الإخوان والمخابرات
(الجزء الثاني)
شادي عمر الشربيني
2- قضية 1965… ذكريات النار و الدم
عندما أكتب مقالا أعرف أن مسئوليتي ككاتب في أزمة وطنية ليست بالقليلة.. فالكتابة عموما ليست مجرد قلم يلهو ويعبث ويركض حافي القدمين على ورقة ويترك آثار أقدامهالدقيقة عليها.. وهي ليست مصفوفة رياضية أو رموزاً غامضة جامدة على شاشات الكومبيوتر.. والكلام في الأزمات الوطنية اذا لم يكن يمر على تدقيق الضمير الوطني ومعادلاته فهو حتما محشو بالمخدرات وحقن الهيرويين أو بالمتفجرات والعبوات الناسفة.
في المقال الأول من هذه السلسلة تعرضنا إلى تصريحات “أبو العلا ماضي” بشأن المخابرات العامة المصرية، خاصة أن كلام “ماضي” لم يكن بناء على معلومات خاصة به بلنقلا مباشرا عن رئيس الجمهورية، و قلنا أنه حتى نفهم أكثر كلام “ماضي”، يجب طرح السياقات التي جاء فيها، و أن هذا الكلام هو حلقة في سلسلة من التصريحات تضمنتأيضا التحريض على الجيش، و قبلها اتهام للمخابرات، جاء على لسان الدكتور “محمد البلتاجي”، بأنه جهاز يسعى لنشر الفوضى و الخراب في مصر، و انتهينا إلى أن الفهمالصحيح لطبيعة العلاقة بين الاخوان المسلمين و جهاز المخابرات العامة المصرية، يستعدي فتح ملفات تلك العلاقة و التفتيش عن جذورها و فهم تطورها، و أن نقطة البدايةبالتأكيد هي قضية تنظيم 1965.
1- التقاء مصالح و تطابق أهداف
من المعروف أن الصدام بين جماعة الإخوان المسلمين و “جمال عبد الناصر” شهد ذروتين، الأولى كانت سنة 1954، و لكن وقتها كان جهاز المخابرات العامة المصرية فيبدايته، أو تحت الإنشاء بمعنى أدق، و لم يكن له أي دور من قريب أو بعيد في هذا الصدام، و الذروة الثانية كانت سنة 1965.. عندما تم الكشف التنظيم القطبي..
البداية كانت سنة 1960.. حين قرر “جمال عبد الناصر” رفع الأحكام العرفية.. و الإفراج عن كل المسجونين الإخوان من الذين كان قد صدر ضدهم أحكام.. و تم صرف جميعمستحقاتهم بأثر رجعي، بموجب قانون تم استصداره من مجلس الأمة ينص على أن تعاد لجميع المفرج عنهم حقوقهم كاملة.. ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية.. و ينضمون إلىالمجتمع.. و يعودوا إلى وظائفهم بمن فيهم الأساتذة و المعلمين الذين يملكون حرية الاتصال و التوجيه للنشء الجديد.. للاستفادة من خبراتهم و قدراتهم ومشاريعهم في نهضةالبلاد.
لكن….
“صلاح نصر”.. رجل الجهاز القوى في ذلك الوقت… كان متوجسا منهم…
فتنظيمهم الذى بدأ عام 1928 لن يقدم لمصر، في رأيه، إلا المزيد من التحريض والاغتيالات و دفع الشباب للصراع مع المجتمع…
لكن الأمر لم يكن فقط هواجس شخصية ل”صلاح نصر”، بل معلومات راحت تتأكد يوما بعد يوم عبر التقارير التي تتدفق على مكتبه ترصد و تتابع العملية الواسعة النطاق لبناءالتنظيم الدولي لجماعة الإخوان المسلمين…
حيث تم رصد و متابعة لقاءات و اجتماعات قادة أفرع الجماعة في الدول العربية و الأجنبية، وكانت تجري هذه اللقاءات في عدة بلدان مثل مكة المكرمة و المدينة المنورة وإسطنبول و بيروت، و عمّان و بعض الدول الأوروبية…
و لم يكن ما يثير القلق هو الاجتماعات في حد ذاتها، بل إن كل التوجس و الريبة جاء من أن عملية بناء التنظيم الدولي تجري تحت اشراف و متابعة و عناية أجهزة مخابراتمعادية لمصر، على رأسها السي أي آيه CIA (وكالة المخابرات المركزية الأمريكية) و ال إم آي سكس ) MI6جهاز المخابرات البريطانية)، هذا بالإضافة إلى أن جهد التمويلالأساسي كان يقوم به آل سعود، و كان تمويلا سخيا لا حدود له…!!!
إن العلاقات البريطانية- الأمريكية / الإخوانية، و بالأخص البريطانية / الإخوانية، قديمة قدم نشأة الجماعة نفسها، و في الخمسينيات كان المترأس الفعلي للجماعة هو “سعيدرمضان” صهر المرشد الراحل حسن البنا، و الحادث أنه بعد تفجر الصراع بين “محمد نجيب” و “عبدالناصر” في عام 1954 والذى انتهى لصالح “عبد الناصر”، و أعقبهنجاحه في التوصل لاتفاقية جلاء كامل مع البريطانيين، بدأت المخابرات البريطانية التفكير في تدبير انقلاب للإطاحة بنظام حكم “جمال عبد الناصر”، و قد وجدت المخابراتالبريطانية ضالتها في جماعة الإخوان المسلمين كأفضل قوة لتنفيذ هذا المخطط و خصوصا بعد تفجر الصراعات بينهم و بين “عبد الناصر”، وهنا يظهر اسم (سعيد رمضان)الذي تم الاستعانة به بواسطة ضابطا المخابرات البريطانية “نيل ماكلين” و “جوليان آمري” بتنظيم حركة مضادة ل”عبد الناصر” من الإخوان المسلمين، علاوة على ذلك كانهناك تنسيق مع عدد آخر من جماعة الإخوان ممن لجئوا للسعودية لتنظيم انقلاب المخابرات البريطانية ضد نظام حكم “جمال عبد الناصر”، وقد علم “عبد الناصر” ببعض مايفعله “سعيد رمضان” فقام بسحب الجنسية المصرية منه، كما كانت المخابرات السويسرية عندما انتقل “سعيد رمضان” إلى جنيف على علم بكونه يعمل مع المخابرات البريطانيةو الأميركية وأنه يقوم بنشاط موجه بالتنسيق معهما ضد نظام “جمال عبد الناصر”، ولكن – وكما يقول الكتاب الوثائقي ( إم آى سكس: مغامرة داخل العالم السرى لجهازالمخابرات البريطانية ) المعتمد على وثائق المخابرات البريطانية والأميركية والسويسرية و الألمانية – أجهزة المخابرات السويسرية تركته على أساس أن جماعته لا تعكساتجاهات معادية للغرب بل تحارب ضد نظام “عبد الناصر” المعادي للغرب وهناك إمكانية لاستخدامها في خدمة المصالح الغربية.
قام “سعيد رمضان” بالتنسيق مع “حسن الهضيبي”، مرشد جماعة الإخوان المسلمين في مصر، من خلال “تريفور إيفانز” المستشار الشرقي للسفارة البريطانية بالتخطيط لعمليةاغتيال “جمال عبد الناصر” في 26 أكتوبر 1954، أثناء قيام “عبد الناصر” بإلقاء خطاب في ميدان المنشية بمدينة الإسكندرية احتفالا بتوقيع اتفاقية الجلاء، حيث أطلق “محمودعبد اللطيف”، أحد أعضاء جماعة الإخوان المسلمين 8 رصاصات عليه لم تصبه و أصابت اثنين من مرافقيه، لتفشل محاولة الاغتيال التي دبرها “سعيد رمضان” مع المخابراتالبريطانية و جماعة الإخوان المسلمين في مصر فشلا ذريعا.
2- الحرب من الداخل
لقد لفت “سعيد رمضان” انتباه الاستخبارات الأميركية، و ل”رمضان” صورة فوتوغرافية مع الرئيس “أيزنهاور” في عام 1953 في مكتبه البيضاوي، و كان ضابط الاتصالبين “أيزنهاور” و “رمضان” ضابط السي آى إيه الشهير “روبرت دريهارد”.
إن “آيان جونسون”، الكاتب الصحفي الشهير في الوول ستريت جورنال والحائز على جائزة بوليتزر عام 2001، كتب تحليلا حديثا يذكر فيه تاريخ العلاقة بين الإخوان والمخابرات الأمريكية، حيث يذكر أن مسئولي إدارة “أيزنهاور” يعرفون ما يفعلون، ففي معركة أمريكا ضد الشيوعية كانت أمريكا تحب أن تظهر نفسها كبلد الحريات و الداعمةلحرية الدين مقابل الشيوعية الملحدة، و كانت تحليلات وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عن “سعيد رمضان” تصفه بالتبلد الذهني و أنه «لديه اهتمام فاشي بتجميع الأشخاصمن أجل السلطة» ورغم كل ذلك فالإدارة الأمريكية حينها لم تجد غضاضة في الاستعانة به. يقول الكاتب في معرض كلامه عن “سعيد رمضان” والسي آي إيه، أن الأخيرة دعمتهبشكل علني وكانت تطلق عليه بكل بساطة عميل الولايات المتحدة و ساعدته في الخمسينات و الستينات في استيلائه على مسجد ميونيخ و الذي، كما يذكر الكاتب، قام بطردالمسلمين المقيمين في هذا المكان ليبني المسجد الذي يعد من أهم مراكز الإخوان المسلمين في أوروبا.
من أجل كل ما سبق كان ظهور “سعيد رمضان”، و هو الشخصية الرئيسية في التنظيم الدولي للإخوان، بجانب المخابرات الأمريكية و البريطانية مع تمويل لا محدود من جانبآل سعود، كفيل بدق ألف جرس إنذار داخل جهاز المخابرات العامة المصرية، و رصدت المخابرات العامة في تقريرها بأن “سعيد رمضان” أصبح عضوا مشاركا في جماعةمصر الحرة، وأنه حصل على 250 الف جنيه إسترليني من أحد القادة العرب للقيام بعمليات ضد ثورة يوليو، كما تم رصد نشاط متزايد لعناصر الإخوان الهاربين في الخارج،سواء في إيطاليا و سويسرا، و كذلك في السعودية و قطر و الكويت، و بناء على ما سبق، صدرت التعليمات بأن يتم الانتقال من مرحلة متابعة و مراقبة اجتماعات التنظيم الدوليلجماعة الإخوان المسلمين، إلى مرحلة اختراق هذه الاجتماعات و نقل ما يدور فيها تفصيلا، و بالفعل جرى الاختراق و راحت المعلومات تدفق و تكشف عن خطط لاغتيال جمالعبد الناصر… و تنفيذ تفجيرات… و نسف محطات الكهرباء و المياه و الخدمات العامة…باختصار خلق فوضى عامة تمهيدا للقفز على السلطة.
قامت المخابرات العامة بتقديم تلك المعلومات و الوثائق و التسجيلات إلى الأجهزة الأمنية الداخلية و المباحث الجنائية العسكرية، التي راحت تصارع الزمن من أجل الكشف عنأفراد التنظيم في الداخل، و إجهاض المخططات قبل لحظة التنفيذ، و بالفعل تم الكشف عن الخلايا العنقودية للتنظيم و عن:
1- خطط تفصيلية بخرائط و كروكيات لجميع الأهداف الاستراتيجية في مصر من الإسكندرية لأسوان.
2- جماعات، نسبة غير قليلة منهم من شباب الجامعات، خاصة من الكليات العملية وبالذات كليتي العلوم و الهندسة، مسلحة و مزودة بأدوات نسف المصانع و الكباري و الطرقالرئيسية – بما فيها الطريق الذى يسلكه “جمال عبد الناصر” من منشية البكري حتى القصر الجمهوري بالقبة عن طريق بالوعات المجاري– والمصانع الكبرى سواء في القاهرة أوالإسكندرية و المحلة الكبرى و نجع حمادي او حلوان و القناطر الخيرية،و محطات الكهرباء.
3- خطط اغتيالات كاملة للقيادات السياسية و ضباط القوات المسلحة و ضباط الشرطة، بل و أيضا أساتذة جامعات و مثقفين و أدباء و فنانين، وكانت الخطط مبنية على أساسالاقتناع بفكرة واحدة هي تكفير “جمال عبد الناصر” و من ثم استباحة اغتياله هو و من حوله و من يؤيدونه.
4- مخازن أسلحة وذخائر ومتفجرات، بخلاف التي ضبطت عن طريق الكمائن التي أعدت في جميع منافذ مصر البرية و البحرية و التي جاءت عن طريق أسوان و بعض مناطقالبحر الأحمر ــ و كانت المعلومات نتيجة لاختراق المخابرات للتنظيمات الخارجية هي التي مكنت السلطات من تحديد طرق التهريب و الوسائل المستخدمة.
5- تفاصيل خطة اغتيال ” عبد الناصر” أثناء مرور موكبه من المعمورة، حيث كان ينزل، إلى رأس التين، بالمكان المخصص للاحتفال بمناسبة خروج الملك من مصر يوم 26يوليو، حيث يتم وضع مجموعة الاغتيال الأولى في محل اندريا أمام سراي المنتزه، و المقام الآن مكانه فندق شيراتون الإسكندرية، و كان الاغتيال سيتم في اللحظة التي يسير فيهاركب الرئيس بهدوء، فيمكن اصطياده بالبنادق و المدافع الآلية لذلك، و وضعت مجموعة الاغتيال الثانية في محل بترو في سيدي بشر، حيث تكون المنطقة ضيقة و مزدحمة كعنقزجاجة و تعتبر نموذجية لاصطياد الهدف و الذوبان في الجماهير المزدحمة.
3- حسرة و ندم و بحث عن انتقام
و بعد أن تم جمع كل تلك المعلومات و الوثائق و التسجيلات المؤيدة لها و عمل كافة التحريات اللازمة، صدرت الأوامر بالتحرك و التدخل لإحباط المؤامرة.. و قبل لحظةالصفر.. قبض على كل عناصرها.. و صودرت الأسلحة و الذخائر و القنابل.. و قدم أعضاء التنظيم إلى المحاكمة في قضية بلغ حجم ملفها أكثر من 3400 صفحة، و قضتالمحكمة بإعدام سبعة، و نفذ الحكم في ثلاثة من قيادات الإخوان هم “سيد قطب” قائد التنظيم، و “محمد سيد الهواش”، نائب “سيد قطب” في قيادة التنظيم، و “عبد الفتاح إسماعيل”المسئول عن الاتصالات الخارجية للجماعة في مصر، و تم تخفيف الحكم على الأربعة الآخرين لصغر سنهم، و حكم على “حسن الهضيبي، مرشد الجماعة في مصر، بالسجنثلاثة سنوات.
كان سقوط تنظيم 1965 يعتبر أقوى و أكبر ضربة تلقتها الجماعة في تاريخها، ضربة أصابتها بدوار شديد و جعلت وجودها ذاته على المحك، فعلى الرغم من ثبات و رسوخأقدام النظام الناصري في هذه الفترة، إلا أن حجم الدعم المذهل الذي جاء للجماعة جعلها تصاب بالثقة الزائدة و تتصور أن لحظة القبض على السلطة قد حانت، و أن الدفع والتحريض الغربي و الإقليمي للجماعة للاستيلاء على السلطة، كفيل بأن يزيل أعتى الصعوبات مهما كانت، و أكثر ما يعبر عن حجم هذا الدعم هو ما قاله أحد كبار رجالالمخابرات المركزية الامريكية “كلود جوليان” و كان نصه: « في سنة 1965، و بالتواطؤ مع وكالة المخابرات المركزية الامريكية، نظمت جماعة الاخوان المسلمين المحافظةجدا، مؤامرة واسعة للإطاحة بالنظام الناصري، إلا أن المسئولين الرئيسيين عنها اعتقلوا » (1).
كانت عبارات “سيد قطب”، و هو في طريقه إلى منصة الإعدام، تكشف عن مدى الإحباط و مرارة الهزيمة، ففي نبرة ندم و حسرة قال: «للأسف الشديد لم ينجحوا في عمليةنسف القناطر الخيرية التي لو تمت لانتهى النظام»، و أضاف “قطب”: «إن مشكلتي في عقلي أنا مفكر و كاتب إسلامي كبير و الحكومة تريد القضاء على الإسلام عبر قتلي!!»،ثم أضاف: « تدمير القناطر و محطات الكهرباء و المياه كان سيكون بداية الثورة الإسلامية و إنذار شديد للناس لينتبهوا من غفلتهم و سكرتهم بنظام حكم “عبد الناصر”».
و الآن هل أصبح من المفهوم و الواضح كلمة “مرسي” «الستينيات…و ما أدراك ما الستينيات». إن الجماعة ترى أن المسئول الأول عن إجهاض مخطط 1965، بل و إعداممنظرهم و مفكرهم الأكبر “سيد قطب”، هو جهاز المخابرات العامة المصرية، و من ساعتها اعتبرت الجماعة أن بينها و بين المخابرات ثأر و دم.
قالوا:
“الحق مزعج…للذين اعتادوا ترويج الباطل حتى صدقوه”
هوامش:
(1) القارئ الذي يريد التوسع في تفاصيل علاقة جماعة الاخوان المسلمين بأجهزة الاستخبارات الغربية، يمكن ان يرجع إلى الكتب التالية:
1. دريفوس، روبورت: لعبة الشيطان (دور الولايات المتحدة في نشأة التطرف الاسلامي)
2. Curtis, Mark: SECRET AFFAIRS (Britain’s Collusion with RADICAL ISLAM)
3. Weiner, Tim: Legacy of Ashes (The History of the CIA)
هذا بالتأكيد بالإضافة إلى الكتاب الذي ورد عنوانه في متن نص المقال، و الجدير بالتنويه أن المعلومات الواردة بالمقال لم تعتمد على تلك المصادر المذكورة فقط.
:::::
المصدر: “كنعان” الفصلية، العدد 153، صيف 2013