العميد د. امين محمد حطيط
بداية لا بد من التذكير بالقاعدة الامنية الاساسية التي تبلورت بعد التطور العلمي في مجالات النقل و الاتصالات، و هي التي تؤكد على الامن الاقليمي اولاً و ترجيحه على الامن القطري الوطني،ف” الامن الموثوق هو ما تتضافر قوى الاقليم على صنعه ” ثم تتكامل مع الاقاليم الاخرى لانتاج الامن الدولي و السلام العام الذي يستفيد منه الجميع و باقل قدر ممكن من الجهود المبذولة لتحقيقه. لكننا اليوم في منطقة الشرق الاوسط في وضع لا نجد عاقلاً يتحدث عن امكانية ارساء امن اقليمي يركن اليه في هذا الشرق الملتهب بنار “الحريق العربي” التي اضرمها قادة المشروع الصهيو- اميركي في المنطقة و اطلقوا عليها زورا تسمية “الربيع العربي”.
و بالتالي و بالنسبة لما يعنينا مباشرة في لبنان لا يمكن ان ننتظر تحقيق الامن الاقليمي حتى نصنع امننا كجزء منه و تبعا له، رغم ان تاريخنا القريب جدا يشهد باننا نجحنا يوما في ذلك، حيث صنف لبنان في اذار 2003 بانه احد الدول الاكثر امنا في العالم كما ورد في تقارير الانتربول. اما اليوم و مع نار في سورية تنتسب الى “الحريق العربي “، و مع سعي حثيث من قبل المسؤوليين عن النار الارهابية هذه و اصرار منهم على الحاق لبنان بدائرة النار تلك، و بعد التفجرين الاخيرين في الضاحية الجنوبية لبيروت حيث مجتمع المقاومة، بات السؤال الملح الذي يطرق الاذهان و يؤرق المعنيين يتمحور حول امكانية قطع الطريق على الارهابيين و قادتهم و سادتهم و منعهم من متابعة جرائمهم في الضاحية و سواها من مناطق احتضان المقاومة، و منها الى كل لبنان فهل يمكن ذلك ؟
نعود و نؤكد و من منطلق اهمية الامن الاقليمي و ارجحيته على القطري و بالتالي قبل ان يعود الاستقرار الى سورية، و تنطفئ النار الارهابية المشتعلة هناك، يبقى لبنان عرضة و بشكل اكيد لتداعيات تلك النار و مفاعليها و لكن هذا لا يعني ان نستسلم للواقع و القدر و ننتظر…لان بالامكان خفض سقف المخاوف و تعقيد مهمة الارهابيين المجرمين الى الحد الذي يجعل مخاطر العمليات الارهابية من الحجم الذي يحتمل و يمكن استيعابه في مرحلة اولى ثم تطوير الجهد الى الحد الذي يجعل اصحاب المشروع و منفذيه يدركون عدم جدوى المتابعة نظرا لعدم التناسب بين الجهد المبذول و النتائج المحققة.
و تحقيقاً لتلك الاهداف، ينبغي ان يكون العمل لتفعيل دوائر الامن الاساسية الثلاثة المعتبرة لارساء اي امن وطني قطري كما هو معتمد في علم الامن و مكافحة الجريمة المنظمة او الارهابية و هي :
1) الدائرة الرسمية العامة : و تشمل اجهزة الدولة القضائية و الامنية و العسكرية التي عليها ان تعمل جميعها وفقا لاستراتيجية امنية وطنية واضحة و محكمة، و بذهنية التنافس و التعاون و التكامل في الان ذاته، و ان يكون القرار السياسي الحاسم و الواضح مظلة متينة لعمل الجميع، كما تكون الرقابة الرسمية يقطة على الدوام للتدخل للتصحيح و المحاسبة على اي انحراف او تلكؤ او تساهل.
2) الدائرة السياسية بمختلف مكونانها الرسمية و غير الرسمية، بما في ذلك الاحزاب و الهيئات و المنظمات الاهلية، التي عليها ان تتخذ كل بمفردها و على صعيدها التدابير التي تمنع تشكل البيئة الحاضنة للارهاب، و ان تمتنع عن تشكيل غطاء سياسي للارهابيين او تضع العوائق و الحواجز التي تحول دون تعقبهم و ملاحقتهم. و هنا لا بد من التنويه بدور الاعلام و خطورة ما ينتج عن المواقف السياسية التي يطلقها هذا السياسي او ذاك في معرض التحريض الطائفي و الغرائزي و تشنيج الاجواء لان كل موقف من هذا القبيل هو دعوة لارتكاب جريمة.
3) الدائرة الشعبية و يعنى بها مجموع افراد الشعب الذين عليهم العمل وفقا لقاعدة ” كل مواطن خفير” و يكون هؤلاء الى جانب الاجهزة الامنية و العسكرية الرسمية من اجل عرقلة تنفيذ الجرائم و المساعدة على اكتشافها قبل تفيذها، و اخيرا تمكين الاجهزة من ملاحقة الفاعلين المرتكبين باسرع الطرق و اقصر الاوقات. هذا فضلا عن وجوب تقبل الاجراءات الامنية المتخذة من قبل المختصين رغم انها ترهق الشعب في حركته و نشاطه اليومي.
و على هذا الاساس و اذا اردنا امنا وطنيا موثوقا، لا بد من العمل على الدوئر الثلاث معا لكننا و للاسف الشديد نجدنا في الحالة اللبنانية و بكل موضوعية و و اقعيية، غير قادرين على الوثوق بفاعلية الدائرة الثانية اي الدائرة السياسية مع وجود انقسام لبناني عامودي و وجود فئة لبنانية التزمت كليا مع المشروع الغربي، و ترى ان استهداف حزب الله و المقاومة و بيئتها الحاضنة هو جزء من مهامها في تنفيذ هذا المشروع، كما انها وبفجور واضح لا تستنكف عن المجاهرة في دعم الارهابيين و تقديم العون كما الغطاء السياسي لهم و تحول دون ملاحقتهم…..لقد اثرت هذه الفئة المتمثلة بتيار “مستقبل الحريري” المرتبط عضويا و بنيويا بالسعودية، ومعها التنظيمات السلفية اثرت في الدائرة الثانية الى حد جعلها عبئا على الامن اللبناني، و هو عبء لا يبدو ان التخفف منه سهل في المستقبل المنظور.
اما على الصعيد الدائرة الاولى فاننا نجد تمددا لتيار المستقبل ذاته للحد من فعالية هذه الدائرة، حيث ان هذا التمدد احدث التناقض المريع بين الاجهزة الرسمية، فبقيت الاجهزة التي لم تصل اليها يد تيار المستقبل اجهزة موثوفة تعمل من اجل امن وطني للجميع و تبذل قصارى جهدها في سبيل ذلك و ياتي في طليعتها الجيش و مخابراته كما و الامن العام، اما الاجهزة الاخرى من امنية او قضائية حيث تسرب اليها النفس الحريري فقد باتت غير ذلك و باتت لا تبدي الاهتمام نفسه بالامن ان لم تكن هي الاخرى عبئا عليه.. ما جعل المعنيين حذرين منها مكتفين بالاستفادة مما هو وطني موثوق، و يتجاوزن ادوار الباقين بالمقدار المتاح مع استمرار الحذر منه.
و يبقى اخيرا الدائرة الشعبية و هي اليوم ما يعول عليه كثيرا الى جانب بعض الاجهزة الامنية و العسكرية و القضائية الموثوقة كما ذكرنا.و يكون مطلوبا من فئات الشعب و الافراد المساهمة في العملية الامنية بتدابير سلبية او ايجابية كل وفق استطاعته و لكن هذا كما يبدو يزعج تيار المستقبل الذي لا يرتضي امنا للمقاومة و بيئتها، و لهذا نجد محاولة حريرية جديدة لتعطيل هذه الدائرة ايضا و شلها او الحد من فعاليتها بذريعة رفض” الامن الذاتي “، و رفض اقامة الغيتوات و المربعات الامنية االمقفلة، و هو كلام حق يراد منه باطل خاصة و اننا اذا راجعنا مساحة المناطق المقفلة على الامن الذاتي الحريري و ملحقاته من الاتباع لتوصلنا الى مساحة تربو على مساحة الضاحية الجنوبية كلها.
و هنا يجب ان يكون من البديهي ان نذكر برفضنا الدائم لفكرة “الامن الذاتي” لاي فئة او منطقة، لكن ينبغي ان يترافق هذا الرفض مع رفض عجز الدولة و تلكوئها عن حفظ امن المواطنيين كما و رفض اصرار فريق من اللبنانيين – في طليعتهم تيار المستقبل – على التحريض على الفتنة الطائفية و تشكيل بيئة حاضنة للارهاب و غل يد الدولة عن قمعه و ملاحقة الارهابيين. اما ان نكتفي برفض فرع من هذه المرفوضات و العمل بالباقي فيكون الامر بمثابة من يسهل القتل و يشجع عليه و هذا ما يفهم اليوم من مواقف سياسيين في تيار المستقبل. فهل يعي هؤلاء مغبة عملهم و مخاطره، و يعملون مع شركائهم في الوطن لمنع سفك الدماء على ايدي الارهابيين و تعطيل حركة الحياة و تعقيد مسائل المواطنيين في معرض الحد من الجرائم الارهابية ؟ ام انهم مستمرون في الاضطلاع بمهامهم و استباحة امن المقاومة و بيئتها الحاضنة من اجل الضغط عليها خدمة للمشروع الصهيواميركي الذي تجندوا له منذ العام 1992 سراً و منذ العام 2005 علانية ؟ و لكن هل يعلم تيار المستقبل انه من المستحيل الاستمرار في سياسة “النار المطوقة “؟
:::::
جريدة البناء بتاريخ 2282013