أحمد حسين
لم تبدأ مشكلة سوريا أو العرب مع أمريكا منذ سنة 2011. بدأت منذ أن خرج الأوروبيون الجدد من بلاد الهنود الحمر إلى العالم القديم ووجدوا فيه العرب. وبغض النظر عن الأسباب، كان لدي أمريكا من تلك الأسباب ما جعلهم يعاملون العرب على أنهم مختلفون عن غيرهم من الجماعات وبدون استثناء. كان واضحا أنهم يريدون بلاد العرب خالية من العرب. لذلك عاملوهم كبقايا أمة همجية بائدة، أٌقرب إلى الهنود الحمر في مستوى التمدن والإشكال، من أي شعب آخر في العالم. لذلك لم يستطع الوافدون أن يعاملوا العرب بطريقة أفضل كثيرا مما عاملوا الهنود الحمر سواء في الفعل أو في النوايا. إستباحوا بلادهم ودماءهم ووجودهم المعنوي على رؤوس الأشهاد، بكل وسيلة ممكنة من التنكيل والإستباحة واحتجاز المبررات،والشجب والتدنيء، بدرجة عالية من الإتقان والكفاءة، كانت تثير الخوف لدى كل الناس. يكفي أن نذكر أن جونسون وكلبه قاما بدعوة السفراء العرب إلى اجتماع رسمي، ثم بدأ جونسون يقص على كلبه قصصا عن الرجل الصغير الشجاع، والأشرار الذين أرادوا قتله، ولكنه انتصر عليهم كلهم خلال ستة أيام. ونسينا أيضا أن الشقراء الفاحمة ” الآنسة رايس ” أوضحت للمفزوعين من فضلاء العالم الثالث بسبب كثرة المتفحمن من أطفال لبنان، أنهم منافقون، لأنهم تجاهلوا الطفل الإسرائيلي الذي أفزعه صوت القنابل وانخرط في الصراخ؟ قالت ذلك ودموعها البيضاء تسيل على خدها الناصع السواد.
هذا يعني أن العرب ما داموا لا يدركون أن لا حدود منطقية لأية مواجهة مع أمريكا، إنما يقدمون لها الوجود العربي على أقساط تتناسب مع أجنداتها التنكيلية. ليس هناك منطق واقعي مبرر يكافيء المواجهة مع ما تسعى إليه أمريكا، سوى حرب حياة أو موت من جانب العرب. كون المعادلة قاسية إلى هذا الحد، لا يغير منطقها العملي، أو مصداقيتها الفعلية، أو ضرورتها الوجودية. ومن حق العرب التمعن في قسوتها، واتخاذ القرار الذي يناسبهم، بين مواجهة أمريكا على أساسها فقط، أو الخضوع لكل ما تريده بدون شروط. وهذا القرار هو ما كان على سوريا أن تحسمه مع نفسها، قبل اتخاذ موقف مناهض للربيع العربي. ليس هناك حتى مجرد غموض في الموقف الأمريكي، يمكن أن يمنطق موقف الممانعة الغامض. فالممانعة شأن من شؤون الإغتصاب العادي، وأمريكا ليس لديها ما لم تغتصبه بعد في الوطن العربي، وإنما المقصود هو تثبيت الإغتصاب بالإبادة. فهل سيظل العرب يتجاهلون ذلك، لملاءمة دمهم مع أجندات القتل الأمريكية؟ لماذا لا يجربون الإستسلام، ويراهنون على نوايا أمريكا؟ إن ما يفعلونه، وأقصد قيادات الممانعة، هو لاأخلاقي بالمرة. فهو يتضمن إطالة مشاهد الإعدام العربي الشامل بدون مبرر، كما فعلت القيادة السورية بموافقتها على تأجيل الغزو الأمريكي المباشر لدمها، لتنعم بالغزو المطول وغير المباشر الذي يضع الطفل أمام حامل السكين، وتحرمه فرصة الموت السريع، أو فرصة الإنشغال بطفولته عن هلوسات مواجهة أمريكا بالتقسيط. هل هذا التظاهر المكلف بأن هناك خيارات أمريكية هو عمل أخلاقي؟ وهل الحجة الإعلامية التي قدمتها سوريا حول حماية دماء القطريين والسعوديين والأردنيين هي أخلاقية. لماذا يريد القادة السوريون تأجيل دماء هؤلاء، لتبرير موقف سياسي غير منطقي؟ الأخلاق منطق علمي وإنساني له تبريراته العملية، وأى موقف غير منطقي لا يمكن أن يكون أخلاقيا. فهل الخضوع لأمريكا، والمواجهة لعدوانها ما تزل قائمة هي عمل منطقي. ما بدأ في سوريا من سياق تدميري فاق التوقعات العاقلة في دمويته ووتدابيره المعقدة , لم ينته ولن ينتهي قريبا. فأمريكا وحلفاءها لم يحققوا كل أهدافهم من هذا السياق. لقد نجحوا في حشد الياتهم المبتكرة لمواجهة حاسمة في سوريا، تضعها مثل العراق في صف الدول السابقة والمجتمعات المعوقة، ولكن اختلاف الظروف الأقليمية والدولية والداخلية في سوريا لم يمكنهم من الوصول إلى الهدف بالسلاسة والسرعة النادرة التي حققوها في العراق. لقد أدت هذه الظروف إلى أن يقدم الشعب السوري والجيش السوري أفضل ما عندهما من روح الرفض والبطولة لحماية وجودهم الوطني وحماية الوطن والصمود في مواجهة تزداد تعقيدا ودموية يوما بعد يوم، على كل المستويات الإقليمية والدولية. وبدا أن على أمريكا أن , ترضى بما تم إنجازه من أهداف تدميرية فقط، والخروج بفشل سياسي له ما له من نتائج مدمرة، على مشروعها السيادي الإقتحامي. كان التراجع يعني نهاية لمسلمات دولية خطيرة تم تحقيقها في محطات استراتيجية سابقة، ونهاية لمنهجها الإقتحامي بالديموقراطية، وقضاء على مشروع إمبراطوري مجيد، وأولية عالمية على وشك الترسخ كمسلمة كونية. أمريكا المشروع النخبوي الأسطوري، لم يكن لديها خيارات سوى أن تسترد عنفوانها المهدد بالقوة العسكرية المباشرة، حتى لو اضطرت لارتكاب مخاطرة لا يمكن تحديد نتائجها. وهكذا قرر أوباما وضع العالم أمام عملية إعادة اقتحام لا بد منها.
لم يكن أوباما مترددا كما يزعم محللو الممانعة. لقد اتخذ قرارا حاسما بغزو سوريا، ولكنه ظل يأمل أن يوصله التهديد بالحرب إلى نصر سياسي وميداني يعطل الحاجة إلى الحرب. وقد حصل على ذلك للأسف الشديد من خلال انخذال قرار الرفض لدى دول الممانعة وحلفائها الدوليين الذين عرفوا حقيقة أوباما. عرفوا أنه لم يكن ينتظرهم ليساعدوه على النزول المهين عن قمة الشجرة، وإنما ليقدموا له انتصارا مجانيا حقيقيا ليقوم بالنزول عن الشجرة بدون مساعدة، أو يواجهوا قرار الحرب المحققة , وقد قرروا ارتكاب قرار “السلم” وهم يحاولون نصب قاماتهم بصعوبة بالغة.
لقد أثبت العالم أنه غير مهيأ بعد لمواجهة مع العنفوان الأمريكي الأعمى. أمريكا فاقدة الرومانسية تماما وليس مستعدة للمبارزات الشريفة، من نوع ما يقدمه بوتين. لديها خيار واحد ورطها فيه امتلاك القوة القصوى، ومفكروها الحداثيون الرقميون : أمريكا، أو ليكن ما يكون ! وفي النهاية هذا هو ما سيكون بواقع الحال. فمن الذي سيخسر في الإنتخابات القادمة بوتين أم أوباما؟
في الحقيقة لم يتضرر أحد مرحليا بشكل مباشر سوى سوريا، وإيران بشكل غير مباشر. لقد تكفلت سوريا لوحدها بالهزيمة المادية، وبالقسم الأكبر من الهزيمة المعنوية، لدرجة أن صمودها المكلف، منذ بداية العدوان عليها يبدو الآن عبثيا. ومع أنه يمكن القول أن القرار السوري لم يكن ذاتيا بالكامل، إلا أن قرارات الأصدقاء والحلفاء يجب أن تكون منطقية أيضا، ليس في ظروفهم الموضوعية الملائمة فقط، بل في الظروف الموضوعية الملائمة أيضا لأصحاب المشكلة. وهذا ما كان يجب التفكير به من الجانبين. بوتين رجل دولة ومفكر سياسي عظيم بكل معنى الكلمة، وأشجع من أوباما بكثير، ولكن الشجاعة شيء والجنون وفقدان الوعي شيء آخر. لقد عرف بوتين أن القائد السياسي العاقل لا يمكن أن يكون في مستوى المرحلة بمواصفاتها الأمريكية. وأن مواجهتها بالجنون ليس ضرورة حياة أو موت بالنسبة لروسيا. وعلى سوريا أن تعرف ذلك وتتخذ قرارها. لقد عرفت سوريا أن بوتين يقدم لها الحماية مقابل الموافقة على القرار الخطأ. وفعلت ذلك.
تقدمت أمريكا خطوة واسعة، أعادت إليها كل عنفوانها. وتراجعت روسيا خطوة خسرت بها هيبتها، وتقدمت خطوة واحدة ربحت بها موقفا أخلاقيا مؤقتا سيتحول روسيا إلى خطأ. وظلت إيران في مكانها في عين العاصفة مع ارتفاع في سرعة الرياح الغربية والشرقية. وتنفست إسرائيل الصعداء مجانا على غير ما كانت تتوقع، وكسبت خطا دفاعيا صاروخيا أماميا في الأردن. وخسرت سوريا وعربها القوميين كل شيء.
هل كانت سوريا تجهل ماذا تريد منها أمريكا؟ هل اعتقدت أن قرار مواجهة امريكا منذ البداية كان له أي معني، بدون قرار مواصلة المواجهة معها حتى النهاية وبأي ثمن؟ لم يكن هتاك منطقيا ما يبرر القرار الأول سوى القرار الثاني. هل كانت سوريا تراهن على هزيمة أمريكا في معركة عسكرية فاصلة؟ رصد المارد الأمريكي يعرفه السياسيون وبائعوا الخضار وهي نفسها أيضا. الحرب الشعبية الممتدة ! وكان الظن أن يكون رهان دول الممانعة على جر أمريكا إلى التدخل العسكري وإيقاعها في مستنقع فيتنامي ثان سينتهي بهزيمتها حتما. خاصة وأن وراء هذا الرهان مبرر عقلي ومنطقي وقسري واضح. فماد دامت أمريكا مصرة على سياقها التصفوي في الشرق الأوسط إلى درجة الإيمان والعقيدة الإستراتيجية، فلماذا يجب انتظار أجندة المراحل التنفيذية؟ أليس انتهاز فرصة التورط الأمريكي في سوريا وتخبط أمريكا في عقل أوباما العاجز فرصة لا تعوض؟ أمريكا في وضع لوجستي لم تر أسوأ منه في تاريخها. لم يحظ أي موقف دولي معاصر بما حظي به الموقف السوري من تأييد وتعاطف عالمي، مبني على الوعي السياسي للمصلحة المهددة لكل الشعوب. الغرب الأمريكي مفتت وفي حالة تردد وخوف مصيري من النتائج. حماقات أمريكا الإعلامية وتلفيقاتها وأكاذيبها تجاوزت حد الإبتذال. لأول مرة تتقاطع مصالح الطموح القومي والإنساني للعرب وإيران، مع مصالح دول التوازن العالمي المناهض للإستقواء والعربدة الأمريكية بقوة الحسم المقابل. والوضع الداخلي للشعوب العربية في حالة تحول مشحون بالثورة على أمريكا. فأية فرصة كانت تنتظر سوريا ودول الممانعة لتخوض تجربتها السانحة للخلاص، والتي لن تعود مرة أخرى بذات المواصفات النادرة؟
خسرت سوريا على صعيد التوازن الإستراتيجي.
خسرت فرصتها مع حلفائها، في لحظة الحسم المنطقية المناسبة.
خسرت صدقها الموضوعي كله، حينما حوله التراجع إلى صدق كاذب، وحول أكاذيب أمريكا إلى كذب صادق، وقاعدة دائمة داخل سوريا لكل الأكاذيب الصادقة المقبلة لأمريكا.
خسرت فرصتها في القضاء على ” ضباع الفلا ” العربية والغربية، رغم أنها تعتقد غير ذلك. لن تعطيها أمريكا أية فرصة للإفلات من المأزق الإرهابي بأي ثمن، لأنه مارينز مشروعها التصفوي لا أكثر ولا أقل.
خسر كل إنسان شريف وعاقل في هذا العالم، فرصة تدميىر الخليج العربي والسعودية.
ولكن :
ربحت سوريا معركة الصمود والبطولة والشرف، شعبا وجيشا وقيادة، ومع أن هذا يضاعف أسانا وفجيعتنا على زين شباب العالم وفرسان هذا العصر المنكوب، الذين كتبوا بدمائهم ملحمة الإنسان العظمى في تاريخ الحرية، إلا أن جباهنا ترتفع بفضلهم بشموخ سيظل متجسدا في البنية العربية إلى الأبد نواجه به في محافل الكرامة. نقول هل في تاريخكم رجال حولتهم أفعالهم العظيمة وحدها إلى أساطير؟ العالم بشبابه وشعوبه وإنسانه لم يعد كما كان قبلهم. هم الوحيدون في التاريخ الذين كونوا لأول مرة جيش الإنسان وجيش العالم وواجهوا كل غيلان الشر الأمريكي دفاعا موثقا عن العالم وأطفاله وشعوبه. إنهم موفدو البسالة الإنسانية الذين فتحوا أمام الشعوب الثغرة الأولى المؤدية إلى هزيمة أمريكا. كل ما سيأتي لاحقا على هذا الطريق هو منهم. وجوه مثل كل الوجوه، وقامات مثل قامات كل الناس، ولكن معجزتهم أنهم لا يتراجعون أمام شيئ. تركوا وراءهم مدنا خائفة فيها أهلهم سيحمونها، وأطفالا وجوههم إطلالات أمل سيدافعون عنها، ووراءهم شعب من معدن الصمود النهائي، وقادة من معدن الإلتزام والشرف والصواب والخطأ , فكيف يتراجعون؟
لقد انتصر بهم مستقبل الشعوب، وترنح غد عالم الشر، وتحركت قطارات الجبهات القريبة والبعيدة ترفع اللواء الذي رفعوه. وضعوا من خلفهم على طريق الحياة، لذلك لم يموتوا. أما من عاش فمنارة للعز والكرامة والرجولة ستترك ضوءها بعدها حينما تمضي قامتها لتحمله قامة سورية غيرها.