محاضرة للدكتور خليل نخلة حول كتابه الجديد

  فلسطين: وطن للبيع   

الناصرة، مكتبة أبو سلمى البلدية، 9.10.2013

 

تنويه: لكي نضع الأمور في سياقها الصحيح

 

  1. لا يمكن فهم ما يجري الآن في المناطق الفلسطينية التي إحتلت في العام 1967 دون ربط ذلك في ما إحتل من فلسطين في العام 1948.
  1. وبالتحديد، لا يمكن فهم ما يجري الآن في المناطق الفلسطينية التي إحتلت في العام 1967 دون فهم ومعرفة رزمة الخطط التي تم جر منظمة التحرير للتوقيع عليها في إتفاقية أوسلو في 1993، وما تلاها وما يتلوها من إتفاقيات في “حسبة” ما يسمى “بالعملية السلمية”.
  1. ورزمة الخطط هذه التي وقعت “قياداتنا” عليها، ثبتت رسميا: (1) تجزئة الشعب الفلسطيني إلى فلسطينيين الضفة الغربية وقطاع غزة، وفلسطينيين القدس، وفلسطينيين 48،  وفلسطينيين الشتات؛ (2) تمييز الوضع الإداري أو وضع الحكم بين كل فئة من هذه الفئات؛ (3) تجزئة الجغرافيا الفلسطينية وتوصيفها بمسميات مختلفة؛ (4) تصنيف المناطق المحتلة في 67 إلى ثلاث فئات، ألف وباء وجيم؛ (5) إنشاء “حكم ذاتي” صوري في مناطق ألف وإلى حد معين في مناطق باء، خاضع للإحتلال العسكري والإقتصادي والإداري الإسرائيلي ويقوم بالتنسيق الأمني مع هياكله؛ (6) التبعية المطلقة للإقتصاد الفلسطيني في مناطق السلطة للإقتصاد الإسرائيلي.
  1. وبالتالي سيكون تركيزي في هذه الأمسية على مناطق “الحكم الذاتي” في فلسطين التي إحتلت في العام 1976، وتحديدا بالتحليل لكيف إستبدلت “عملية أوسلو” النضال للتحرر الوطني بكولونيالية إقتصادية جديدة، إرتكازا على كتابي الجديد “فلسطين: وطن للبيع”.

 

إن محور  الكتاب هو تحليل لعملية التحكم الإستعماري بالبنية الإقتصادية الفلسطينية والتمويل والنخب التكنوقراطية والسياسية والرأسمالية.  ويأتي هذا التحليل كخلاصة لإعادة نظر متأنية ومتعمقة  لما ينيف عن خمس وعشرين سنة من الخبرات الشخصية المباشرة والمشاهدات الميدانية المحلية والإشتباك الشخصي والمباشر مع مصادر التمويل الخارجي (أو ما يسمى بالدول المانحة)، والمؤسسات ‘غير الحكومية‘ عابرة الحدود القومية (transnational )، والمؤسسات الأهلية الفلسطينية، وكبار أصحاب ما يسمى ‘بالرأسمال الوطني‘، ومحاولة ترجمة إستراتيجيات المشاريع المكتوبة على الورق إلى ‘تنمية‘ محلية، إلخ.

 أتطرق في التحليل في هذا الكتاب   إلى نهج وعملية تسويقية شاملة، متشابكة ومتدحرجة، تعم مناطق ما يسمى “بالحكم الذاتي” الفلسطيني، حيث يترابط فيها السياسي والإقتصادي والوطني، من خلال النخب السياسية والرأسمالية “الأوسلوية”، والفلسطيني والعربي والصهيوني والغربي، محليا وإقليميا ودوليا. وبدأ  يظهر هذا النهج،  في جوانبه العملية وإسقاطاته الفعلية، على الأقل منذ الإجتياح الإسرائيلي العسكري للبنان في 1982،  حين تمخضت الهجمة الصهيونية الأمريكية الإسرائيلية عن تقويض منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وتفريغها وتجويفها من مضمونها النضالي التحرري، وتحولها إلى بيروقراطية إدارية دولانية.  وفي هذا الإطار، بالتحديد، علينا قراءة بيان “الإستقلال” الذي نجم عن المجلس الوطني الفلسطيني في جلسته في الجزائر عام 1988، والمحاولات الحثيثة التي تلته في اللهاث وراء قبول ما يسمى “المجتمع الدولي” بنا، وفقا لشروطه.  ونتيجة للعملية الناجحة في ترويض وبرقرطة المنظمة، وسحب البساط النضالي من تحت الإنتفاضة الشعبية، تمخضت هذه العملية عن “مؤتمر مدريد للسلام” في 1991، وإستكمال مفاوضات أوسلو بنجاح وتتويجها بالتوقيع على “إعلان المبادئ” في البيت الأبيض في 1993.  هذا طبعا بإختصار جدا.

وبهذا أسهمت فعليا منظمة التحرير في  بسط إستعمار جديد  على فلسطين المحتلة 1967.  وأصبح هذا الإستعنار الجديد ممكنا تحت مظلة النيولبرالية المعولمة، التي فرضت بقوة على مجتمعات دول الجنوب من خلال مراكز الرأسمال الغربي والمؤسسات التمويلية عابرة الحدود القومية، وعلى وجه الخصوص، صندوق النقد الدولي والبنك الدولي اللذان سوقا وبقوة النيولبرالية، في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي في دول ومجتمعات أمريكا الجنوبية وأفريقيا والشرق الأوسط. وكما يقول جورج قرم في كتابه الجديد[1] عن منظري نيولبرالية ملتون فريدمان من جامعة شيكاغو، “فمنذ السبعينيات يعيث جيش من ‘الخبراء‘ الدوليين فسادا في كل مكان تقريبا، ناشرين الفقر والبطالة بواسطة الوصفات التي حملوا حكومات عديدة على تبنيها”.  هذه عملية إستعمار جديد إقتصادي- إجتماعي تتغلغل في المجتمعات من خلال خصخصة الخدمات الإجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم والرعاية الإجتماعية، ورهن شعوب هذه المجتمعات من خلال تسهيل الحصول على القروض وزيادة وتنويع أنماط الإستهلاك الإستعراضي، وبالتالي زيادة مستويات المديونية والبطالة.  مما يؤدي إلى زيادة إفقار الشخص العادي وخضوع أغلبية هذه المجموعات السكانية للنخب السياسية والإقتصادية المعولمة التي تتحكم بجل الموارد السياسية والإقتصادية، بعيدا عن أي تدخل للدولة في المجال الإقتصادي.

هذا هو “الإختبار” الذي نسير في كنفه في إطار “الحكم الذاتي”، كما سارت فيه شعوب أخرى في الجنوب تحت مسميات متنوعة، مسرورين ومتلهفين للوصول إلى “التنمية المتخيلة” في ظل الإحتكارات والإستغلال الإقتصادي، ساعين، وللمفارقة، للتأكد كل شهر من أشهر السنة “إذا الراتب نزل على البنك!”.

 الإستعمار الجديد في كنف “العملية السياسية الأوسلوية”: كيف يعمل؟

أناقش هنا بأن إدعاءات التنمية الرسمية الفلسطينية قد أصبحت إدعاءات مجتزأة ومشوهة ومستأطرة.  فالواقع هو أن “عملية أوسلو” أعادت إنتاج  فئات طبقية جديدة من النخب الإقتصادية-السياسية-الإجتماعية المفرغة من المضمون السياسي الوطني، والتي أصبح دورها الأساس يتمثل في ترسيخ الوهم الجماعي بأننا نسير على طريق تحرير الأرض ونحو  هدف التحرر الإقتصادي.  وما أحدثته هذه العملية من مفارقات هو نشوء  تحالف ثلاثي غير رسمي مشكل من: (1) النخب السياسية الرأسمالية الفلسطينية المستحدثة، (2) المنظمات الفلسطينية ‘التنموية‘ غير الحكومية،  و (3) الدعم السياسي الخارجي (الغربي) الذي توفره وكالات المساعدات العابرة للحدود القومية (أو ما يسمى بالمانحين).

 لا يمكنني ان أزعم أن هذا التحالف هو بالضرورة تحالف واع  لذاته، أي أنه تحالف مخطط له مسبقا من قبل الأطراف الثلاثة المعنية.  ولكن، وبإستمرار قبول الوضع الراهن الذي بني على فرضية داخلية تم الترويج لها، ومفادها عدم وجود أي تناقض بين الإحتلال الإستيطاني  و”تنمية” المجتمع، بل أكثر من ذلك، بأن هذه “التنمية المتخيلة” لا يمكن أن تحدث إلا بقبول إستمرارية هذا الإحتلال كظاهرة طبيعية، والتطبيع معها،  يصبح هذا التحالف الثلاثي هادفا ومتعمدا.  فكلما إزداد التقارب بين أطراف هذا التحالف الثلاثي أصبحت إدعاءات التنمية الرسمية أكثر أسطورية وخداعا، أي بعبارة أخرى، يصبح هدفها الأساسي هو تهميش أكبر عدد ممكن من الناس.

ما يميز هذا الإستعمار الجديد تحت سلطة “الحكم الذاتي الفلسطيني” هو أنه لا يميز فلسطين المحتلة 1967 عن باقي المناطق في العالم التي أخضعت لهذا النوع من الإستعمار الجديد، إبتداء من السبعينيات من القرن الماضي، وضمنت إستدامته من خلال هيمنة قيادات محلية (توصف بالوطنية)، أفرزتها هذه العملية كمقوم أساسي لنجاحها.  وبالتالي إستبدلت هذه “القيادات” رموز الحكم الخارجي.  وبما أن فلسطين ما زالت فعليا تحت قبضة الإستعمار الإستيطاني الصهيوني، من المهم، لفهم هذا التطور بشكل أعمق وأشمل، إعادة قراءة، جدية ومتمعنة، لأعمال فرانز فانون، مثلا،  حول الدول المستعمرة تقليديا في أفريقيا، والبلدان التي تم إنهاء الإستعمار الأصلي رسميا فيها، لنرى بأن هذه التطورات فيها تشابه، بشكل مذهل، مع التطورات الجارية حاليا في فلسطين المحتلة 1967 في القرن الواحد والعشرين.  من هذا المنطلق الهام، لا يمكن ان يقتصر التحليل الحالي على فلسطين ‘الضفة والقطاع‘ كنموذج فريد من نوعه.  تحليل هذه الظاهرة يجب أن يكون  ذا نطاق أوسع: إنه تحليل للمظهر الذي سيظهر به ‘الإقتصاد السياسي للشعوب المقموعة‘، أو ‘الإقتصاد السياسي للشعوب المحتلة‘ في القرن الحادي والعشرين المعولم، ليس فقط في دول ‘الجنوب‘ بل في تلك ‘الرقع‘ من ‘الجنوب‘ المتداخلة والمعششة في دول ‘الشمال‘ الرأسمالية.

 ويضطرنا هذا النهج، بحكم التعريف، إلى تناول  الدروس الهامة التي يمكننا تعلمها، مثلا، من تجربة جنوب أفريقيا الممتدة منذ عام 1994، عندما إستبدل نظام الفصل العنصري المنحل بفئة اجتماعية نخبوية من السيطرة والقمع الإجتماعي، وبنظام للإستغلال ممارس من قبل القيادة الشعبية للسكان الأصليين التي نصبت نفسها لإحتلال هذا الموقع بدعم صوري من السكان المحليين، وبتشجيع وتخطيط واع من مؤسسات مراكز الرأسمال العالمية المهيمنة.  ومن مميزات هذين الإختبارين في التحول “التحرري” المزعوم : إحلال هيمنة خارجية إستغلالية بأخرى داخلية إستغلالية، ولكنها مغلفة بسردية “محلية نضالية وطنية” أو “عرقية”، نتاجا لعملية نضال متواصلة.  وتجويف الميثاق الناظم والموجه من مضمونه النضالي التحرري من القمع والإستبداد الإقتصادي مثلا، تمرير مسخ ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية بدفع من الولايات المتحدة الأمريكية وتحت إشراف رئيسها، لتسهيل قبول الكيان الصهيوني كظاهرة طبيعية، وإعادة هيكلة بنود “ميثاق الحرية” للحزب الوطني (ANC) في جنوب أفريقيا لتسمح بتسلط الرأسماليين السود على الموارد الإقتصادية.

 

التحديات التنموية المجتمعية التي تواجهنا في ظل هذا الإستعمار الجديد

 

غياب السيادة

أعني هنا بالتحديد غياب السيادة الكلية، أي السيادة السياسية والإقتصادية والغذائية والتربوية والصحية.

بعيدا عن الأشراك المضللة والخادعة، أو التسميات التسويقية  المتمثلة ‘بالحكم الذاتي‘ و‘الحكومة‘ و‘الوزارات‘ و‘البرلمان‘، إلخ، ما زلنا نعيش في مناطق ‘الحكم الذاتي‘ المحتلة، في ظل وضع تغيب فيه بشكل تام السيادة السياسية والإقتصادية والغذائية والتربوية والصحية الحقيقية، لا المزعومة.  وبعبارة أخرى، نحن نعيش اليوم في حالة من الإذعان إلى نظام  مستمر من الإحتلال العسكري- الإقتصادي، سواء كان مفروضا بشكل مباشر من قبل قوة الإحتلال الاستعمارية نفسها، أو من خلال نظام السيطرة المبني على التعاقد من الباطن والممارس من قبل الفلسطينيين أنفسهم. لذا فإن القضاء على الإحتلال الإستيطاني والفصل العنصري، الطبقي والإجتماعي والفكري، المباشر منه والمتعاقد عليه، يصبح شرطا ضروريا لتحقيق التنمية.

برأيي، يبدو أكثر وأكثر  واضحا، أنه تم إختراع سلطة الحكم الذاتي الفلسطينية لتكون نموذج تحكم للتجريب وإعادة الهندسة. ويبدو أن جوهر هذه التجارب يدور حول السؤال التالي: كيف يمكن إعادة تشكيل وقولبة ‘دولة وطنية‘ ملفقة، متخيلة، ومنزوعة السيادة لتصبح بحجم شركة حديثة صغيرة، يمكن السيطرة عليها، ويديرها كبار المدراء التنفيذيون ‘السياسيون‘ (CEOs) وفئة المنظمات غير الحكومية التي أعيد تسييسها وتصميمها، وينظمها و يحافظ على بقائها جهاز أمن جيد التدريب، إعتمادا على دعم وتدريب هائل من الأمريكيين والأوروبيين.

الطبقة الرأسمالية الفلسطينية وتجارة التنمية المعولمة

إن الطبقة الرأسمالية الفلسطينية بجناحيها، المغتربين (فلسطينيو الشتات) وفلسطينيي الداخل (ألذين نبتوا وتطورا هنا)، التي أعيد تكوينها في إطار أوسلو، هي بطبيعتها، وفي المقام الأول، طبقة غير ملتزمة، وغير معنية وغير قادرة على ‘تطوير‘ نوع من المجتمع المتماسك اللازم لمقاومة الإحتلال و التخلص منه. على العكس من ذلك، إن همها الأساسي هو إطلاق المشاريع الرأسمالية الإستهلاكية والإبقاء عليها والتوسع فيها، أي ثقافة الإستهلاك، والتي تعتمد بشكل أساسي على التعاون  والعمل المشترك، مع هياكل الإحتلال (المادية والبشرية والإقتصادية)، وبالتالي، المساعدة واقعيا على ترسيخ الإحتلال ولكن تحت مسميات مختلفة. همني أن أبين أن الإدعاءات العلنية والمتكررة بأن الرأسماليين الفلسطينيين هم ‘دعائم‘ أو ‘رافعي‘ التنمية، وأن استثماراتهم المالية والتكنولوجية هي ‘محركها‘، ليست سوى ضرب من الخيال.  إن ما يجري التأسيس له، منذ الشروع بما يسمى ‘بالعملية السلمية‘ والتي تدرجت إلى مفاوضات أوسلو، ليس أكثر من تجارة تنمية، وصناعة تنمية، وشركات تنمية قابضة (محدودة الضمان)!  انه الإندفاع للمذهب التجاري وقمة نشاطه هو التفاعل بين رأس المال، والنخب السياسية والمنظمات غير الحكومية والتمويل الدولي.  إنه برنامج  ‘تجارة تنمية معولمة‘ يشق طريقه ويستخدم في هذه المرحلة المناطق الفلسطينية المحتلة 1967، مركزا  له وحالة للاختبار.  في ‘تجارة التنمية المعولمة‘ هذه، لا يمثل الرأسماليون الفلسطينيون وبيروقراطية ونخب أوسلو السياسية (والفكرية المشرعنة لها)، وهياكل المنظمات غير الحكومية ‘التنموية‘، الناشئة حديثا، سوى وكلاء محليون ومقاولون من الباطن وسماسرة لمراكز رأس المال الغربي ووكالات التمويل المعولمة.

 

الإعتماد المطلق على المساعدات الدولية الغربية، وطغيان وتحكم وكالات التمويل العالمية، ومديونية السلطة، والفقر والإفقار

هناك تناقض كامن بين الإعتماد الفلسطيني المطلق على المساعدات الدولية الغربية، والتوقع الرسمي بأن تؤدي هذه المساعدات المالية، والتي فاقت 23 مليار دولار منذ 1994، ومصدرها الأساسي هو الحكومات  والوكالات الغربية، إلى تطوير وتحرير الشعب والمجتمع الفلسطيني  وإنتشاله من الفقر والإفقار الذي صنعه نظام الإحتلال الإستيطاني المفروض على هذا الشعب،  وهو النظام نفسه الذي يتم دعمه وضمان إستمراريته من قبل هذه المصادر نفسها.  إنها مساعدات سياسية بامتياز، تقدم للفلسطينيين بهدف الإذعان والخضوع لأجندة وبرنامج سياسي مفروض عليهم.  إنها بالتأكيد ليست مساعدات تهدف إلى تحفيز وزيادة القدرات الإبداعية المحليةوالمنتجة، بل  تركز على الإستهلاك، الممكن فقط من تدفق الأموال الريعية، أي غير المستثمرة في الإنتاج الفعلي، وعلى جعل الناس رهائن.  إنها مساعدات معادية للإنتاجية والتحرر.

نسبة “الإعتمادية على المساعدات” في مناطق سلطة “الحكم الذاتي” الفلسطينية أخذت بالتزايد تدريجيا منذ عام 1999.   إلا أنه على الصعيد المحلي، من حيث الإدراك والسلوك، يبدو أنه ثمة إعتماد كلي على المساعدات الخارجية يقوّض أية مبادرة للعمل المحلي، صغرت أم كبرت. ولقد تم السماح لوكالات الدعم العالمية، خاصة الوكالات الحكومية (مثلا USAID) أن تتمتع بسلطة تشبه السيطرة الإستبدادية، وبالتالي الخضوع لمصادر هذه المساعدات، كونها المصدر الرئيس في تغطية رواتب حوالي 170000 من موظفي السلطة، من مدنيين وعسكريين.  وهكذا، ونظراً إلى أن دول الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليابان تشكل المصدر الرئيس للمساعدات الخارجية، فمن السهل علينا أن نرى حينها مدى الخنوع الكبير ومدى مديونية سياسات السلطة الفلسطينية تجاه هذه الكتلة من الدول الرأسمالية، التي تسعى بشكل حثيث لتجزئة وتدمير وطننا.

في ظل هذا النمط من الإستعمار الجديد، هناك مؤشرات مقلقة:  تصل مديونية السلطة الآن إلى حوالي 4.3 مليار دولار أمريكي، منها الديون الداخلية للمصارف المحلية وغيرها، والديون الخارجية بشكل قروض للشركات التي إلتزمت السلطة نحوها، وستتكبد أجيالنا المستقبلية عبء دفعها، ناهيك عن مديونية الفرد الفلسطيني  تجاه المؤسسات المالية المحلية والتي تشمل الإسكان، والأعمال التجارية، والمواد الاستهلاكية، والتعليم العالي، والصحة، الخ، والآخذة بالتعاظم خصوصا في الآونة الأخيرة، التي تتميز بعدم قدرة السلطة على دفع رواتب موظفيها، والتسارع في نسب البطالة (والتي تفوق 45 بالمئة بين مجموعات خريجي الجامعات ومؤسسات التعليم العالي والفئة العمرية من تحت 30 سنة)، وشرذمة النسيج الإجتماعي.

كما يمكن ملاحظة الظواهر التالية التي أفرزها النظام الإستعماري الجديد:

  • تم الإستعاضة عن معارضتنا الإبداعية التاريخية الثورية ضد الظلم والإحتلال بـ”معارضة محكمة”، يسارية، وممولة جيدا من ذات الموارد، ومدجنة؛
  • أصبحت المنظمات غير الحكومية ‘التنموية‘ المهنية والإدارية غير المسيسة، والمعاد تسييسها، والتي تم إختراعها وإستدامتها من قبل وكالات المساعدات الحكومية العالمية، بديلا عن القاعدة الشعبية الشاملة والحركات الإجتماعية والإقتصادية المسيسة؛
  • أصبح الإعتماد على رواتب وظائف القطاع العام، التي تم إصطناعها، بديلا عن القطاع الإنتاجي الذي يولد فرص عمل مستدامة؛
  • أصبحت الإستثمارات الرأسمالية في إحتكارات الإستهلاك والخدمات المقبولة لدى الإحتلال والمعتمدة على التعاون معه، بديلا عن المؤسسات الصغيرة الإنتاجية الأصلية المستدامة؛
  • تم إستبدال ما نستطيع القيام به بمهاراتنا ومواردنا وخبراتنا الفنية الأصلية بالأموال التي نحتاج اليها، وحشدها من وكالات المساعدات الخارجية؛ وهذا يؤدي إلى نظام معياري سائد يحترم ويفتخر بالمشاريع الممولة خارجيا، عوضاً عن تلك التي تستهلها الطاقات التطوعية والموارد المحلية؛
  • بروز شركات محلية (مثلا شركة الإتحاد) لتسجيل العقارات والأراضي في مناطق (ب)، أي المناطق الريفية، بعد  “شرائها” بأسعار زهيدة جدا،  لا تتجاوز  في بعض الأحيان 100- 200   دولار للدونم لتصل في أقصى حدودها إلى 3 الآف دينار للدونم،  من الملاكين الفقراء والناس البسطاء (وإستغلال هؤلاء الناس بسبب الحاجة الإقتصادية السيئة وإقناعهم من خلال السماسرة لبيع الأرض بهدف تسجيلها “والمحافظة عليها من المصادرة”—تمويه وكذب—وبيعها يأسعار خيالية بعد تسجيلها لأغنياء فلسطينيين مغتربين، بهدف الإستثمار، وليس بالضرورة للعودة والسكن هنا!
  • أصبحنا نستهلك بفخر وإعتزاز ما لا ننتج، ونأكل ما يصدره لنا عدونا أو يسمح لنا بإستيراده.
  • كما أصبح من البذخ الفكري (كأنك آت من المريخ!) طرح أي إقتراح لتوجيه تركيزنا على الإنتاج الزراعي الغذائي، والتقليل من الإستهلاك الإستعراضي المعتمد شبه كليا على الدين والإقتصاد الريعي، والتركيز على المجهودات التطوعية الذاتية والتكافل المجتمعي، والإفادة من دروس تاريخنا وخبراتنا ودروس المجتمعات المستعمرة الأخرى، بهدف مواجهة هذه التحديات.

بعض الإستنتاجات الأولية

من الواضح أنه توجد أمامنا مسؤوليات جسيمة في مواجهة هذه التحديات، إذا كنا فعلا نسعى لتحرير العقل والوطن.  ويمكنني تلخيص نهج مجابهة هذه التحديات في بعض الأمور التالية:

  1. 1.    إعادة تعريف وتوجيه وعينا الجمعي وفهم الإتجاهات العالمية التي تؤثر بنا

 

لقد نضجت أفكاري مع كتاباتي فيما كنت أتأمل في الاتجاهات العالمية التي تقولب العالم، وتقولبنا نحن بالطبع، كوننا جزء من هذا العالم. الآن، لا أستطيع إعتبار ما يحدث لنا مجرد تطور عرضي جاء نتيجة بنية لا ترحم من الإحتلال العسكري-الإقتصادي الإسرائيلي،  والأيديولوجيات العنصرية الصهيونية غير المرتبطة بهذه الإتجاهات العالمية. الأمر الذي دفعني للتفكير في مستقبل بلدي – بلدنا فلسطين – خلال السنوات العشرين أو الخمسين المقبلة؛ وأية ‘فلسطين‘ ستكون؟ كما وحثني هذا التأمل إلى الإبتعاد عن المطالبات الرسمية والتقليل من شأن الإدعاءات الرسمية والإنشغال الفلسطيني العام والمتواصل بإقامة ‘الدولة القومية‘ غير القابلة للاستدامة، ذات التبعية، ومنقوصة السيادة. وكل هذا فقط لتكون مدرجة في سجل الأمم المتحدة ومن دون توفير الحرية والعدالة بالضرورة لشعبها – شعبي أنا – الذي كافح وعانى طويلا من أجل تحقيقهما. إنني مقتنع تماما أنه ينبغي لنا إعادة تعريف وتوجيه وعينا الجمعي حول ماهية ‘المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا‘ من خلال نضالنا، والتركيز عوضاً عن ذلك على خلق وطن قابل للحياة وغير محدود، جوهره مجتمع فلسطيني محرر ذاتياً ومرن وحيوي. فالقلق المفرط حيال إنشاء ‘الدولة القومية‘ هو، في رأيي، أمر مضلل وقد عفا الزمن عليه ومضا. إن الإتجاه العالمي هو نحو إبتكار عالم تسيطر عليه شركات تتحايل وتقوّض مفهوم القرن التاسع عشر ‘للدولة القومية‘، ليحل مكانها هيكليات إقليمية (إن لم تكن عالمية) من الشركات أو التكتلات الإقتصادية والسياسية المعولمة ذات المصالح المتماهية.  لتحقيق ذلك، نحن بحاجة إلى فهم الإتجاهات العالمية التي تؤثر بنا أو التي تشكّل بشكل مباشر أساس نضالنا. ما هي هذه الإتجاهات وما الذي علينا فعله لإحتوائها وعكسها؟

أشعر أنه لا بد من مناقشة بعض الأبعاد المعينة لفهم كيفية تأثير نظام الحكم العالمي الناشئ علينا، وبالتحديد:

  • نزعة المديونية  للأنظمة المالية التابعة للشركات العالمية المعولمة العابرة للحدود القومية،
  • والفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء،
  • فشلنا، أو عدم رغبتنا، في التعلم من بعض الأمثلة في بعض الدول ‘المحررة‘ التي قامت بخيانة مصالح شعوبها (جنوب أفريقيا كنموذج)،
  • وكيف أصبحنا، بسبب مساعدات وكالات الدعم العالمية، مرهونين، ليس فقط عقاريا بل فكريا أيضا، وكيف صار أن قبلنا بإعادة تسييسنا واستعمارنا وخصخصتنا (في سياق النيولبرالية المفروضة علينا)؟
  1. 2.    إعادة هندسة البيئة الإجتماعية والثقافية السائدة

 

تحت طغيان تمويل الشركات الغربية، تدهورت المكونات الهامة والقابلة للحياة للمجتمع المدني[2] بل وأمست شبه بائدة. إستنادا إلى التحليل في الأجزاء المختلفة من كتابي الأخير (المشار له سابقا)، التي ركزت على الكيفية التي عملت فيها مصادر التمويل الخارجي على انتشار المنظمات غير الحكومية ‘التنموية‘ على حساب الحركات الجماهيرية المسيّسة، أصبح من الواضح أين يكمن التحدي. بغية تسهيل عملية تشكيل بيئة التنمية التحررية المرتكزة على الناس، ينبغي أن يكون هدفنا إعادة صياغة وتفعيل وهندسة حركة جماهيرية سياسية وإقتصادية وإجتماعية مبنية على العضوية وقابلة للحياة. وينبغي أن تتضمن عناصرها الرئيسة الأحزاب السياسية اليسارية المجددة، ونقابات العمال الإنتاجية، والصحافة المحلية المستقلة، والحركة الطلابية، والحركة الشبابية، وائتلافات من مختلف مجموعات العمل التطوعي.

بعد إنهاء إنتفاضة 1987 من خلال احتوائها بوعد خادع في وضع حد للصراع بالوسائل السياسية، وبعد أن تبين بوضوح أن الوعد بإيجاد حل عادل كان وعدا كاذبا ومضللا، بدأت البيئة الإجتماعية والثقافية بالإنزلاق في تهالك تدريجي. وقد تم توجيه أسلوب العمل اليومي من خلال مجموعة قيم ثقافية متنافرة صممت خصيصا لتحل محل نظام القيم التقليدي القائم. وفي سياق سيطرة المحسوبية الرأسمالية، والزبائنية السياسية الفاسدة، وإساءة استعمال السلطة والامتياز، والتعاون وتطبيع العلاقات مع هياكل الاحتلال، وغياب الأمن الشخصي، وتزايد الفقر والبطالة، أصبح من الواضح أن جوهر العمل قد استند على دوافع الربح السريع والوفير، والإستعداد للقيام بكل ما هو ضروري للحصول على أموال من المنظمات غير الحكومية ووكالات الدعم العالمية، وغياب التضامن الإجتماعي الجماعي والمبادرات التطوعية، وتثبيت الإهتمامات والمصالح الشخصية بدلا من العناية بالمصالح المجتمعية والجماعية. وفر هذا الوضع أرضية للخلاص الشخصي وللسيطرة والنجاح من خلال الوصول إلى أصحاب النفوذ من النخب السياسية والإقتصادية الحاكمة (المحلية والمعولمة) والولاء الشديد لها.

أنجبت هذه العملية طبقات جديدة مهجنة لا علاقة لها بوسائل أو عملية الإنتاج على غرار طبقة المنظمات غير الحكومية، طبقة ‘أجهزة الأمن‘  والطبقة “البيروقراطية”، وما إلى ذلك، والتي لا تشكل سوى إحدى تفرعات عملية أوسلو، والتي وظيفتها ترسيخ هذه العملية.

علينا أن نتذكر دائما بأن شعبنا هو أكبر وأهم أصولنا. ولا يمكن لهذه الأصول أن تكون فاعلة ما لم تتوحد بتصميم واقتناع بأن مجتمعنا الفلسطيني يحتاج إلى دعمنا. فنحن نمتلك فيما بيننا مخزونا ضخما من الموارد المحلية ونسيطر على هذا المخزون ويمكننا تجديده ووضعه للإستخدام تماما كما فعلنا بشكل رائع خلال الإنتفاضة الأولى. فقد استخدمت هذه الموارد بشكل فعال في ذلك الحين لا كمصادر ممولة من قبل وكالات خارجية  و‘جهات مانحة‘، بل لأن الناس تماهوا مع احتياجات مجتمعاتهم؛ آمنوا بقوتهم الجماعية الكامنة، وحولوا الإلتزام الداخلي إلى نضال ضد سلطة إحتلال قمعية، وعزموا على وضع حد لها. لا تزال سلطة الاحتلال والقمع نفسها تسيطر علينا ولكن بشكل تدميري كبير، من خلال الإستخدام المباشر لبعض من شعبنا، ما يسمى بقيادتنا، وشرطتنا، وأصحاب رؤوس الأموال وغيرهم، تستخدمهم كوكلاء من الباطن لإحكام قبضة سيطرتها.

كما أنه علينا أن  ندرك، على مستوى آخر، أننا، كجزء من الوطن العربي، قد كنا في فترات معينة من تاريخنا، السلة الغذائية للمنطقة. أما الآن فليس لدينا أمن غذائي ولا سيادة غذائية في معظم الأمور الأساسية التي نحتاجها لصحتنا ورفاهنا. ينبغي لنا أن نعود إلى زراعة أراضينا بأفضل السبل التي نعرفها، وتطوير هذه الزراعة عبر الطرق التي لا تعتمد على المدخلات الخارجية، وللقيام بذلك، يتعين علينا أن نستثمر كل مواردنا المالية والبشرية في إطعام شعبنا، وليس في الاعتماد على الآخرين، وخاصة أعدائنا، لتأمين الغذاء لنا. لا يمكننا الإستمرار في السماح لإسرائيل وهيكلها الإحتلالي بمواصلة السيطرة على أكثر أراضينا الزراعية خصوبة، كما لا يمكننا الإستمرار  بإستهلاك ما لا ننتج كأنه ظاهرة طبيعية!