لماذا لم يستقيل د. البرادعي من منصبه كرئيس للوكالة الدولية للطاقة الذرية؟

دكتور محمد أشرف البيومي

أستاذ الكيمياء الفيزيائية بجامعتي الاسكندرية وولاية ميشجان سابقاً

واشنطون في 17 أغسطس 2013

نهنيء الدكتور البرادعي ليس لاستقالته وإنما لاكتشافه أن الاستقالة هي إحدي البدائل المتاحة عندما يتعارض المنصب مع قناعة الشخص. كيف نفسرعدم استقالته من منصبه عندما كان رئيسا للوكالة الدولية للطاقة الذرية طوال إثني عشر عاما. احتمالان: إما أن قرارات ومواقف الوكالة لم تشكل تناقضا مع ضميره ومبادئه سواء بالنسبة للعراق أو لإيران أو لإسرائيل التي أعلن أنه يفهم أو يتفهم (باللغة الإنجليزية “(“understand برنامجها النووي، رغم سرية البرنامج الإسرائيلي الذي يشمل عدة رؤوس نووية. أما الاحتمال الثاني فهو وجود تناقضات بين المنصب والضمير إلا أنه لم يكن قد اكتشف بعد أن الاستقالة هي مخرج مبدئي للتخلص من مثل هذه التناقضات، بل أنها أصبحت ضرورة يمليها الواجب الإنساني لمن يدافع حقاً عن السلام العادل ويعارض الحرب والدمار وقتل عشرات الألوف من البشر.

علي أية حال، لم أتفق مع د. البرادعي في أي وقت وذلك لمعرفتي بسيرته الوظيفية وتبعيته المزمنة لقوي الهيمنة التي انعكست علي العديد من مواقفه رغم محاولاته لإخفائها تحت ستار لغة دبلوماسية خادعة ومعلومات ناقصة. عندما حصل علي جائزة نوبل للسلام المشبوهة أعلنت في لقاء تليفزيونية ” كان موظفا لدي قوي الهيمنة الغربية وليس من المنتظر أن يتخذ مواقف مستقلة”. كما أن آخرين (د.سهير مرسي في الأهرام ويكلي) أعلنت بوضوح أن دماء أطفال العراق تلوث يديه لأنه كان يمكنه أن يقدم استقالته من منصبه كما فعل دنيس هاليدي السكرئير المساعد للأمين العام لهيئة الأمم المتحدة وفون سبونيك رئيس برنامج النفط مقابل الغذاء في العراق، وغيرهم. هؤلاء شاركوا في مهمة تخفيف معاناة الشعب العراقي من وطأة الحصار الغاشم ولكنهم أرادوا باستقالتهم تباعا فضح الأهداف الحقيقية للحصاروآثاره المدمرة وأن هيئة الأمم المتحدة هي التي فرضت الحصارفي المقام الأول وهي نفسها التي تبنت برنامج “النفط مقابل الغذاء” الذي أهدر سيادة العراق وأرغمها بالقبول علي شروط مجحفة.

كان منوطا بالدكتور البرادعي بصفته مسئولا عن الوكالة الدولية التي استندت إلي تقاريرها قوي العدوان علي العراق أن يقدم استقالته بدلا من إعطاء رخصة للاحتلال بإقراره ” أن أسئلة لا زالت قائمة” لم تجيب عليها العراق. لمن يريد التأكد من ذلك عليه مراجعة خطاب كولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق في هيئة الأمم في 6 فبراير 2003والتي قال فيها نصا إن أحد أٍسباب دعوته للاجتماع هو أن يؤيد جوهر تقييم البرادعي وبليكس. ” الفقرة المحورية ” التي انتقاها باول في تقرير البرادعي بتاريخ 27 يناير 2003 والتي هي المقصودة أساساً من التقرير هي : أن العراق ” لم يقدم معلومات جديدة مهمة بالنسبة لأسئلة لا زالت قائمة منذ 1998″. ورغم إشارة التقرير المطول ولعدة مرات لتعاون الحكومة العراقية مع فرق التفتيش والتي قد يستخدمها البرادعي ومؤيديه للتدليل علي عدم تعاونه في هذا المضمار فلا شك أن البرادعي قدم الضوء الأخضر المطلوب منه. وحتي إذا ظن البعض أن كولن باول خدع البرادعي باختياره “الفقرة المحورية” فلماذا لم يستقيل بعد أن تبين له ذلك؟

وإني أتسائل، هل قرأ جيداً مؤيدوا البرادعي هذه التقارير؟ والسؤال الأهم علي أي أساس كان الترحيب بقيادة د.البرادعي الذي جاء فجأة لمصر بعد طول غياب؟ وهل يصح لمثقف أو لقائد سياسي أن يتخذ موقف هام دون معرفة؟

لم يحتج د.البرادعي أو يعترض أو يدرس استخدامات سلاح اليورانيوم المنضب التي تنشر المواد المشعة والتي يعتبر منعها من المهام الأساسية للوكالة الدولية التي يرؤسها. هذه الأسلحة التي أدت وتؤدي إلي أمراض خطيرة للعراقيين وأمراض وراثية لأجيالهم القادمة وأيضا لكل من تعرض لغبار اليورانيوم 238، U-238. لذلك لا نستغرب اعتراض يابانيين مناهضين لاستخدامات السلاح النووي علي منحه جائزة نوبل.

وهل يتسق كل هذا مع ما ذكره المتحدث الاعلامي لما يسمي جبهة الإنقاذ في خطاب استقالته اليوم بأن “د. محمد البرادعي الرجل صاحب المباديء والضمير والنظرة الثاقبة”

تصعدت معارضتي للبرادعي عندما قرر أن يستغل انبهار مثقفين مصر به كحائز علي جائزة نوبل وعندما هبط علي الساحة المصرية ليلعب دورا قياديا. لم يدرك البعض أن صناعة النجوم التابعين هي إحدي أدوات قوي الهيمنة التي أصبحت تصدر لنا نجوما في المجال السياسي والعلمي وقضايا التنمية، ويمكن تسميتها ب” ظاهرة النجوم الوكلاء”.

اندفع البعض في هوجة الانبهار اللاموضوعي بالنجومية المصطنعة وذهبوا لاستقبال د.البرادعي في المطار وانضموا للجمعية المصرية من أجل التغيير برئاسته والتي شملت اتجاهات متناقضة في قضايا أساسية والتي حملت عناصر فشلها منذ تكوينها. ثم أصبح رئيسا لجبهة الانقاذ الوطني التي لا تختلف كثيرا عن سابقتها. ومرة أخري عين نائبا للرئيس المؤقت حتي يكون أداة اتصال جيدة بقوي الهيمنة الغربية.

رغم كل هذا فإن الجماهير المصرية لم تنخدع ولم تقتنع بالبرادعي قائدا للتغيير المنتظر، كما أكدت النسبة الضئيلة التي حصل عليها في استطلاعات رأي عديدة مما اضطره لإعلان انسحابه من انتخابات الرئاسة الأخيرة.

يبدو أنه آثر الاستقالة عندما لاح في الأفق تناقض بين الجكومة الانتقالية وقوي الهيمنة التي عارضت فض الدولة المصرية لاعتصام رابعة العدوية والنهضة بالقوة وتصديها لبوادر الإرهاب ضد المواطنين خصوصا الأقباط والمنشآت والكنائس. جاء في خطاب استقالة د. البرادعي ما يلي : “لقد أصبح من الصعب أن أستمر في حمل المسئولية قرارات لا أتفق معها وأخشي عواقبها ولا أستطيع تحمل مسئولية قطرة واحدة من الدماء أمام الله ثم أمام ضميري ومواطني خاصة مع إيماني بأنه كان يمكن تجنب إراقتها”. ألم يكن جديرا بالدكتور البرادعي أن يكون هذا هو نص خطاب استقالته عام 2003 كرئيس للوكالة الدولية عندما أصبح واضحاً أن العدوان علي العراق أصبح مؤكداً؟؟؟

أعتقد أن سلبية ظاهرة البرادعي لا تكمن في التأييد اللاموضوعي والمبني علي الانبهار بجائزة دولية وإنما في تبني أولويات أجنبية علي حساب التأكيد علي قضايا الاستقلال والسيادة الوطنية.