفتين السورية والعراقية.
عسكرة الموارد المائية سمحت للخبراء الاستراتيجيّين بإطلاق عناوين عدّة على أزمة المياه: “معركة المياه”، أو “من أجل المياه”، “المياه رهان استراتيجي دولي جديد”، “جيوبوليتك المياه”، “جيواستراتيجية المياه”، “السياسة المائية”، “الديبلوماسية المائية”، “أزمات المياه”. هذه العناوين كلّها تبرز أن المياه وندرتها تؤدّي إلى حروب وصراعات دامية. ولم تتوصل المعاهدات الثنائية والجمعية وحتى تشريعات القانون الدولي الخاصة بالمياه وتوزيعها، إلى تبريد هذا الصراع والحؤول دون تفجّره.
وهنا ينبغي ألا تغيب عن بالنا المروحة الاستراتيجية لإسرائيل. فالعلاقة بين تل أبيب وأديس أبابا هي علاقة استراتيجية قوامها التأثير والحضور الإسرائيلي المباشر في القرن الإفريقي، للضغط على مصر، وإضعاف شريان حياتها المائي، وخصوصاً في ظلّ نموّ سكاني مصري مطّرد يترافق مع سياسة خفض حصة الفرد من المياه.
أزمة مياه المشرق العربي
يصعب التحكّم في مجاري المياه وفي عمليّة توزيعها في المشرق العربي والسيطرة على المنابع التي تؤدّي إلى الحروب. ويفرض الصراع العربي الإسرائيلي ثقله وتأثيره على مياه المشرق، وخصوصاً نهر الأردن وبحيرة طبريا من منابع الحاصباني والليطاني في لبنان، إلى اليرموك في سوريا وبحيرة طبريا أيضاً. وذلك بالإضافة إلى روافد من منابع وأنهر صغيرة كمياه نهر دان في الجولان، وصولاً إلى فلسطين المحتلة. حيث إن 2/3 مياه فلسطين المحتلة العام 48 تأتي من خارج مناطق الاحتلال، و1/3 تأتي من نهر اليرموك وبحيرة طبريا، و1/3 من شريان المياه الجوفية الممتد من الأردن إلى غزة. وبعدما احتلت إسرائيل هضبة الجولان في العام 1967 أحكمت سيطرتها على مياه النهر من المنابع، أضف إلى ذلك ضغطها على لبنان وتهديدها له لمنعه من استغلال مياه الليطاني والحاصباني والحؤول دون تحويل المجاري أو إقامة السدود للاستفادة من المياه واستثمارها.
شهدت الجبهة المائية العسكرية السورية الإسرائيلية منذ احتلال فلسطين في العام 1948 مواجهات بالنار والقصف المدفعي والجوي، ولم تسكت المدافع من أجل المياه إلا بعد احتلال الجولان في العام 1967.
وتعود أهمية هذه الهضبة الاستراتيجية لسببين أساسيّين:
- لأنها تسيطر وتشرف من على ارتفاع 1000 متر على سهل حوران في سوريا وعلى وادي الجليل في فلسطين المحتلة، كما تطلّ على قمة جبل حرمون في لبنان.
- لأنها خزان المياه، الذي يؤمّن لفلسطين المحتلة 1/3 احتياجاتها المائية، ويسمح لإسرائيل بمراقبة نهر الأردن والتحكّم مباشرة فيه وبروافده من نهر دان وبانياس.
لم يخضع أطراف الصراع على مياه الأردن للمفاوضات في ظلّ اختلال موازين القوى بين عرب الأردن وسوريا من جهة، وإسرائيل من جهة ثانية؛ بل مضى كلّ طرف ينفّذ مشروعاته الخاصة. ظلّ مشروع جونشون في العام 1953 حبراً على ورق بعدما رفضته إسرائيل وأطلقت مشروعها بحفر قناة تمتدّ من بحيرة طبريا إلى النقب، فيما لم يكتشف العرب هذا المشروع إلا في العام 1959. وقد أعدّت تل أبيب مضخات ضخمة لشفط مياه بحيرة طبريا.
من ناحيتها بدأت المملكة الأردنية في العام 1957 بناء قناة الغور الشرقية بما صار يعرف باسم “مشروع اليرموك الكبير”. وكان صدر قرار عربي بتحويل مياه نهر الأردن من المنابع في لبنان، أي من مجرى نهر الحاصباني وغيره من الروافد. إذ عقدت القمة العربية الأولى في الإسكندرية في أيار/مايو 1964 بدعوة من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقرّرت بناء سدّ على نهر اليرموك، والذي، وفي حال استكماله، يحرم إسرائيل من 35% من المياه التي تحتاجها. في 13 تشرين الثاني/نوفمبر فتحت المدفعية السورية النار على المشروع الإسرائيلي، وردّ الإسرائيليون من ناحيتهم بقصف منابع نهر دان، ثم اتبعت ذلك بقصف الإنشاءات السورية على نهر بانياس.
في 2 نيسان/إبريل 1976 قصفت إسرائيل المشروع الهدروليكي العربي، وفي 17 من الشهر ذاته قامت بقصف سدّ اليرموك وتدميره. ما يعني أنه لا يمكن التنبّؤ بتوزيعٍ عادلٍ للمياه، حتى في ظلّ سلامٍ عادل بعيدٍ المنال.
مياه دجلة والفرات
إن موقع تركيا الجيو- استراتيجي، إلى جانب قوتها الاقتصادية والعسكرية ومروحة مصالحها الحيوية في المحيط، جعلها في وضع تفرض من خلاله سيطرتها على انسياب مياه أنهارها وتدفقها، علماً بأن هذه الأنهر هي عابرة للحدود وليست دولية. أما المشروع العملاق الطموح الرامي إلى تطوير منطقة الآناضول وإنمائها، فقد نظرت إليه كلّ من سوريا والعراق بخشية وحذر، كونه يخفض حصصهما من منسوب المياه. ولإيجاد حلّ لهذه المشكلة، وقّعت أنقرة وبغداد في العام 1982 بروتوكولاً اقتصادياً، وتمّ تشكيل هيئة فنّية مشتركة، انضمّت إليها دمشق في العام 1983. وعلى الرغم من انعقاد 16 جلسة لهذه الهيئة الفنّية ما بين 1982 و1992، إلا أنها أخفقت جميعها في إيجاد الحلول الفنّية بسبب تضارب المصالح لأطرافها.
بعد فشل الهيئة الفنّية في حلّ المشكلات عبر المفاوضات، طرحت تركيا من ضمن سياستها الخارجية في الشرق الأوسط مشروع “الماء من أجل السلام”، كما أعلنت وطمأنت الدول المشاطئة، أنها لن تستخدم نهريْ دجلة والفرات كسلاح استراتيجي وأنها ستعتمد المفاوضات الثنائية حيث تدعو الحاجة.
في العام 1987 وقّعت تركيا مع سوريا بروتوكولاً للتعاون الاقتصادي، بحيث تؤمن انسياب 500 متر مكعَّب في الثانية من المياه عند خروجها من الأراضي التركية. كما ألحقت ذلك ببروتوكول أمني “المياه بمواجهة الإرهاب”، بحيث تقوم سوريا بمراقبة نشاط حزب العمال الكردستاني في أراضيها.
أزمة مياه نهر النيل
إن الحاجة إلى المياه مع ندرتها، تفرض ثقلها وضغطها على دول الحوض، على الرغم من علاقات حسن الجوار والمشاركة الطبيعية في ما بينها سواء البعيدة أم القريبة. لكن الوصول إلى هدف اتفاق قانوني ومؤسّسي ينظّم عملية إدارة المياه وتوزيعها العادل ما زال بعيد المنال.
أدّى تراجع تأثير مصر ودورها واختلال موازين القوى، إلى عدم اكتراث الدول المشاطئة بالاتفاقيات المعقودة وهي التي تستند إلى بنودها مصر في حصتها من مياه النيل (اتفاق عينتيبي).
إن ازمة توزيع مياه النيل الضاغطة على مصر اليوم ليست أزمة فنّية، إنما هي عملية سياسية استراتيجية، تطال الأمن القومي المصري بالمفهوم العسكري الصريح.
ففي ظلّ انكفاء مصر عن دورها الإفريقي، بل غيابه طوال عقود ماضية، أعدّت أثيوبيا نفسها ورسمت خططها الاستراتيجية للهيمنة على القرن الإفريقي، ولاسيّما مع وجود تنافسٍ وأدوارٍ للاعبين جدد (الصين وإيطاليا وماليزيا وقطر في المسرح الإفريقي)، فضلاً عن دعم إسرائيلي مقصود ومفتوح. وقد أدخل على مشروع سدّ النهضة، الذي حمل اسمه الكودي المشروع، تعديلات في السرّ، ورُصدت له ميزانية كبيرة في موازنتيْ 2011 ـ 2012، وقد وضع له رئيس الوزراء الأثيوبي حجر الأساس في نيسان/إبريل 2011 تحت اسم “سدّ النهضة الأثيوبي العظيم”.
والسدّ هذا هو نفسه سدّ الحدود، الذي أوحى بإنشائه مكتب استصلاح الأراضي الأميركي، وذلك من ضمن 23 سداً على النيل الأزرق. إلا أن هذا السدّ الصغير لتوليد كمية من الطاقة الكهرومائية، عدلت خرائطه ليتسع إلى 65 مليار متر مكعب، وبالتالي لإنتاج طاقة كهرومائية تفوق حاجتها. فهي تستخدم 5 آلاف ميغاوات من أجل التصدير للدول المجاورة.
من ناحية أخرى لا يقف بناء هذا السدّ العظيم عند حدود الخطط الإنمائية، بل هو قائم لأبعاد سياسية استراتيجية وجيواستراتيجية، نسبةً إلى الدور الجيوـ استراتيجي الذي تسعى إليه أديس أبابا في القرن الإفريقي امتداداً إلى مصر، وتهديد الأمن القومي الاستراتيجي للبحر الأحمر وسواحله.
لقد أهملت الدول العربية أمنها المائي الحياتي المستقبلي بالتنازل الطوعي عن حقوقها المشروعة في الاستثمار والتحكّم بثرواتها، ولا تملك أيّ دولة عربية دراسات معمّقة واستراتيجية جدّية وقاطعة عن ثرواتها الطبيعية.
* كاتب من لبنان
:::::
“أفق”