القومية والماركسية في مركز/محيط

نقد رؤية إيجلتون

عادل سمارة

لا تزال المسألة القومية مسألة جدل ممتد في كل من المركز والمحيط. وربما أكثر جوانبها تعقيدا كامنة في إشكاليتين:

■ إصرار مثقفي المركز بما هم مركزانيون على سحب مختلف التطورات التي مرت بها بلدانهم على العالم بأجمعه وتحديداً بلدان المحيط بما في ذلك تطورات المسألة القومية منطلقين من أن المركز يجب أن يسحب كل العالم تعسفيا ورائه وتطبيق ما آل إليه على بقية العالم.

■  وتورط كثير من مثقفي المحيط في التهام خطاب الغرب الراسمالي وخاصة ساسته واستراتجيوه ومثقفيه ليُعيدو إنتاج حالة من التبعية أو الكمبرادور الفكري والثقافي القائم اساساً على التبعية الاقتصادية وهو ما يعزز بدوره مراكزانية المركز ويرفعها إلى أُّسٍ عنصري.

في هذا المستوى يمكن اعتبار الكثير من مثقفي البلدان العربية نموذجا على قراءة المسألة القومية من المنظور أعلاه وهو الذي خلق حالتين من التشوه:

■  التشوه السياسي القُطري لدى الحكام العرب ومعهم اللبراليين العرب الذين يقزمون القومية العربية في المستوى الشكلاني للجامعة العربية  والتبعية للغرب الرأسمالي .

■ والتشوه الثقافي للماركسيين العرب الذين ينفون ويعادون المسألة القومية وليس على أساس تحليل نظري لواقع ملموس وهو ما افقدهم مثلا في الوطن العربي تعاطف أو التفاف الطبقات الشعبية التي من المفترض أن تكون مصدر قوتهم.

ولعل ما يبرر هذه التشوهات في الموقف من القومية هو أن ماركسية ماركس  نفسه لم تقع  في إرباك نظري بقدر ما كان ذلك في نظرتها إلى  القومية. هذا مع ضرورة التنبه بأن الماركسية ليست كتاب البحر ولا جفر الإمام علي، بمعنى أن ليس من حقنا مطالبتها بحل كافة القضايا النظرية في الطبيعة والمجتمع والفكر، ولو حُلَّت أية قضية في فترة حياة ماركس فكل يوم تبرز وقائع وأحداث تتطلب تنظيرات جديدة.

ليست هذه المقالة بصدد تحليل ما تورط فيه اللبراليين والماركسيين العرب بل تتناول موقف أحد أشهر المفكرين الماركسيين الغربيين من المسألة القومية وهو من الماركسيين الغربيين الذين تمترسوا عند موقف ماركس المحدود من القومية حيث وصفها “سلاح بيد البورجوازية” وبالمقابل تورط كثير من ماركسيي المحيط في تبني هذا الشعار فحاولوا القفز عن القومية وأعلنوا حرب الشعارات ضدها مستندين على قراءة ماركس للمسألة القومية في أوروبا الغربية الاستعمارية في زمنه وكيف جرى تسخير القومية هناك من أجل اتجاه برجوازي تخارجي توسعي استعماري  تجلى اساساً في حروب بينية أوروبية قامت جميعها على تضارب المصالح الاقتصادية بين الدول  في أوروبا الغربية التي سيطر فيها نمط الإنتاج الرأسمالي وكان لا بد منها مع الثورة الصناعية التي تجلت في فيض الإنتاج بما يزيد عن طاقة السوق المحلي في الاستهلاك، مما جعل الاستعمار ضرورة برأيهم ومصالحهم،  فكان لا بد للطبقة البرجوازية أن تستخدم القومية للتجنيد ضد القوميات الأخرى مما جعلها سلاحا بيد البرجوازية.

وقد لا نبالغ في القول بأن برجوازية الولايات المتحدة سواء المحافظين الجدد (الجمهوريين) أو الديمقراطيين في حقبة العولمة وهم يطرحون بأن العراق واليوم سوريا خطر على أمنهم القومي، إنما يستخدمون القومية إما لتبرير إرسال جيوشهم لاحتلال العراق في غزو استعماري كلاسيكي أو غزو بالنيابة كما يحصل ضد سوريا سواء بتحريك التوابع العرب والتهيئة لعدوان امريكي غربي مباشر كما حصل في آب وايلول 2013.

انهيت امس كتاب تيري إيجلتون “لماذا كان ماركس على حق” Why Marx was Right,  2011 by Yale University.  وهو من الكتاب الماركسيين البارزين. وقد لفت نظري بأن موقفه من القومية هو الأضعف في كتابه الذي به مساهمات لافتة. فهو في موضع يقف الموقف الكلاسيكي المضاد للقومية ، وهو موقف بالإضافة إلى فهمه الحرفي لنص ماركس، موقف مضروب بالموقف المركزاني الغربي الذي يرى في لا وعيه بأنه طالما تجاوزت أوروبا الغربية حقبة الاستقلال القومي، فقد اصبحت القومية عقبة في طريق الانتقال أو التحول إلى الاشتراكية عقبة ليس في المركز فقط بل في المحيط، ولذا سحب إيجلتون موقف الماركسية الحدِّي ضد الاستعمار والطبقة على القومية بنفس النسبة مرتكزا على اعتبار أن الماركسية بصدد تخليص الإنسانية منها جميعا وبالتالي اعتبر القومية مسألة شوفينية ورجعية ولذا ساوى بينها وبين الاستعمار! (إيجلتون ص 215). دون أن يأخذ المرحلة التي يمر بها المحيط فجاء موقفه في بداية معالجة المسألة فجاً لا يراعي خصوصية القومية في المحيط، ليعود ويرقِّع الأمر لاحقاً دون أن يضع الأمور بجدية المفكر. أعتقد بأنه في دخيلته لا يستيسغ مدرسة (العالمثالثية Third Worldism).

وهنا نضع إصبعنا على تورط الكاتب في مركزانية أوروبية ترى أن ما يحصل وما تصل إليه وما تتجاوزه بلدان المركز (كما اشرنا أعلاه)  يسحب نفسه مباشرة وبلا حساب على مختلف بلدان العالم وخاصة العالم الثالث.

وبالطبع، اخذ هذا كثير من الشيوعيين في العالم الثالث والوطن العربي، وأخذوا يطرحون وجوب الانتقال الثوري إلى الاشتراكية في بلدان متخلفة لم يتبلور فيها لا الوعي القومي ولا الطبقي.

ثم ينتقل إيجلتون إلى خانة وسط متاثرا بما كتبه ومارسه لينين، كمفكر واستراتيجي معاً،   تجاه ولصالح المسألة القومية في بلدان المحيط (العالم الثالث أو المستعمرات) إلا أنه، أي إيجلتون،  في الوقت نفسه يُقوِّل لينين ما لم يقله بشأن القومية، فيكتب إيجلتون:

“وعلى الرغم من موقف لينين النقدي من القومية، فإنه كان أول مفكر رئيسي نقدي تمكن من التقاط أهمية حركات التحرر الوطني. فقد اصر على ما تتضمنه الرومانسية القومية بأن التحرر القومي هو قضية أو شاغل الديمقراطية الجذرية وليس العواطف الشوفينية. ففي جمع نادر وقوي اصبحت الماركسية مدافعة ضد الاستعمار وناقدة للإيديولوجيا القومية” ص 217.

وهكذا تفلت من إيجلتون الأهمية القصوى التي رآها لينين في حركات التحرر الوطني اي دور القومية تحت الاستعمار والاستغلال كقوة مقاومة ليعيدها ويحشرها إيجلتون في خانة الشوفينية بشيء من التعميم مما يبين بأنه لم يتمكن من الفكرة، أو بقي تحت تأثير المركزانية الغربية أكثر مما هو تحت اقتناع بالتحليل الثوري الذي طرحه لينين. كما انه بالطبع لم يلتقط كما يجب ما احتواه البيان الشيوعي من موقف يرى ان القومية هي المرحلة أو الأرضية  المادية الموضوعية التي تمهد بقوة للاشتراكية. وبالطبع فإن تطويرات  لينين على الماركسية في المسألة القومية قد تجاوزت رؤية ماركس وطورتها واقعياً مما قدم مثالاً أساسياً على إمكانية تطوير ماركسيين لكثير مما طرحه ماركس، في حين أن إيجلتون حافظ على حنينه الكلاسيكي لنص ماركس أو اجزاء من نص ماركس وعلى ارتباطه، أي إيجلتون، بما يشبه الحبل السُرِّي بالمركزانية الغربية!

إنه مثل كثير من الكتاب الغربيين يرى بأن القومية في المركز قد وصلت خواتيمها على الأقل عبر تبلور الكتل الاقتصادية الكبرى، وإن على اساس السوق الراسمالي، ولا يرى بأنها في المحيط لا تزال قوة دفع ثورية وتحررية وبأن تهمة الشوفينية لا يمكن سحبها على الأمم الخاضعة للاستعمار ولا سيما خلال مرحلة النضال الوطني والقومي والذي جزء منه محاولات استكمال الاستقلال السياسي الشكلي باستقلال اقتصادي حقيقي. كما أنه ليس شرطا مطلقاً أن تنتهي القومية إلى شوفينية وخاصة خارج الغرب الراسمالي الأبيض.

إن ما يهمنا في هذا السياق هو المسألة القومية العربية التي هي عمليا قومية امة مجزأة ويزداد تقسيمها. وبالتالي فهي حركة تحرر وطني. ومع ذلك يصر كثير من العرب  وغير العرب على وصفها بالشوفينية، أي تجريدها من دورها التحرري رغم ألوان العدوان الحاصلة ضد كل قطر عربي والتي تجعل من القومية العربية حالة تحرر وطني رغم مزاعم الاستقلال. وبالطبع يخلط كثير من هؤلاء بين المسألة القومية العربية وبين تطبيقات أنظمة حكم قومية الاتجاه فاشلة أو ديكتاتورية في بعض القطريات العربية.

ولكن إيجلتون نفسه يعود دون أن يوضح لنا كيف ولماذا، يعود وفي عرض مدحه للماركسية من حيث تاثيرها العالمي ليؤمد على أهمية التحرر الوطني في المحيط فيقول:

” من ماليزيا إلى الكاريبي ، وإيرلندا والجزائر فإن القومية الثورية قد أرغمت الماركسية على إعادة التفكير في نفسها، إعادة تقييم طروحاتها. وفي الوقت نفسه، اتضح  بأن الماركسية قد قدمت لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث شيئا أو مساهمة بنائية أكثر بكثير من مجرد إحلال أو إستبدال طبقة رأسمالية تمأسسها خارجي أجنبي بحكم محلي. كما أنها تتطلع إلى ما هو أبعد من وثن الأمة إلى رؤية أممية. وإذا ما أعطت أو قدمت الماركسية دعماً لحركات التحرر الوطني في ما يسمى العالم الثالث، فإنها فعلت ذلك في حين أنها في الوقت نفسه لم تفقد بوصلتها  حيث تمسكت بأن منظوراتها أو رؤياتها  النهائية لا بد أن تكون اشتراكية أممية وليس فقط قومية برجوازية”(ص 217)

وهكذا تنتهي قراءة إيجلتون إلى الإقرار بعلاقة جدلية بين المسألة القومية في فترة دورها الثوري وبين الماركسية بعدما تجمد عند تحديدات وصف القومي بالشوفينية …الخ. وهنا يبرز السؤال: إلى اي حد تقوم كل من القوى القومية والشيوعية في الوطن العربي بقراءة كل من المسألة القومية والماركسية على ضوء الواقع الميداني والصراع القطبوي  والإقليمي العالميين؟