مفاوضات .. و”استيطان” مقابل أسرى !

عبداللطيف مهنا

بين يدي أنديك ، ممثلاً لراعيها الأميركي ، انطلقت قبل أيامٍ المفاوضات بين المحتلين الصهاينة والفلسطينيين الأوسلويين . اختارت اطراف الحدث أمكنتةً وأزمنتةً وأجواءه وجميعها لاتخلو من دلالاتٍ . بدايةً كان التمهيد الإحتفالي لها بين يدي راعيها في واشنطن ممثلاً بجون كيري ، اما الانطلاق ، ففي حضرة القائم عليها ، مبعوثه مارتن إنديك ، في القدس المحتلة ، حيث يشنِّف آذان المتفاوضين أزيز الجرَّفات الفاغرة أفواهها باحثةً عن بقايا من أشبارٍ في المدينة لم تهوَّد بعد . هذه الجرافات النشطة التي ليس لصدفةٍ تضاعف ضجيجها  بالتزامن مع انطلاقها ويتصاعد أكثر برفقتها . أما زمنياً ، فلدينا مفارقة أوسلوية بامتيازٍ ، هي أن دوران عجلتها يتصادف مع انقضاء آخر المواعيد المضروبة ، التي دأب معهود التكاذب الفلسطيني  حول إنجاز ما أصطلح على نعته ب”المصالحة الوطنية” على التبشير بها … التكاذب الذي يأتي إعلان قبول الحمدالله تشكيل حكومة سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود تحت الإحتلال في رام الله في يوم انقضاء موعده المستحيل كإجهازٍ على حديثه ولو إلى حين … بالمناسبة ، الحمدالله قبل المهمة وفق قواعد لعبتها التي كان قد استقال محتجاً عليها ، وسيشكِّل حكومته كما كانت قد شُكِّلت له في حينها ، حين ورثها شبه كاملةٍ عن سلفه ، وستظل حكومة سيدها وصاحبها رئيس السلطة ، المنتهية ولايتة وفق قانونها الأوسلوي ذاته ومنذ أمدٍ لايهم !

بالنسبة للأجواء التفاوضية ، يتم التقيد بالسرية التامة المتفق عليها ، تلكم المعلنة سلفاً من قبل كيري إبان احتفالية الإيذان بالإنطلاق في واشنطن . كان قد قرر أن له وحده حصراً امتياز حق الكلام باسمها وحولها ، وهاهم حتى احتفظوا بسرية مقر انعقاد مفاوضاتهم المقدسي . أما ماخلا ذلك فلكلٍ من طرفي التفاوض أن يختلق أجواءه الخاصة به ويوظِّفها ماامكنه ووفق مشتهاه . الصهاينة ، استبقوها ورافقوها بإطلاق سيلٍ عرمٍ ومعلنٍ من قرارات “الإستيطان” وتأكيد نواياهم مواصلة اتمام الخطوات المرصودة المتبقية لانجاز استراتيجية كامل التهويد المبتغى لما تبقى بعد ولم يهوَّد من فلسطين . قبل يومين فحسب من انطلاقها قرروا بناء 1200 وحدة سكنية اضافية في مستعمرات الضفة ، ومع انطلاقها أعلنوا عن 942 أخرى في مستعمرة جيلو جنوبي القدس . وصرَّح وزير اسكانهم اوري اريئيل عن نية بناء الآلاف منها فيما يعرِّفونها بالمستعمرات المعزولة ، وجزم في مقابلةٍ تلفازيةٍ أن “لااحد يملي علينا أين نبني” … مستجد هذه الهجمة التهويدية المُتقصَّد في تزامنه مع انطلاق هذه المفاوضات أبلغ نتنياهو حلفائه الأمريكان به مسبقاً قبل ثلاثة اسابيع ، هذا وفقما سرِّب لها ونشرته صحيفة “هآرتس” ، وقال مارك ريغيف المتحدث باسم حكومته حول هذا المستجد التهويدي ، “إن ذلك لن يغيِّرفي حال الخريطة النهائية للسلام” !

بالمقابل ، فلسطينيو التفاوض والتفاوض الى ماشاء الله كان كل مالديهم لايعدو ترداداً لذات الإكليشيه التي مانفكوا يعقبون بها على كل مستجدٍ تهويديٍ . رأى المفاوض محمد اشتية ، إنه إنما “يدل على عدم جدية اسرائيل في المفاوضات” ، اما كبير المفاوضين ، وصاحب نظرية “المفاوضات حياة” ، صائب عريقات ، فعبر عن تفاؤله “باستمرار المفاوضات” ، مع تحذيرٍ للطرف الآخر ، اقتبسه من مأثور اغاني السيدة أم كلثوم ، ” انما للصبر حدود ” !!!

لكنما هناك مااتفق الطرفان معاً عليه ليوظِّفه كلٍ منهما وفقما اراده منه ، إنه ادخال ألأسرى الفلسطينيين بازار المساومات . أطلق الصهاينة مع بدء المفاوضات 26 أسيراً من قدماء الأسرى ، 25 منهم كان من المفترض اطلاقهم منذ زمن الإقدام على جريمة توقيع اتفاقية أوسلو الكارثية ، ذلك كدفعةٍ أولى من اربعٍ لما لايزيد عن 104 من الأسرى أعلنوا عن ازماعهم على اطلاقهم على دفعاتٍ وبمايتفق مع سير المفاوضات . حاولوا استثمار هذا كتضحيةٍ ثمينةٍ منهم على مذبح التفاوض ، وتوظيفها كونياً كلفتةٍ انسانيةٍ مزعومةٍ يتسترون بها على وحشيتهم ، كما افادوا منها ، تحت ستارٍ من مزاعم تهدئة متطرفيهم ، في اطلاق العنان لجرافات “الإستيطان” . أما فلسطينيو أوسلو فحاولوا الإيهام بأن هذا الأفراج وفقما تم هو منجز تفاوضي ، وتعلَّةٍ تبررعودتهم للمفاوضات وفق شروط المحتل … وفي حين يحق لأسر الأسرى وذوي الأبطال المفرج عنهم الفرحة ، أشاعت سلطة رام الله  أجواءً احتفاليةً بالمناسبة تهدف للتغطية على الرفض الشعبي لهذا الفصل من فصول كارثة المسيرة التفاوضية التنازلية .

مفاوضات الرباعي ليفني وملوخو وعريقات وشتية وخامسهم إنديك ، رغم كل ماتقدم ، وما يشيعه الصهاينة عن حصيلتها من اجواءٍ تشاؤميةٍ ، ناهيك عما يمارسونه عملياً ، قد لاتعدم حظاً ، في ظل الراهن الفلسطيني والواقع العربي والسائد الدولي ، الأكثر رداءةً أو تهيئةً لتصفية القضية الفلسطينية ، في مفاجئتنا بمحصلةٍ تسفر عن دويلة نتنياهو الفلسطينية المقترحة ، بمزقها الكانتونية المبعثرة ، وحدودها المؤقته ، وشكل ما من ارتباطٍ بالأردن ، ونوعٍ من السيادة الأمنية والإقتصادية الصهيونية عليها ، وفوق هذا وكله ، منزوعة السلاح ، ومعترفة لنتنياهو بيهودية كيانة … وإلا ، يكفي نتنياهو “الاستيطان” المنفلت مقابل قليلٍ من الأسرى !!!