العميد د. امين محمد حطيط
بعد صمود اسطوري ابدته سورية خلال حرب كونية شنت عليها و زجت فيها ضدها جماعات مسلحة و ارهابية تكفيرية لنيف و 30 شهرا ، تبدل مؤخرا المشهد العام ، و انقلبت اتجاهات الحركة الدولية بعد التغير في المعادلات التي رسمت في الميدان خلال الاشهر الاخيرة تبدلا حصل الى الحد الذي يمكننا من القول بان الازمة تتحضر للانتقال الان من مرحلة ” النار لتحقيق الاغراض ” اي منطق الحل العسكري عبر الحسم في الميدان كما تصورته و توخته القوى المعتدية بتوجيه اميريكي، ( قوى تدرجت في تصعيدها العسكري حتى الوصول الى التهديد بالتدخل العسكري الامريكي المباشر ) ، الى مرحلة ” لا حل الا بالحوار و التفاوض ” اي منطق الحل السلمي ، حيث باتت وظيفة النار في الميدان منحصرة في هدفين : الاول هو خدمة الدبلوماسية للضغط في التفاوض و الثاني من اجل تطهير الارض السورية من الخارجين على منطق التعايش الوطني في دولة علمانية يلتقي فيها جميع مواطنيها من كل القوميات و الاديان و المذاهب.مرحلة لا بد للمتابع ان ستقرأ خصائصها من الحراك الدولي خلال الاسابيع الاخيرة و الذي تكلل باتفاق جنيف بين وزيري الخارجية الروسي و الاميركي منذ يومين ( السبت 14 ايلول).
و قبل الدخول في المرحلة الجديدة كانت الامور قد وصلت كما ذكرنا الى حافة الانفجار الذي كان يمكن ان يدمر المنطقة فيما لو حصل ، و مع اننا كنا نرى ان منطق “المصالح و المخاطر و توازن الردع ” كان سيحول دون تنفيذ اميركا لتهديدها بالعدوان على سورية و لهذا كنا نقول بانها ” لن تجرؤ على الحرب …و …ان الحرب مستبعدة “، الا اننا لم نسقط احتمال الخطأ الاميركي في الحساب حيث بقي احتمالا قائما و ان بنسب منخفضة ، و الان و قد حصل ما حصل من شأن المخرج الذي تمثل بالمبادرة التي نطقت بها روسيا في سلوك منسق مع ايران و سورية ،بلورته حنكة سياسية و حذاقة دبلوماسية جعلت المبادرة و كانها نتاج روسي – اميركي مشترك من اجل اسدال الستار على مشروع الحرب و العدوان ، مبادرة اتخذت من السلاح الكيماوي مدخلا و لكن الافق و الفضاء يتوسع حتى يشمل تصور الحل للازمة في سورية بداية و منها الى المنطقة التي بات هي و العالم و سورية تحديدا – كما يبدو – في مواجهة حراك دولي سيؤسس عليه من اجل تحديد المعايير التي تضبط الحركة في العلاقات الدولية كما و تتخذ عناصر فاعلة في النظام العالمي الجديد الذي قلنا منذ سنتين بانه نظام يولد من الرحم السوري . و في هذا السياق فاننا نسجل اهم ما في هذه العناصر و الملامح كالتالي :
1) العودة الى احترام قواعد القانون الدولي العام والاقرار بان المؤسسات الدولية خاصة مجلس الامن هي المكان المناسب لاتخاذ القرارات المتعلقة بشأن دولي بشكل عام و بسورية الان بشكل خاص . و بالتالي سيكون مجلس الامن – كما ينص الميثاق الامم المتحدة – هو المخول حصريا باتخاذ قرار استعمال القوة ضد اي دولة او فئة او اقليم ، الامر الذي يضع حدا لنزعة التفرد الاميركي باستعمال القوة العسكرية ويكون في هذا الامر اول تنفيذ ثنائي متوازن للمبادرة الروسية ، حيث انه في الوقت الذي اعلنت فيه سورية انضمامها لاتفاقية حظر انتشار الاسلحة الكيماوية تعلن اميركا و تؤكد على مرجعية مجلس الامن في استعمال القوة خلافا لما كانت تهدد به و اسمي ضربة عسكرية ضد سورية و راينا فيه عدوانا لا يبرره القانون الدولي . و لا يخفف من هذا التوازن في التنفيذ ما رافق المواقف في جنيف من اقوال اميركية من قبيل الحديث عن ان ” اميركا جاهزة لاستعمال القوة للدفاع عن نفسها ” ، او قول بان “اميركا ستلجأ الى القوة اذا فشلت الدبلوماسية” ، لاننا نرى في الموقف الاول لزوم ما لا يلزم فسورية لم تهدد اميركا يوما اما في الثاني فهو برأينا من قبيل المواقف الاعلامية التي تطلق لتخفف من وطأة التراجع الاميركي عن التهديد بالقوة ، و محاولة لحفظ الهيبة الامريكية خاصة في اعين الحلفاء .
2) الاقرار بان لا حل في سورية الا الحل لسلمي الذي يتم الوصول اليه عبر” التفاوض و الحوار “، و في هذا الامر مكسب و انتصار لسورية ، خاصة اذا تذكرنا بان الحكومة السورية هي اول من نادى و عمل من اجل حل حواري وطني يتم الوصول اليه بالحديث المباشر بين السوريين ، و يقود الى تشكيل السلطة عبر العودة الى الشعب الذي يجب ان يعترف له بحقه باختيار حكامه وبقراره المستقل . و نعتقد بان في هذا الامر خيبة امل للاطرف و الجهات التي ارتمت في الحضن الاجنبي متوخين ان ينصبهم حكاما على سورية كما نصب من قبل حكاما في الخليج على ممالك و امارات و مشيخات فصلت على قياس كل منهم . و لهذا سيكون مؤتمر جنيف 2 ( او سواه من المؤتمرات الدولية المشابهة ) – الذي تهرب منه الغرب ل 15 شهراً خلت – هو المكان و الوسيلة المتاحة للبحث عن هذا الحل و سيكون على اميركا و الغرب ان يفرزوا ادواتهم السورية التي استعملوها بين فئة لا تتناسب مع علمانية الدولة و فئة يمكنها الانخراط فيها، و اقصاء الاولى عن المسرح و الزام الثانية بقبول الحل الذي ينهي الارهاب على ارض السورية و يعيد الى الدولة استقرارها بمشاركة الجميع وفقا لحجمهم التمثيلي الحقيقي .
3) الاقرار بان التخلي السوري عن الاسلحة الكيماوية ، انما هو نتيجة طبيعة لانضمام سورية لاتفاقية حظر انتشار هذه الاسلحة ، و انه يأتي ضمن سياق اتفاق دولي لاعلان منطقة الشرق الاوسط خالية من سلاح الدمار الشامل ، و هذا ما سارع جون كيري بعد اتفاق جنيف مع لافروف لابلاغه كما يبدو لاسرائيل . و مع هذا الانضمام السوري للاتفاقية يكون التخلص من المواد الكيماوية عملاً تنفيذا عادياً وفقا لاحكام هذه الاتفاقية التي انضم اليها 193 دولة قبل سورية ، و وفقا للالية المحددة في هذه الاتفاقية و ليس خضوعاً لاي امر او املاء يأتي من اي جهة . و على هذا الاساس نرى بان بعض المواقف التي تطلقها اميركا على هامش هذه القضية لا تعدو كونها محاولة لكسب معنوي اعلامي لا يمكن صرفه في الواقع. ثم ان انضمام سورية الى هذه الاتفاقية لن يكون عملا منفردا بل هو سلوك يؤسس عليه مستقبلا في منطقة الشرق الاوسط نحو اقامة منطقة خالية من سلاح الدمار الشامل ، ما يعني اسرائيل ايضا التي تمتلك250 راساً نووياً و كميات كبيرة من الاسلحة الكيماوية عليها و ضمن موقف دولي واحد ان تنخرط في هذا السلوك ايضا ، و هنا ينبغي ان نلفت ايضاً الى امر هام بان اتفاقية حظر انتشار الاسلحة الكيماوية و استعمالها تفرض على الدول الاعضاء فيه مساعدة من يعتدى عليه بسلاح كيماوي من اجل ردع العدوان ، و في الشان المبحوث فيه تكون روسيا بالنسبة لسورية معنية مباشرة بضمان هذا الامر .
4) سقوط مشروع اقامة الدولة الدينية التكفيرية في سورية و منها الى المنطقة كلها ، و الاقرار بان الدولة العلمانية التي تجمع كل القوميات ومن كل الاديان هي الحل المناسب لسورية الموحدة ، و في هذا تاكيد على سقوط المشروع –العدوان على سورية و المنطقة و هو المشروع الذي هدف الى اقامة دول دينية متطرفة ، يكون بعضها بادارة “الاخوان المسلمين” في ظل صفقة الغرب معهم لانشاء هلال حماية اسرائيل ، و بعضها الاخر يحكمها الفكر الوهابي التكفيري لاقامة نظام حماية المصالح الغربية خاصة النفط . و يكون الاقرار الدولي الان بالتمسك بالدولة السورية العلمانية موقف يقطع الطريق على ما يتوخاه الاخوان و الوهابيون التكفيريون في سورية و يكون سقوط الحلم هذا بمثابة المحاكاة لسقوط حكم الاخوان المسلمين في مصر . وتكون هذه النتيجة من اهم نتائج نجاح سورية في معركتها الدفاعية ، نجاح حال دون تقسيمها على اساس طائفي او عرقي او حكمها على اساسي تكفيري و هي الصيغ التي ارادتها اسرائيل لتبرير يهودية الكيان المغتصب لفلسطين و هو الهدف الرئيس من العدوان اصلا.
5) تشكل موقف دولي لمواجهة العصابات التكفيرية و الارهابية و ملاحقتها و قمع جرائمها . وهنا نلفت انه طيلة المرحلة السابقة كانت اميركا و معها كل من حشدته ضد سورية ، كانت تعتمد على هذه الجماعات و ترفض الاشارة باي شيء من السلبية لسلوك تلك العصابات و جرائمها – لانها كانت اداتها في العدوان اصلاً – حتى ان موقفها ضد جبهة النصرة و تصينفها ارهابية كان موقفا اعلاميا لم يتبعه سلوك يناسبه ، لكن الان سيتغير الامر بعد ان بات واضحا عجز اي عمل عسكري عن المس بالدولة السورية و نشؤ حالة الاحراج من سلوكيات الارهابيين مع دخول روسيا بما تملك من قدرات لمراقبة و تسجيل الحقائق طرفا في اتفاق دولي يدعمه الغرب ( اميركا و بريطانيا و فرنسا و البقية تاتي ) و مجموعة بريكس و مجموعة شنغهاي ، اما المثلث الاقليمي المؤلف من السعودية و تركيا و قطر فانه عرف كما يبدو انه خسر الحرب و ان لا قيمة لدعمه او رفضه للاتفاق ، و ان استمراره في دعم الارهابيين لن يغير في اتجاه النتائج بل سيرتد عليه خسرانا اضافياً .
و في كلمة اخيرة نقول ان سورية و المنطقة و العالم امام مرحلة جديدة خطت خطوطها الرئيسية في الميدان السوري بقلم سورية المقاومة و محورها و جبهتها الدولية ، مرحلة لم يكن الاتفاق حول الكيماوي الا مدخلا لها ، مرحلة تختصر بكلمات :” ان سورية المقاومة صمدت دافعت فانتصرت” ، و لكن يبقى وقت لبلورة الانتصار و صنع الاستقرار ، وقت سيحاول الخاسرون ملأه بالصراخ و الصخب الذي لن يغير النتائج .
::::
جريدة الثورة دمشق بتاريخ 1692013