استراتيجية العقل الآخر

أحمد حسين

فلسطين المحتلة 1948

من غير المنطقي أن تتراجع أمريكا عن اعتدائها العسكرى المباشرعلى سوريا. فأمريكا قد انغمست في حلمها الإستراتيجي الصهيومريكي، إلى درجة أن قرار الحرب بكل أشكالها كان مقدمة حتمية لاستراتيجية بهذا الطموح الخرافي، وإلا فلا معنى للتفكير فيها. لم تكن قوة أمريكا أوهيمنتها الشاملة على اتخاذ القرار العالمي الملتزم بمصالحها كاعظم قوة إمبريالية في تاريخ العالم، مهددة حتى افتراضيا خلال مدة أقل من عدة أجيال،تستطيع خلالها أن تشغل منصب إمبراطورية العالم الوحيدة. ولم يكن هناك تهديد يصل في افتراضيته احتمال خسارة أمريكا لهذا الموقع أمام أية قوة أخرى اقتصاديا أو عسكريا في المستقبل المرئي. فلماذا كان على أمريكا أن تنفق تريليونات الدولارات المسروقة مباشرة من ثروات مواطني العالم بأكمله، لتدخل في سياق من الحروب الإستباقية العسكرية والتآمرية ضد كل دول العالم، حتى التي تسميها حليفتها ؟ أليس هذا دليلا قاطعا على أن أمريكا كانت مشغولة بالتفكير في العالم الذي سيكون، وليس بالعالم الذي توجد فيه فعلا ؟ لقد ظلت أمريكا سيدة العالم الفعلية حتى مع وجود الإتحاد السوفياتي الذي كان حكامه يعدونه للسقوط. فلماذا حاولت استباق الزمن الموضوعي لتحويل طغيانها الشرعي الحاصل إلى نظام عبودية بالقوة ؟ ألجواب الوحيد الممكن، هو أن العقل الأمريكي الإستراتيجي لم يعد عقلا عاديا، بسبب رفاه القوة غير العادية. كان يعد نفسه ليصبح عقل العالم، وكان شذوذ النخب فيه واضحا من خلال العنف البارد وغير المسبوق الذي أظهره في حروبه الإستباقية، ليقول للعالم : هذه هي أمريكا ! لن تفهموا ولكن احذروا ! نحن نبني عالما مختلفا ولن يوقفنا شيء. حتى لو جاء هذا العالم المختلف بعد حرب عالمية فنحن مستعدون له ,

هذا الوجدان الصوفي الأعمى هو أمريكا. من لا يصدق أن هذا ممكن عقلي، فهو لا يفهم نيرون أو هولاكو أو هتلر أو بوش. لا يفهم سيناتورات روما العظام وهم يجلسون في ألواج الأكروبوليس ليروا العبيد يقدمون طعاما للأسود في معارك خاسرة، ويصفقون بحرارة حينما تنتصر الأسود على العبيد، لأن الرمزية في صالح عقولهم المنحرفة، لذلك حين كان العبد ينتصر بالصدفة على الأسد يصر مزاجهم المتعكر على قتل العبد الذي تجرأ على قتل سيده الرمزي. إن أنواع الجنون البشري مفتوحة دائما على الترميز والخرافة والأسطورة والملحمة، لأنها نصوص لأوهام العظمة. وكهنوت العظمة هو أخطر أنواع الجنون البشري. هذه قاعدة سيكيولوجية معروفة.

العالم إذن أمام حالة طغيان جنوني للعظمة، تمثل العقل السلوكي لعظمة أمريكا. لقد رأى أن أمريكا تكذب لتقتل، وتقتل لتبيد، وتبيد بزعم حماية حقوق الإنسان، وتقتل الأبرياء وتمنح الطغاة حق اللجوء السياسي. وتقتل بواسطة قصف المدن بالصواريخ البعيدة المدى، وكأنها في مواجهة عسكرية في البحر. وتفعل ذلك فقط لأنها ديموقراطية. فما هو الجنون إذن ؟

ولا يبدو أن مصطلح العالم بكل تسمياته السياسية والنظامية والشعبية يدرك ما بنتظره. إن للضحايا جنونهم البريء أيضا. الأنظار مركزة على سوريا وليس حتى على أمريكا. يحللون انتصار سوريا المحتم على ألصهيومريكية، لأنه يجب وجود من يخلصهم من طغيان أمريكا. حتى ولو لم يحصل هذا، فمن يريد أن يقتل من الضربة الأولى، ويفقد رصيده في حساب المعجزة ؟

روسيا تلعب لعبة مضمونة.. لقد قدمت لسوريا أسلحة مؤثرة ولكنها لا تريد أن تخاطر بحرب عالمية ( من أجل أحد ) الزيادة بين قوسين من مذيعة قناة الميادين التي تبيع البوظة بكل الألوان والطعوم. وتعد برامج لكل التوجهات السياسة، هات مذيعك أو مذيعتك معك إذا شئت. وأهم البرامج يقدمها رئيس طاقم خريجي قناة الجزيرة، وهو يصر دائما على القول ” الأنسة رايس ” وفاء لحبها للأطفال العرب الميتين. ولكن ليس لهذا أهمية الآن.

 وإذا أردنا أن نلخص موقف أهم القوى العالمية المساندة لسوريا، وهي روسيا والصين، فهو يبدو على الوجه التالي : نحن نساند سوريا سياسيا ولوجستيا بدون تحفظ، ويسرنا أن تتورط أمريكا في الإعتداء على سوريا لتخسر ما تبقى من اسهمها هناك وفي العالم. ولكننا نحتاج إلى زمن طويل نسبيا لنكون قادرين على ملء الفراغات التي ستتركها أمريكا وراءها. لذلك لن نحاول الآن اكثر من مساعدة سوريا سياسيا.

أما بالنسبة للتأييد الشعبي والتحرري لسوريا في الأوساط الشعبية المتعاطفة، والأوساط التحررية، فسوف يظل الإسناد معنويا خالصا، فنحن لسنا في زمن جيفارا.

إذن فالتراجع الأمريكي أو السوري لم يعد واردا قياسا على فداحة التراجع بالنسبة لأمريكا، وانعدام الخيارات أمام سوريا سوى الصمود. ولعل أمريكا المتشنجة قد اتخذت قرارين لا رجعة فيهما، أحدهما التخلص من أوباما، والثاني زحزحة التصلب السوري باتخاذ موقف تنازلي علني ومؤثر يجعل العودة إلى التفاوض انتصارا أمريكيا، أو مهاجمة سوريا بأي ثمن. وعلى السوريين أن يتوقعوا ضغطا روسيا في هذا الإتجاه، وأن يرفضوه بالقطع بعد كل التضحيات التي قدموها.

إذا حصل مثل هذا، فإن المتضرر الأكبر سيكون روسيا، والمستفيد التلقائي هو أمريكا، التي ستعتبر التراجع الروسي عن موقفه، يوازي في أهميته المعنوية التنازل السوري المباشر. كم نرجو ألا يحدث هذا، ويؤدي إلى تحييد الفيتو الروسي، الذي لن يترك أمام فرقاء الممانعة سوى الفيتو الإسرائيلي المحتمل، أو الدمار الشامل لكثير من دول المنطقة. وتصبح القضية الملحة هو من الذي سيقوم بإعادة الإعمار.

تجربة الشعب السوري بملابساتها الدولية والإقليمية والمحلية، وبالصمود الذي تجاوز في عنفوانه وصلابته تاريخ الصمود العادي، دون أن يفقد توازنه الإنساني، أو يخرج على التزامه الحضاري، وكل ذلك في مواجهة تيار الجريمة العالمي، الذي يعتبر تدمير الإنسان والحضارة طموحا استراتيجيا للقوة المجنونة التي ترى الطغيان المنظم للنخبة الهمجية المتمدنة هو نهائية التاريخ التطورية. وعلى هذا الأساس، فإن رفض الإنسان السوري لمحاولات الإملاء الأمريكية، وصموده بكلفة أعلى بكثير من مألوف البطولة والمعاناة، تصبح بالعفوية هي استراتيجية البشر العالمية المعتمدة، لتجاوز اقتراح موت الإنسان والحضارة، الذي يقدمه جنون القوة والعبث والثقافة المختلة.

ليس صدفة أن شعبا صغيرا قياسا على غيره من الشعوب، يعيش في حدود الإكتفاء النسبي من ناتجه المحلي، يصبح عرضة لاستفزاز أعتى قوي الإمبريالية العالمية إلى درجة مشارفة الدمار الشامل. فسوريا أيقونة الحضارة العالمية بغناها وإنجازاتها وثقافتها الإنسانية الملتزمة في الماضي والحاضر. لن تجد حضارة مؤسسة في التاريخ بريئة من الطغيان والدموية والتعصب، وحافلة بالعطاء الحضاري كالحضارة السورية، وفي نفس الوقت مترفعة عن عن الخضوع، والقبول بما يمس كرامتها وشرفها الإنساني. تكاد لا تعرف في تاريخها سوى معارك الشرف في الدفاع عن وطنها. أليس هذا هو النموذج الأسمى للحياة الإنسانية الحرة الكريمة، الذي لا تطيقه حضارات التمدن الهمجي، التي تخشى القدوة في هذا المجهل. أليست سوريا هي الدولة الوحيدة في العالم الثالث التي ظلت خلال تاريخها المعاصر كله على أي شكل من أشكال النفوذ غير المتوازن مع أمريكا. تحملت خلال ما يقارب قرنا من الزمان أذى كلب العالم المسعور دون أن تداريه بغير الصد. وها هي الأن تقابل تراكمات الحقد الأمريكي على نموذجها، وتقف بقدراتها المحدودة في كل الميادين تتحدى أمريكا وكأنها دولة عظمى. وهاهو الشعب السوري المدمى يلتف طائعا باكثريته حول نخبه النظامية ليواجه ما يمكن تسميته محاربة المسوخ والشياطين. ليس لآنه يتعصب لنظامه رمزيا، ولكنه يعرف أنه على علاته أفضل نظام في العالم.

بعد كل هذا، كيف لا يصبح الشعب السوري أيقونة الحرية وشمسها في هذا الزمن الذي لا يتوهج فيه إلا الدم والنار. هذه هي الحقيقة التي فرضت نفسها بواقع حركتها على واقع العالم. هي فرصة العالم المعاصر الأخيرة للخروج من اقترح العبودية إلى اقتراح الحرية، ومن اقتراح الهمجية إلى اقتراح الإنسانية، ومن اقتراح الموت إلى اقتراح الحياة. فإذا فوت عالم السوية هذه الفرصة على نفسه فهنيئا له ما أراد. وإذا دافع عن فرصته إلى جانب سوريا فهنيئا له ما أراد أيضا. ولا يظنن أحد نفسه خارج السفينة التي تريد أمريكا إغراقها. الملحمة السورية ليست حرب محاور أو مراكز قوى. إنها حرب البشر جميعا في مواجهة عالم الجنون والهمجية الأمريكي.