عادل سمارة
في مثل هذا الخريف، رحل ثلاثة ممن لهم على التاريخ يد، عبد الناصر وجيفارا وجياب. وقد لا يكون غريباً إذا ما تقاطع خريف السنين مع خريف الأفراد. كيف لا والإنسان ابن الطبيعة. ولكن، لندع هذه الروحانيات جانباً.
مأساة جمال عبد الناصر أنه لم يُفهم في حياته، بل بعد رحيله المقهور بقرابة نصف قرن. بل مأساته أنه شهد الهزيمة ولم ينتظر ليشهد النصر، وكأنه يخجل من الفرح، لم يشهد النصر الذي بنى من أجله واقتطفه رجل هو أقل من ظل قائد. ولكن التاريخ حافل برجال ونساء اختطفوا شغل غيرهم، تماما كما يختطف الراسمالي كل يوم شغل العمال. ومع رحيل ناصر رحلت الاشتراكية العربية ونُهب القطاع العام واغتيل الهم القومي والتطلع إلى إفريقيا، ولا يزال الانشطار المتسلسل للقطريات العربية ينذر بالهلاك. عبد الناصر الذي قال للاستعمار ضع عصاك على ظهرك وارحل، أتى بعده من أعاد الاستعمار وكأنه لم يرحل.
الجنرال جياب صنع لفيتنام نصرين على أعتى إمبرياليتين في التاريخ الحديث، واسس بلا مواربة لعبقرية حرب الغُوار في مواجهة الجيوش النظامية المحاطة بالحديد حتى التكبيل. وكأن المتنبي قد شهد تلك الحرب قبل ألف عام حين قال قال في وصف الدروع على الفرسان والخيل معاً:
أتوك يجرُّون الحديد كأنما…سرواْ بجياد ما لهنَّ قوائمُ
أخرج جياب فرنسا ذليلة من بلاده وأخرج الولايات المتحدة أكثر ذُلاً. لم يشهد النصر بل صنعه وبناه كما يقوم فنان ببناء لوحة على مر أربعة عقود. لوحة هي عقله ودمه. وكم كان الزمن رحيماً به لو اغتاله بعد عام النصر 1975 ليرحل وعينيه مكتحلتين بالنصر، بالانتصارات. بقي جياب على قيد الحياة، ولا ندري إن كان يراقب ويكتب عن ما بعد النصر. فما من شك أنه رأى الهزيمة تخترق النصر بجلافة الأمريكي الذي أذله بكلتا يديه بل بعقله. ذهبت فيتنام ما بعد النصر إلى صندوق النقد الدولي، وقدمت “رسالة النوايا”، و”برنامج الظل” و “الأداء المقنع”. وبحلول التسعينات فإن 40 بالمئة من المشاريع التي تملكها الدولة اما اغلقت او سارت بطريق الإفلاس، وجرت إعادة تصدير لكميات كبيرة من الخردوات الأمريكية (أغلفة القنابل وبقايا الحديد) التي خلفتها الحرب (8 مليون طن) تمت اعادة تصديرها إلى أمريكا نفسها باسعار اقل من سعر السوق الدولي بينما كانت تحتاجها مصاهر الحديد المحلية الاربعة. ترى، هل هي برأي امريكا استعادة بقيايا جثث العدوان! أما المتحف المسمى ” متحف جرائم الحرب الأمريكية” فصار اسمه ” بيت معرض تخريب جرائم الحرب”.
في الخريف كذلك رحل تشى جيفارا، وكان قد صنع ورفاقه انتصار كوبا بمستوييه المشتد في حرب الغُوار والممتد في الصمود في وجه الولايات المتحدة نفسها، على حدودها المائية. وهذا ما يذكرني بقول المتنبي في سيف الدولة:
وقفت، وما في الموت شك لواقفٍ…كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تشى جيفارا قرر أن يرحل وهو يصنع النصر ويرفعه من المستوى المحلي إلى الأممي، واستشهد في الميدان.
وظلت كوبا لم تتراجع، ولم تتبنى الانفتاح الاقتصادي ولم تنهار مع تفكك الكتلة الشرقية وأمها الكبرى الاتحاد السوفييتي. ومن رحم معاناتها لأطول وأوحش حصار راسمالي في التاريخ، تمفصلت عنها ومنها فنزويلا وأكثر من دولة في أمريكا الجنوبية.
لطالما خالج المرء هذا السؤال: أين يكمن سر انحراف ما بعد الثورات؟
وهل يمكن لنا القول بأن أخطر المابعديات هي/و: ما بعد الثورات؟
ليس ما يلي مجرد فتوى، بل استنتاج تختلط فيه المرارة بالوعي مما يكوي الوعي ليتألق: بأن الكثير من الثورات قد عجزت عن نقل تراثها إلى جيل وأجيال ما بعد الثورات. وإذا كان للثورة المضادة نصف “رصيد” اجتثاث تراث الثورات، فإن للثوار نصف رصيد اجتثاث تراثها. فدائماً يجب التذكير والتثقيف بما بُذل من دم حتى كان الانتصار، وهذا يُحرج الثوريين المنحدرين نحو الغدر قبل أن ينبه الجيل الجديد لهذا الغدر وكل هذه أمور طبقية، والأهم أنه دائماً يجب أن تراقب الثورة شخوصها بعد الانتصار، ويجب على تواضع المقاتل أن لا يدفعه إلى التعفف عن قتال الانحراف فيموت قديساً، ولكن تموت البلد. لا جدال بأن ديكتاتورية ما بعد الثورة كانت آلية اغتيال الثورة، ولكن لا جدال كذلك بأن فريقاً من الثوار كان يجب أن يحرسوا الثورة متسلحين بديمقراطية حق الأكثرية في مواصلة الثورة وهو الحق الذي لا يقوم إلى على اساس القطيعة الواعية أو فك الارتباط بالنظام الراسمالي العالمي.
كتب كثيرون عن فك الارتباط على يد الدولة/السلطة الوطنية أو التقدمية أو “الاشتراكية”. ولكن التجارب تفرض طريقاً آخر بعد الثورات، طريق ابعد من فك الارتباط الدولاني، اي على يد الدولة/السلطة بل فك الارتباط بالحماية الشعبية التي تُلحق السلطة بها ولا تُلحق هي بالسلطة.