سميح حمودة – جامعة بيرزيت
في أوائل العام 1967 نشرت دار المعرفة كتاباً ضمّ دراسة قالت أنّها من إعداد “فريق من القوميين” تحت عنوان عبد الناصر وفلسطين. الكتاب الذي جاء في 152 صفحة سخِّر للهجوم على الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر من خلال الادعاء أنّه مفرِّط بالحقوق الفلسطينية، ومعترف بالقرارات الدولية التي أعطت شرعية لدولة إسرائيل وأنّه أجرى مفاوضات سريّة مع رئيس وزراء إسرائيل موشيه شاريت من خلال الوسيط موريس أورباخ عضو مجلس العموم البريطانيّ وتوصل معه لاتفاق سري، وأنّ الناصرية كانت تدعو إلى الاتحاد مع إسرائيل على أساس الاشتراكية. ويجري الكتاب مقارنة بين موقع القضية الفلسطينية في البيانات المشتركة التي صدرت بعد زيارات قام بها عبد الناصر لعدد من الدول وتلك التي صدرت بعد زيارات لدول أخرى قام بها الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز، ليصل إلى تمجيد الموقف السعودي وإدانة الموقف المصري، على اعتبار أن قضية فلسطين لم تحظ من النشاط المصري الدولي ما حظيت به من النشاط السعودي. والكتاب بامتياز عبارة عن رواية سعودية للموقف الناصري من القضية الفلسطينية مقارناً بالموقف السعودي.
لن أناقش هنا مسألة صحة أو عدم صحة الادعاءات السعودية حول موقف مصر الناصرية من القضية الفلسطينية، وبدلاً من ذلك سأبدي ملاحظتين حول الرواية التي أوردها الكتاب للموقف السعودي مقارناً بالمصري من القضية، أي ما قالت السعودية آنذاك أنّه موقفها من قضية فلسطين، وأقارن ذلك بمواقفها المعاصرة، ليس فقط من فلسطين بل وأيضاً من سوريا:
الملاحظة الأولى:
يقول واضعو الكتاب (ص. 50) أن موقف المملكة العربية السعودية من القضية الفلسطينية يستند “في جوهره إلى العقيدة الإسلامية التي تحرِّم على المؤمن أن يفرِّط بشبرٍ واحد من أرض وطنه مهما كان الثمن ومهما وكانت الظروف، وتفرض عليه الجهاد دائماً متصلاً حتى يحرر أرضه.” [التأكيد من الكاتب]. ويستطرد الكتاب بأنّ الملك فيصل كان قد عبّر “عن موقفه هذا في مؤتمره الصحفي بجدة عام 1965 حين قال، وكان العالم العربي قد امتلأ بصيحات التخاذل وبحديث الصلح مع إسرائيل: ’لو صالح العالم العربي كله، فلن تمتد في السعودية يد إلى الصلح‘ [التوكيد من الأصل].” ويوضح الكتاب الفرق بين الموقفين الناصري والفيصلي في أنّ الأول هو تصفية القضية على أساس بقاء إسرائيل مع تعديل حدودها، أما الثاني فيؤمن “بحق العرب والمسلمين في كل فلسطين، وبحق الفلسطينيين في أرضهم بحدودها التاريخية. أي العودة وقيام الدولة الفلسطينية. [التوكيد من الأصل]”
لنا الآن بعد قراءة هذا الموقف أن نتساءل بعد كل هذه السنين من نشر الكتاب أين تقف السعودية من موقف العقيدة الإسلامية من القضية الفلسطينية، ومنها فكرة الجهاد الدائم ضد إسرائيل؟ ونتساءل أيضاً أين تقف السعودية من حقوق الشعب الفلسطيني بكل فلسطين، وأين تقف من مسألة الاعتراف والصلح مع إسرائيل؟ فهل تغيّرت العقيدة الإسلامية حتى تخرج علينا مبادرة الملك فهد والملك عبد الله الداعية للصلح مع إسرائيل والاعتراف بها على أرض فلسطين المغتصبة، أم أنّ عقيدة حكام السعودية هي التي تغيّرت؟ وهل موقفها الحالي من قضية الاعتراف بإسرائيل والصلح معها يتجاوز ويتفوق أخلاقياً وإسلامياً على موقف عبد الناصر سابقاً وموقف سوريا حالياً؟
الملاحظة الثانية:
يعلّق الكتاب (ص. 51-53) على البيان الختامي الذي صدر عن شاه إيران محمد رضا بهلوي والملك فيصل عقب زيارة الأخير لإيران، يرافقه أخيه الأمير عبد الله بن عبد العزيز، الملك الحالي للسعودية، الزيارة التي بدأت في الثامن من كانون الأول 1965 م/الخامس عشر من شعبان 1385 ه، واستمرت لخمسة أيام، وقد بحث فيها الطرفان ضمن ما بحثا القضية الفلسطينية. ويقارن الكتاب بين سياسة الملك فيصل الساعية لكسب الأنصار والمؤيدين للقضايا العربية، وبالأخص قضية فلسطين، ونجاحه في الحصول على تأييد شاه إيران لكفاح الشعب الفلسطيني “من أجل استرداد حقوقه المغتصبة ووطنه السليب” [التأكيد من الأصل] وبين الاستفزاز المستمر الذي كانت تتعرض له إيران من مصر، “والسياسة البلهاء التي تصنِّف إيران في عداد الخصوم وتجرها إلى مواقعهم وهي الدولة المسلمة التي يشدها إلى العرب ألف رابطة قربى وتاريخ وعقيدة.” [التأكيد من الكاتب].
لا شكّ أنّ هذا الموقف من الملك فيصل يختلف مئة وثمانين درجة عن الموقف السعودي الحالي من إيران، فإيران لم تعد الدولة التي قبل منها الملك الراحل تأييداً لفظياً لكفاح الشعب الفلسطيني ليعتبرها دولة إسلامية صديقة، بل هي الآن في موقع الداعم الكبير لهذا الكفاح، وهي دون شك تقف في موقعٍ معادٍ لإسرائيل لم يقفه الشاه المقبور مطلقاً، الذي ربطته بإسرائيل علاقات اقتصادية وعسكرية واستخباراتية حميمة، فلماذا تعتبرها السعودية اليوم دولة عدو، وتسعى لتحطيمها، وقد أضعفت العلاقات معها إلى أقصى الحدود.
لا شكّ أيضاً أنّ اعتبار السعودية في عهد فيصل لإيران دولة مسلمة تربطها بالعرب ألف رابطة قربى وتاريخ وعقيدة يناقض ما بدأت تروجه السعودية في عهد الملك فهد، ومنذ انتصار الثورة الإسلامية على الشاه سنة 1979، وتستمر في بثِّه حتى اليوم، من أطروحات وفتاوى دينية تكفِّر الشيعة في إيران وغيرها، وتحذّر من خطرهم، حسب زعمها، على الإسلام والعرب والمسلمين. ناهيك عن أنّ هذا الموقف للملك فيصل يناقض تمويل السعودية الحالي للجماعات التكفيرية التي تقتل الشيعة على الهوية، فلسان الحال يقول أن لا روابط ولا أواصر من القربى والتاريخ بين العرب وإيران، بل هو الدم والدمار.
ما الذي تغيّر في السعودية حتى تنقلب على تراثها، وتقف الآن بوضوحٍ شديدٍ في معسكر أمريكا وإسرائيل، وتتخلّى عن كلِّ قضايا الأمّة، بما فيها قضية فلسطين والقدس والأقصى، ولا تحرك تجاهها ساكناً، في حين تستدعي، مع نظيراتها الخائبات والدائرات في فلك المعسكر الأمريكي-الإسرائيلي-الغربي، قوات هذا المعسكر لضرب دولة عربية وقفت مع فلسطين ولم تتنازل لإسرائيل، ودعمت وحضنت القوى المقاومة للتسلط والعدوان الإسرائيلي؟ وهل الذي تغيّر في موقف إيران من فلسطين والعرب منذ 1979 وحتى اليوم يعكس اقتراباً أكثر من أعداء الأمّة أم من كفاحها لاسترداد عزتها وكرامتها، وتحررها من هيمنة الغرب وإسرائيل عليها؟
ربما يجدر توجيه هذه الأسئلة لهيئة العلماء والإفتاء في المملكة السعودية، وربما يجدر أيضاً توجيهه لكل علماء ما يسمّى بالسلفية الوهابية المدعومين من المملكة والداعمين لها. ولربما لن نتلقّى جواباً على أسئلتنا، ولكننا نقول لكل هؤلاء بأن من أسس العقيدة الإسلامية الإيمان بيومٍ يبعث فيه الناس، كل الناس، ليقفوا أمام الله عزّ وجلّ ويسألهم عن أعمالهم، فإن كنتم تؤمنون بهذا اليوم اتقوا الله في سوريا وفلسطين، وافعلوا شيئاً للأقصى قبل أن يهوِّد.