أحمد حسين
منذ خروج الأمريكان من أمريكا ، والعالم يعيش حالات متواصلة من دهشة الوعي ، إزاء بعد هؤلاء القادمين السلوكي عن المألوف . وكان أبرز ما يثير الدهشة في سلوكهم ، عفوية استخدامهم للعنف غير المبرر ، والتعالي السياسي ، والمنطق المختلف للعلاقات البينية . ونمت هذه الظواهر السلوكية واتسعت بسرعة مذهلة ، خاصة في مجال العنف . بعد مذبحة الأوروبيين في الحرب العالمية الثانية ، والتي كان الأمريكان يملكون السيطرة الكاملة على مجرياتها وخفاياها ، اشتدت ظاهرة العنف التلقائي ، والطغيانية السيادية للقوة الأمريكية المتفردة ، لتبلغ في أقل من عقدين من الزمن عنفوانا فريدا من السيادة معترفا به في الإجماع الدولي . وتراجعت حالات الإستهجان للفظاظة الأمريكية ، من جانب السيادات الغربية ، ما عدا الديغولية الفرنسية التي ما لبثت أن غربت ، لتتحول هذه الفظاظة إلى عادية المشهد العالمي السياسي والعسكري . وأصبح التحكم الكيفي والنوعي لأمريكا ، بعد إسقاط الإتحاد السوفييتي أمرا مسلما به بالقسر والتبني من جانب كل الدوليين . أما ديموغرافيات الجغرافيا الأفريقية والآسيوية فقد عوملت على أنها انظمة شبه متمدنة أو شبه همجية ، تعيش في جغرافيات تعتبر مصدرا للثروة في الغرب الأمريكي الجديد ، وطرقا لمواصلاته البعيدة . وتناول الغرب الأمريكي هذه الديموغرافيات جميعها بوصفها موروث استعماري قديم يجب أن يجدد دوره اللوجستي التابع باستمرار . كل هذا منطقي ومتوقع في العرف السيادي الإمبريالي ، الذي ظل يشكل عقل العلاقات بين البشر . ولكن هذا التناول العرفي المألوف والقديم لم يستمر طويلا . فبعد خلو الساحة العالمية من أية مقارنات للقوة ، بعد حركة الإسقاط السوفييتية بدأ عقل القوة المنفردة يشكل ، منطقيا وجدليا ، واقعه السيادي الجديد على أسس جديدة . وبدت التجربة ذات فرادة غير تاريخية ، وبدون سوابق معرفية يمكن القياس عليها ، فلم يحدث من قبل أن انفردت قوة واحدة بمطلق القوة في التاريخ المعروف ، من حيث كونها قوة نوعية لا تقابلها قوة نوعية أخرى على الساحة . لكن المذهل ، في ما يمكن تسميته مقلبا من مقالب الصدفة ، أن الأمريكيين وحدهم هم الذين كانوا قد اختبروا مثل هذا الترف المربك أثناء حربهم الإستيطانية الخلفية مع الهنود الحمر.
كان الهنود الحمر ، كما تصورهم السينما الأمريكية ، يثيرون الكثير من الضجيج إذا خرجوا لأي شأن من الشؤون حتى ولو كان الحرب . كانوا يفعلون ذلك حينما يذهبون إلى الصيد أو يعودون منه , وحينما يتزاورون ، أو يذهبون لزيارة طواطمهم ، أو يجرون سباقات الخيل بينهم ، أو يذهبون لمحاربة أعدائهم . ولنقل أن هذه كانت طريقتهم في إعلان حضورهم ، كالنحنحة عند العرب . ولكن المستوطنين البيض كانوا يقتلونهم في جميع الحالات التي يرونهم فيها , ويقولون : من يعرف لماذا حضروا ؟ وهكذا أصبح مجرد حضور الهندي الأحمر سببا كافيا لقتله احترازيا من جانب المستوطنين . وبالمقابل أصبح مجرد حضور المستوطنين البيض من أوروبا إلى أمريكا يتضمن ، إلى جانب الحضور، قتل الهنود الحمر عند رؤيتهم ، لتحييد حضورهم الذي لايعرف سببه . هكذا تكونت المعادلة التاريخية ” المنطقية ” ، لقتل المستوطنين للهنود احترازيا لمجرد الحضور . لقد قدم ترف القوة المفرط ، لكوامن النفس المريضة بشغف الثروة والتملك ، اقتراح الجريمة المجانية ،المتمثل في إبادة الهنود الحمر ، فتلقفها منطق المجانية والسهولة والجدوى ، وقدمها لمؤهل الجنوح الهمجي لدى الرعاع وأصحاب السوابق والمجرمين المحررين من السجن ومرسليهم ومموليهم من الدول والأفراد المصابين بجنون الجشع ، فتم تبني هذا الإقتراح على الفور . كان اقتراحا مغريا من حيث سهولة التنفيذ بشكل خاص . فقد كان بإمكان بندقية ونشستر واحدة بيد مستوطنة بيضاء ، مع كمية كافية من الطلقات ، أن تقضي على جيش صغير من الهنود حاملي السهام المسمومة التي لا يتجاوز مداها الخطر عشرين مترا . ولا يمكن القول أن المستوطنين البيض كانوا سيرغبون في معادلة قتل الهنود على الحضور ، لو كانت معادلة الخسارة في المواجهة ستزيد عن(1 – 100) . لذلك فبمدى ما أن الهنود كانوا ، بالضعف ، ضحية حضورهم على أرضهم ، فإن المستوطنين كانوا ، بالقوة ، ضحية أخلاقية لحضور الهنود على أرضهم بدون معرفة سبب حضورهم . هذه التجربة الفذة للقوة المطلقة أمام الضعف المطلق ، استطاع المستوطنون البيض حلها تحت تأثير الضغط المنطقي والجدلي الذي تعرضوا له من جانب عقل القوة ، بطريقة فذة ، على شكل معادلة فذة هي ” القتل الإحترازي على الحضور ” بدل الإبادة .
القوة معروفة للجميع بمعناها المجرد ، وهي القدرة على تكوين المواقف والإرادات والأفعال التي تحتاجها القوة نفسها وليس مالكها كما يعتقد البعض . توفر القوة يوقظ حتم الطغيان ، والطغيان التزام بمنطق القوة . فالقوة ليست القدرة على القتل ، بل تبني القتل كثقافة ومنطق وجودي خالص . وهكذا فإن القوة هي التي تملي على مملوكها افعاله ومواقفه ، بحيث يمكن أن يقال أن القوة هي أقوى مبررات الفعل حتى في منطق العقل الإجتماعي . فهذا العقل يعترف أن المبرر الأخلاقي والإنساني هو خيار في جميع حالاته ، بينما الطغيان ليس خيارا في حضور القوة . وهو في نظر نيتشة يساوي الروحية الأخلاقية الملزمة للقوة. وهذا قد يفسر الشبه بين النازية والأمريكانية ، ولكن أوروبا تأثرت بالنيتشوية قصرا . أما لدى أمريكا فالأسباب مختلفة تماما ، كاختلاف الفلسفة عن الواقعة الوجودية . الأسباب كلها نابعة من التجربة الميدانية ، وليس من النظرية . ولكن نتائج كل تجربة تتحول إلى نظرية في النهاية ،إلى أي حامل معرفي ، وعلى نفس الأساس التبادلى فإن كل نظرية ، تتحول في التطبق إلى تجربة . وهكذا فقد تحولت التجربة الميدانية لإبادة الهنود الحمر إلى نظرية ” القتل على الحضور ” في الوعي المعرفي الأمريكي ، الذي فوجيء بالحاجة إلى تحويلها إلى تجربة ميدانية مرة أخرى . الظروف الموضوعية متشابهة ولكن النتائج هذه المرة لا تتعلق بهنود أمريكا شبه المجهولين ، بل بكل هنود العالم ، أي بالمستقبل والمصير الإنساني كله . فهنود أمريكا لم يطالبهم أحد قبل قتلهم على الحضور ، أن يبصقوا على طواطمهم ، لأن النظرية لم تكن قد تبلورت بعد . ولكن الأمر مختلف الأن من عدة وجوه . النظرية هي التي تقود التجربة . والمعنيون كما قلنا هم كل هنود العالم . ولكن الإختلاف الجوهري هذه المرة هو أن الذي يتصدر المشهد هو الوعي الأمريكي الخاص ، وليس النص الإملائي للتجربة ، أو النص المعرفي للنظرية . السؤال ليس كيف ستستفيد القوة من النص المعرفي للنظرية ؟ لأن المتاح أكبر من ذلك بكثير . المتاح هو كيف تستفيد القوة من نفسها وتحقق نصا جديدا متجاوزا للمعرفة ؟ كيف يصبح الوعي الأمريكي نصا معرفيا للوعي ؟ ويبدو أن المرافعة الوعيوية للمحافظين الجدد قد تمت على النحو التالي :
لا يوجد خيارات في القوة سوى الطغيان . وسواء كان هذا هو منطق الحقيقة الوجودية أو منطق القوة نفسها ، فأن منطق الحركة يحدده ممثل القوة . لا يمكن أن نبقى مجرد مستوطنين مثل غيرنا في هذا العالم ، بينما المتاح هو أن يكون العالم لنا . إن المستوطنين البيض تبنوا الإبادة كضرورة مرحلية فقط ، أي إلى حين توقف الهنودعن الحضور . لقد كان هذا حينها مطلب القوة الموضوعي في ضرورة الظرف الموضوعي ، وكلا الأمرين متغيران تتطوريين ، ومن غير المتاح موضوعيا التوقف عندهما . نعترف أن هذا الكلام وما بعده سيثير ذعر الآخرين من أتباع الوعي القديم . ولكننا ننفذ وعي الواقع ولا نقرره . نحن متورطون في كوننا النخبة الطبيعية للقوة في عالم ليس فيه نخب غيرنا . يجب الإعتراف لناعفويا بأن هذا التحدي الذي نواجهه وحدنا بحكم التجربة والنخبوية والوعي والقوة ، أشبه بوثيقة تكليف تطوري ملزم ، بقيادة التاريخ نحو استقراره الطغياني المنظم الذي تحتمه طبيعة التطور . نحن أقوياء بما فيه الكفاية للقيام بهذا ، وسنقوم به . هذا هو حتمنا التطوري وليس حتمنا الإمبراطوري كما يعتقد البعض . سنخضع لإملاءات الواقع وضروراته ، وإملاءات وعينا الموضوعية بدون الإصغاء لأي اعتراضات ، وتحت طائلة التناول الإحترازي بالقوة اللازمة . ( يمتنع الشك على الإطلاق في هذه المعادلة ، لأنها كانت مستوجبا تاريخيا لا بد منه من ناحية ، ولأنها الآن تشكل مشهدية الواقع العالمي المؤكدة بيقين الرؤية الواضحة من ناحية أخرى . من يتصور غير ذلك ، فعليه أن يكف عن التصور ، ويمارس التفرج والإستماع والإستمتاع البيولوجي أمام شاشة قناة ……)
وهكذا فعل زرادشت !
بدأت أمريكا حركتها المنهجية بأجندتها العربية . تناولت الديموغرافيا والجغرافيا والشواهد الحضارية والتاريخية والعقل والثقافة والوجدان التراثي والهوية بالتدمير المنهجي غير المسبوق ، والذي حول بهمجيته وفظاظته المجانية كثيرا من شعوب التخلف العالمي إلى نعاج مذعورة كما أرادت . فقد دبرت ارتكابها للكذب في حرب العراق ، ثم أوعزت بكشفه لمن شاركوا فيه من رجالها ، وأتبعت ذلك بالإعتراف به على أعلى المستويات ، لتقول للعرب وغيرهم من الشعوب : نحن الدولة الوحيدة القادرة على مطلق الفعل، ، ولا تقيم أي وزن لمفهوم الجريمة . أو أية مفاهيم لغوية تفكرون بها ، نحن نطيع أوامر القوة والسيادة والمصلحة فقط ، فاحذروا مخالفة ما نريد . اثبتوا هذه الأمثولة في العراق ومعظم دول الربيع العربي ويعودون عليها اليوم في سوريا . ونجحت أمريكا أن تفهم الجميع أنها حضور مطلق لاستحقاقات القوة الخالصة ، وحضور معادل للقتل المجاني ، كلما اقتضت حاجتها ذلك . ألقوة عقل الوجود .
لقد سارت أمريكا منذ واقعتها التاريخية بموازاة العالم ، وسار العالم بموازاتها . كان هناك سياقان تطوريان أحدهما عالمي تاريخي إنساني تطوري تملؤه التناقضات وتلاعبات الوعي الطبقي . وسياق مفرد مختلف جذريا ، له تاريخه الثقافي المختلف ، ودينامياته التطورية الخاصة ، وعقله النشوئي المختلف ، يوازي الحركة التطورية بالنخبوية الذاتية ، ويمجد القوة بوصفها سيدة كل العلاقات البشرية ، حيث كل علاقة مهما صغرت ، تتضمن طغيانا مطلقا مستوجبا بالحتم من جانب القوي على الأقل قوة ، وبالتالى فإن عقل التاريخ الطبيعي هو القوة ، وعقله النظامي هو الطغيان .
السياق الأمريكى سهل ومباشر ، له عقل عملي خالص في التناول ، خال من معوقات التدخل الإنسانى في الفعل ، مركزه النخبة الطبيعية التي تملك القوة ، وتحقق نظام الطغيان .
والسياق الثاني التاريخوي له حركة بالغة التعقيد ، ذات ثقافة تلاعبية تؤنسن العلاقات بين الناس تارة بالقانون ، وتارة بالأخلاق الفلسفية ، وثالثة بالأخلاق الإجتماعية . تزعم أن الحياة هي هدف ذاتها ، والإنسان مركزها ، والعمل قوتها والأستغلال والطبقية وانعدام المساواة أهم مساوئها . فيها آلام وطغيان واستبداد ، ولكن فيها أيضا جمال وسعادة وإنسان يحاول أن يجعلها أفضل وأجمل وأقل صعوبة ويناضل من أجل ذلك ، ويعلم أن الخلاص في ” الحرية للجميع “. الأقوياء فيها يقتلون ويعتدون ويستغلون ، ولكنهم لا يتباهون بالقتل ، ولا الإعتداء ، ولا الإستغلال ، ولا يقتلون على الحضور . وينكرون ذلك أو يعتذرون بالمبررات التافهة ، ولإثبات ذلك يشترون الورد واللوحات الجميلة بالخبز و..و..و.. إلخ . ويسمون كل ذلك الحضارة الإنسانية بموافقة شخصية من ماركس .
والإشكال الجوهري بين السياقين يتلخص في ثلاثة محاور رئيسية :
3- محورالتبرير الذي يرفضه السياق الأمريكي بشدة ، ويقول أن القدرة على الفعل هي مبرر الفعل، كل فعل مبرر بحصوله .
2- محور “القتل على الحضور” : يقول السياق التاريخي أنه لا يمكن القبول بهذا . فيجيب الأمريكان إن هذا ليس خيارا للقاتل أو المقتول . إنه فعل القوة في الحركة ، وليس شيئا للتقييم أو الإختيار.
3- محور النظام : يقول العالم التاريخي ، إن الطغيان ليس نظاما وإنما هو إملاء من جانب واحد . فيقول الأمريكان : بالطبع ! ليس هناك سوى حركة واحدة في الطبيعة ، هي الإملاء من جانب واحد . القوة التي تملي الطغيان . أما الخلاف الحاصل بيننا فمصدره من الذي يملك القوة ، أنتم مجتمعين أم نحن ؟
لذلك فإن إشكال الضعف العالمي أمام قوة أمريكا ، لم يعد إشكالا تفصيليا اقتصاديا أو سياسيا أو طغيانيا كما يزعم المحللون والمفككون التفكيريون . الإشكال الحقيقي هو أن أمريكا تملك القوة وأن الطغيان أصبح حتميتها . ولا يمكن أن تسمح منطقيا بظهورمشاريع أخرى للقوة في العالم ، يمكن أن تؤثر على انفرادها بها ، فلجأت إلى تدمير هذه الظواهر احترازيا ، وطبقت عليها قانون ” القتل على الحضور ” . كل مشاريع التنمية في الدول الأخرى يجب أن تتم بشراكة ورعاية أمريكية ، سواء في دول التوابع أو دول التحالف أو الدول المارقة . ثمن المروق ليس له حدود ، بل هو مفتوح أمريكيا حتى على” القتل المجاني على الحضور” ، وليس القتل الإحترزي فقط . وكما قلنا ، حدث في كثير من الجغرافيات الأفريقية والعربية أن أبيدت دول من الوجود الفعلي وأصبحت مجرد مخيمات لجوء لمن تبقى . حدث مثل هذا في العراق وليبيا والصومال ، ويحدث مثله الآن في سوريا ، ونفذت إلى جانب القتل الإحترازي ، أشكالا جديدة من القتل مثل القتل المخبري والتجريبي والوبائي والتعقيم والحروب الأهلية والمجاعات ، على عشرات ملايين البشر في هذه الجغرافيات . ولن أسترسل فيما تفعله أمريكا احترازيا مع دول التحالف الأوروبية والدول النامية الرخوة ألتي أصبحت جزءا من الاقتصاد القومي الأمريكي ، فالمقال لا يتسع لذلك . ولكن يخطيء من يظن أن هناك وجود عالمي كبير غير مرتهن احترازيا لأمريكا ، فقد اكتسب الإحتراز شخصيتة المستقلة عن التبرير ، واصبح يعامل في العقل الأمريكي ، كما لو أنه دليل عدوان مباشر قادم يجب مواجهته بحرب استباقية مباشرة .
هذه هي أمريكا سيدة المصير العالمي . طغيان منطقي لا يمكن تداركه حتى عالميا الآن . فمن الصعب تخيل أي سيناريو غير كارثي لهذا التدارك ، ولكن وبنفس المدى ، يصعب أيضا تصور سيناريو غير كارثي للسكوت عما تفعله أمريكا . ولكن كارثية الممانعة العالمية ، لو أمكن تصورها ، ستكون ربما أقل كارثية من السكوت . السكوت على منطق ” القتل على الحضور ” ، لن يكون أقل دموية من الممانعة ، ولكنه أيضا سيكون انتصارا أبديا لقوة أمريكا وطغيانها . سيسفر السكوت عن بلوغ أمريكا ما تريد ، وهوعالم بدون إنسان ، خال من أية فوائض بشرية لا حاجة لأمريكا بها .
باختصار ، الخيار الوحيد الذي تتركه أمريكا للكائن البشري ، هو أن يعيش ، إذا عاش ، قردا بين جماعة من البشر ، أو إنسانا بين جماعة من القرود .
ولكن مادام أنه لن يكون هناك تيار مواجهة عالمي أو شبه عالمي لأمريكا ، ولا شيء يفيد أقل من هذا ، فليس أمامنا خيار آخر غير الرضوخ . لن يخسر البشر في النهاية سوى إنسانيتهم التي خسروا معظمها حتى الآن . وحينما يتم ضبط الحد الديموغرافي على متطلبات الحاجة العملية للأيدي البشرية في عصر العظمة التكنولوجية ، فلن يكون هناك مشاكل في الاكتفاء والرفاه البيولوجي ، فبعد الشطب المستمر للأفواه الفائضة ،وبعد أن يصبح التكاثر في ظل تطور الآلة تنازليا، فإن الإستهلاك لن يعود مشكلة ، وسيبلغ البشر نرفانا السعادة البيولوجية التي تحققها الوفرة الفائضة . وسيصبح القتل على الحضور نادرا ، وغير مباشر ، يقوم على احترازية التكاثر . عالم يوتوبي كهذا سيكون تعويضا مثاليا عن عالم جحيمي كالذي نعيش فيه اليوم . يكفي أن نقارن صورة عالم الغد الذي يسكنه بضعة ملايين من العبيد المرفهين على أكثر تقدير ، بصورة عالم اليوم الذي نعيش فيه بانتظار الموت قتلا أو جوعا أو عطشا. أليس مليون سوري يعيشون في غوطة دمشق وحدها ، بين بساتين الوفرة في الفرح البيولوجي ، أكثر منطقية من ثلاثة وعشرين مليون سوري يعيشون اليوم تجربة “القتل على الحضور” بالصورة الرهيبة التي نراها ؟
ليس هذا اقتراحا من جانبي . إنه التصور المنطقي للحياة في عالم تديره وتسيطر عليه أمريكا . وإذا كان هنود العالم المعاصر ، بعد أن قطعوا شوطا بعيدا نحو الحرية حتى وصلوا إلى الماركسية ، سيختارون واحا من اقتراحي أمريكا ، فذلك سيوحي للعقل أن تيار التاريخ الإنساني هو الذي فشل ، وليس تيار المحافظين الجدد .
لا يبدو لي أن الإنسان قد تجاوز بيولوجيته لصالح إنسانيته . فلو كان ذلك قائما ، لما كان هذا السكوت ، وانتظار ما ستفعل أمريكا بسوريا قائما على مستوى ” أحرار العالم ” أو ” أحرار العرب ” على الأقل قائما . الذي يحاول ردع أمريكا بالإحتجاج والتظاهر ، هو قرد يحاول أن يبدو إنسانا . أنا لا أنصح أحدا أن يدافع عن سوريا . أنصح كل حر أن يدافع عن نفسه ووطنه وإنسانيته ، فسوريا لا تفعل سوى ذلك . ,لكن القرد التحرري وحده ، لا يعرف أنه حينما يدافع عن سوريا فهو يدافع عن نفسه ووطنه وحريته . وأن الشعب السوري الذي يدافع عن حريته يدافع عن حرية كل شعوب العالم . أنها أمريكا أيها القردة التحرريين .
ألسوريون يدافعون عن حياتهم ووطنهم وإنسانيتهم . وعما يعتبرونه حقهم في ممارسة قيم الحرية والشرف والكرامة الوطنية والإنسانية . وهذا حق للسوريين ما داموا يحاولون حماية هذا الحق بدماءهم التي لا شريك لهم فيها . ولكن السوريين بسلوكهم وخيارهم الإستشهادي هذا ، يحرجون كل ” أحرار ” الشعوب وعلى الأخص العربية . يجد هؤلاء أنفسهم أمام نموذج خرافي من التضحية والشجاعة ، لا يستطيعون مجاراته ، فيبدون حياله وكأنهم جبناء . ولكن بماذا يهمهم ما سيقال عنهم في عالم قادم سيعيشون فيه قرودا وليس بشرا ؟ والحقيقة أنهم كذابون ومنافقون . ما يزعجهم هو أن شباب سوريا يخوضون معركتهم بالأصالة والنيابة ، بالتداعي المنطقي ، لأن الحرية الإنسانية والإجتماعية في التاريخ لا تتجزأ . ومع ذلك ، يبقى أن أكثر ما يزعج أولئك ، هو حينما يسألون أنفسهم : ماذا لو حدثت المعجزة وانتصرت سوريا ؟ لا تنزعجوا ! ستعيشون عبيدا في عالمكم الخاص ، وكأن سوريا لم تنتصر بالنسبة لكم . وشيء آخر سيهون عليكم ! لن يكون هناك دور لمن اعتادوا مثلكم أن يعتبروا أنفسهم نخبا . إذا انتصرت سوريا وانتصرت مصر ، فسيبدأ مفهوم جديد للنخبة . لن تكون النخبة انتدابا أو تعيينا بل دورا يفرض نفسه أولا ، كما يحدث الأن في سوريا ، وكما حدث في مصر . عندها يكون زمن امثالكم قد مضى وانتهى .
لقد انتصر السوريون بدونكم . انتصروا منذ أن رفضوا أول طلب أمريكي وقدموا أول شهيد .