بعد تسعة أشهر: حَمْلٌ كاذب أم مولود مشوه؟

محمد العبد الله*

 

        لم تذهب جولات جون كيري الستة هباءً. كما أن سياسة “الغموض البناء” التي حكمت تحركاته وحواراته، وبالتالي، وضعت السلطتين “سلطة الغزو والاحتلال” و”سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود” في أواخر تموز/ يوليو الفائت على طاولة مباحثات ذا طابع “استكشافي” تمهيداً للولوج لما تسمى كذباً وتضليلاً “مفاوضات”، ستؤدي إلى مسرحية فيها لاعب وحيد لتأدية الدور الرئيسي بينما سيكون الآخرين، دمىً تتحرك بأصابع لاعبين رئيسيين- كما في مسرح العرائس- حكومة المستعمرين الصهاينة و مارتن إنديك، الديبلوماسي الأمريكي/اليهودي/ الصهيوني .

  حكومة العدو من خلال عودتها للمفاوضات بإصرارها على عدم وجود “شروط مسبقة” تكون قد أعادت إنتاج سياسات حكومات الكيان المتعاقبة منذ مشاركتها في مؤتمر مدريد عام 1991 من أجل الدخول في مفاوضات تستمر قرناً من الزمن، من أجل معركة كسب الوقت والاستفادة منه، خاصة، وأن كل الوقائع على الأرض على مدى عشرات السنين، وتحديداً منذ اتفاق إعلان المبادىء ” إتفاق أوسلو ” الكارثي وحتى الآن، تؤكد نجاح خطة حكومات العدو المتعاقبة في تنفيذ برنامجها الإحتلالي/الإستعماري. كما أن حكومة الإئتلاف الراهنة بتشكيلتها الأكثر فاشية وعنصرية – ولكونها حكومة أحزاب/عصابات “مستعمرين/ مستوطنين” لاتخفي رغبتها بتنفيذ برنامج التهجير القسري”ترانسفير”- قد استجابت للمشاركة الآن، لقناعتها بضرورة أن تثبت للعالم أنها ملتزمة بسياسة بناء الثقة مع الفلسطينيين من أجل الوصول لـ”السلام”!.وبالتحديد، لدول الاتحاد الأوروبي التي أصدرت موقفاً حاسماً تجاه المستعمرات ومنتجاتها.

  أما سلطة الحكم الذاتي التي تنازلت عن كل اشتراطاتها للعودة لطاولة المفاوضات، خاصة، حول حدود العام 1967 التي كانت تعتبر أبرز نقاط الخلاف ، بالإضافة لضرورة وقف البناء والتوسع في المستعمرات، فقد سارعت بالخضوع لرغبات لإدارة الأميركية  بعد أن لوحت بقطع المعونة عنها، والاستجابة لطلبات ذات الإدارة في تجميد / وقف كل الخطوات بالانضمام للهيئات والمنظمات المتفرعة عن هيئة الأمم المتحدة بعد أن أصبحت “دولة غير عضو” في المنظمة الدولية. إذاً، حسمت قيادة السلطة أمرها وذهبت لطاولة التنازلات بعد رفضها ذلك على مدى ثلاث سنوات على الرغم من معرفة تلك القيادة بأن حكومة الغزو والاحتلال لم ولن تلتزم بأي من الشروط الفلسطينية التي يرددها صباح مساء المسؤولون في مقاطعة رام الله المحتلة. لم يكن مفاجئاً أن يقرر أصحاب سياسة “المفاوضات حياة” بأن لا خيار لهم إلا خيار المفاوضات، التي تؤكد “شرعيتهم !” وتؤمن استمرارية الدعم المالي/السياسي لسلطتهم الشكلية. فالمفاوضات ذات السقف الزمني المحدد ، لكنه القابل للتمديد، ستساهم بتوفير ملهاة جديدة، يخوص في بحث تفاصيلها، والاجتهاد في توقع نتائجها، كتلة شعبية، ملحقة بكتاب وسياسيين وقادة فصائل، تخوض يومياً سجالات ومماحكات حول قضايا اجرائية، تحول _كما يتوهمون_ دون حدوث حراك فلسطيني مستمر تقوده أجيال من الشباب والصبايا، كما ظهر في شوارع المدن بالأشهر الأخيرة، مترافق ومتماهي مع سلسلة التحركات التي تشهدها ميادين العواصم والمدن والجامعات والمعامل في أكثر من قطر عربي في الأسابيع الأخيرة.لهذا فإن سلطة كهذه ستذهب إلى طاولة التنازلات لتقدم في كل “موسم مفاوضات” تنازلاتها الجديدة، خوفاَ من أن تفقد مبرر دعمها ووجودها ومصدر شرعيتها.

  إن ما يعرض على الفلسطينيين في ماراثون المفاوضات القادم سيكون ملتزماً بـ “خطة جون كيري” التي تتضمن إقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 مع تبادل أراض متفق عليها و”متساوية في المساحة والنوعية؟!”، وإجراء المفاوضات على الحدود والأمن لفترة تتراوح من ستة إلى تسعة شهور دون إلزام كيان العدو بوقف عمليات تهويد واستعمارالأراضي، مع “ضمانات” من كيري بأن تقوم حكومة نتنياهو بتقليص البناء في المستعمرات خلال المفاوضات إلى أقصى حد، مع البدء بعملية ماسمي بـ” السلام الاقتصادي ” عل يد الرأسماليين الفلسطينيين المرتبطين بالسياسيات الاقتصادية والمالية للإمبريالية الغربية والرأسمال اليهودي/الصهيوني من أجل تحسن شروط النهب مجدداً وزيادة إفقار المواطن الفلسطيني تحت دعاوي كاذبة تعيد تخدير المواطن في عملية إنعاش لـ” اقتصاد فلسطيني” لايشعر المواطن بوجود مقوماته.

  حكومة المستعمرين/المستوطنين، استمرت في برنامجها التوسعي في ظل الحديث عن ضرورة “مراعاة” التوجهات الأمريكية التي تضمنتها خطة كيري حول المستعمرات /المستوطنات. وهذا ماأكدته مصادر عديدة داخل الكيان قبل بضعة أيام من أنه سيتم بناء 5 وحدات في مستعمرة جيلو قرب القدس، و55 وحدة في مستعمرة تلمون، و255 وحدة في حي نحالي تال، إضافة إلى بناء 17 وحدة في مستعمرة أمانا، و38 وحدة في مستعمرة كوخاف يعكوف، و87 في مستعمرة قلقال بالأغوار، و156 في مستعمرة الموغ القريبة من البحر الميت، و91 وحدة في مستعمرة الون. كل ذلك يتم في الوقت الذي تقوم فيه حكومة العدو بالموافقة على عطاءات جديدة لبناء أكثر من ألف وحدة سكنية بالمستعمرات. هذا الوضع دفع بـ”صائب عريقات” رئيس وفد  السلطة للمفاوضات لتوجيه رسالة لجون كيري يعبر فيها عن “اكتشافه الجديد!” (بدون وقف البناء الاستيطاني من الصعب رؤية كيفية تقدم المفاوضات باتجاه الوصول إلى اتفاق سلام). مضيفاً (إن قسماً كبيراً من المخططات إضافة إلى ضم 91 مستوطنة إلى مناطق “الأفضلية القومية”، تم اقرارها بعد اسبوع من الإعلان عن استئناف المفاوضات الأمر الذي لا يعتبر مصادفة ويشير إلى عدم جدية “إسرائيل” بما يتعلق بعملية السلام) .

   أما الأسرى، فقد وضعتهم سلطة الحكم الإداري الذاتي في مجال المساومات. وبدلاً من ضرورة إطلاق سراح الآلاف فوراً. بدأ الحديث عن إطلاق سراح أسرى ماقبل 1993 قبل إعلان اتفاق أوسلو، ليتحول ال104 أسير إلى رهائن (يتم الإفراج عنهم على دفعات وفقاً لمدى جدية المفاوض الفلسطيني) كما صرحت بذلك ” ليفني” رئيسة وفد العدو للمفاوضات.

  من أجل استكمال السير بطريق التنازلات، وكتنفيذ لسياسة قطع الطريق على رافضي تلك المسرحية العبثية الجديدة المتحركة فصولها بين العاصمة الأمريكية، والقدس وأريحا المحتلتين، أولئك الرافضين الذين واجهتهم قوات القمع بشوارع رام الله المحتلة بالضرب والتنكيل، أعلن رئيس السلطة (أن أي اتفاق سيتم التوصل إليه مع “الإسرائيليين” سيتم عليه إجراء استفتاء شعبي). والسؤال المطروح في وجه الجميع: متى يكون التنازل عن الوطن، أرضاً وقضية، مطروحاً في صناديق الاقتراع؟.هل يمكن لقوى سياسية “فصائل وحركات وأحزاب” وهيئات ومنظمات المجتمع المدني أن تجيب عليه؟ الجميع ينتظر – بأمل أن لايطول الانتظار – خطوات على أرض الواقع. لكن المؤكد، أن الجواب الواضح، سيكون ضمن مشروع أكثر شمولية، ستقدمه قوى صاعدة، جديدة، تتحرك في الوطن ومواقع اللجوء.

*كاتب فلسطيني