قراءة في سياق و دلالة مقولات أبو ماضي:

الإخوان والمخابرات

(الجزء الثالث) 

 شادي عمر الشربيني

 

ما بين الإخوان و المخابرات

من الصعود إلى الصدام… زمن السادات و مبارك

 

يزخر التاريخ البشري بقصص الخداع و المراوغين، لكن عرب هذا الزمان سينفردون بأنهم المجموعة البشرية التي لا تعرف أن تتوقف عن الوقوع في الخداع و كأنها مازوشيةسياسية، و كأنها تتلذذ بالخديعة التي تتلوها الفجيعة…حتى أصبح الوقوع في الخداع نمارسه كطقوس دينية جماعية واسعة… و لأننا نندفع خلف الخديعة نخباً و شعوباً…فقد هرولناوراء خديعة الثورة العربية الكبرى، التي قمنا فيها بالثورة و القتال تحت قيادة لورانس العرب نيابة عن جيوش الإمبراطوريتين الإنجليزية و الفرنسية…و ما فعلناه هو أننا قمنابالتخلص من الأغلال العثمانية و سلمنا أيدينا للأغلال الغربية…عملية تشبه الانتقال من سجن إلى آخر و من سجان إلى آخر…و لولا أدولف هتلر و حروبه في أوروبا لكنا فيالسجون حتى اليوم…

ثم خُدعنا من جديد في حكاية فلسطين و لحقنا الوعود و تهدئة الخواطر و انتظار العدالة الدولية و جيوش الملوك العرب و الهاشميين و السعوديين التي لم تصل.. ثم خدعنا في عام67 عندما تعهد العالم كله لنا أن اسرائيل لن يسمح لها بالاعتداء علينا.. ثم خدعنا في كامب دافيد بوعود اللبن و العسل الذي سيحمله لنا السلام الأمريكي.. ثم خدعنا بالحرب علىإيران ثم عاصفة الصحراء… ثم خدعنا بالسلام و بعملية السلام و مؤتمرات السلام و مبادرات السلام.. ثم خدعنا في حرب تحرير العراق من استقلالها الوطني..!!

وبرغم من كل هذه الدروس.. لم نتعلم حرفا واحدا.. ما أحقرنا بين الامم !!

لكن الخديعة الكبرى هي ما نعيشه الآن…خديعة تهدف إلى محو العرب تقريبا من فوق الخريطة…خديعة إبادة العرب بأيدي العرب..!!

هذه السلسلة من المقالات تسعى، من زاوية ما، إلى التنبيه و محاولة فرملة هذا السقوط على منحدر الخديعة…و من زاوية رصد تصاعد بخار الصدام المكتوم بين جماعة الإخوانالمسلمين و جهاز المخابرات العامة المصرية… فإنه تم استدعاء سياقات مقولات الصدام في المقال الأول، ثم استدعاء لحظة بدء الاحتكاك في المقال الثاني…ذلك لأن سلامةالوعي تقتضي سلامة الذاكرة، و بناء الوعي هو الهدف الأول لكل كتابة صادقة…و ذلك ما تحاوله أيضا السطور القادمة عبر تتبع تطور العلاقة بين المخابرات و الإخوان فيزمني “السادات” و “مبارك”.

1- السادات يستدعي التيار الديني

بعد رحيل “عبد الناصر” و تولي “السادات” السلطة، كان كل يوم يمضي يكشف عن أن الرئيس الجديد يخطو على طريق الانقلاب على سياسات و قناعات و أفكار و قيم سلفه، وفي سبيل ذلك حالف “السادات” جماعة الإخوان المتشوقة للانتقام من “عبد الناصر” و تجربته، فأتاح لهم حرية التحرك و الانتشار، بل و دعم كامل من أجهزة الدولة.

إن الوثائق الأمريكية، المفرج عنها مؤخراً بمقتضى قانون حرية تداول المعلومات، تكشف عن بعض جوانب ذلك التحالف. فعلى سبيل المثال، تكشف المراسلة السرية التي تحملالرقم 1976CAIRO04727_b بعنوان «الحكومة المصرية تشجع على ظهور يمين إسلامي»، التي أرسلتها السفارة الأمريكية بالقاهرة يوم 9 إبريل 1976 للقنصلية الأمريكيةببورسعيد، و كذلك وزارة الخارجية الأمريكية بواشنطن، عن قرار الحكومة المصرية بتمويل و تأسيس كتلة يمينية تشمل جماعات التيار الديني، لتبقى على المسرح السياسي فيمواجهة الكتلتين الناصرية و اليسارية.

يوضح السفير الأمريكي في المراسلة أن رئيس المجلس الأعلى للشئون الإسلامية “توفيق عويضة” اتصل به في أكتوبر الماضي «1975» ووجه له دعوة للزيارة، مشيراً إلى أنذلك كان أول اتصال على الإطلاق بين السفارة الأمريكية و “عويضة”.

وتستعرض الوثيقة ما صرح به “عويضة” أثناء اللقاء، من أن الحكومة المصرية قررت تنظيم كتلة يمينية تصد بها الكتلة اليسارية و الماركسية و الناصرية التي تسببت في نشوبحالة من الاحتقان السياسي بسبب تردى الأوضاع الاقتصادية، التي رأوا قوانين “السادات” الانفتاحية سبباً فيها.

و أيضا فإن الوثيقة الأمريكية، الصادرة بتاريخ 22 يوليو 1976، تروي جانب من استخدام “السادات” لتيار الإسلام السياسي في تجربة التعددية الحزبية، قائلة: «الوجه الإسلاميالوحيد البارز في حزب الرئيس “السادات”، حزب الوسط، هو “عبدالرحمن البيصار”، شيخ الأزهر، وإن كان هناك اسم آخر إسلامي هو “صالح أبو رقيق”، الذى اكتفت الصحافةبوصفه كمسئول سابق في جامعة الدول العربية، لكن من المعروف أنه أحد الوجوه البارزة في الإخوان». و تابعت الوثيقة: «لا بد من التوقف أمام إدراج اسم “صالح أبو رقيق”في الحزب. قال مسئول في السفارة البريطانية لنا الأسبوع الماضي: إن الإخوان رفضوا رسمياً طلبا من “مصطفى كامل مراد”، رئيس كتلة اليمين في التنظيم الاشتراكي، بدعمهرسمياً، ويتردد أنهم قالوا ل”مصطفى كامل مراد” بمنتهى الحزم: إن الإخوان لن يعاقبوا من يمارس العمل السياسي منهم، لكنهم سيقفون ضده بكل وضوح. ويبدو من وجود (أبورقيق) في حزب (الوسط) أن الإخوان راجعوا موقفهم، وقرروا بشكل غير رسمي أن يدعموا صنيعة النظام، الذى سمح لهم بالظهور والعمل كمنظمة على الأرض».

2- المخابرات في مرمى النيران

لقد كان أقوى و أبرز معارضي “السادات” هم التيارات اليسارية و القومية، و كان لهذه التيارات الحضور الأكبر و الأقوى خصوصا في الجامعات، فتم استدعاء اليمين الديني،ممثلا في جماعة الإخوان بالأساس، في مواجهتهم.

 بعد حرب أكتوبر 73، أحس الرئيس “السادات” أنه أكتسب شرعية جديدة خاصة به، و انه لم يعد بحاجة إلى شرعية ثورة يوليو، فاشتدت الحملة على “جمال عبد الناصر” وعصره و تجربته، و وصلت إلى حدود اللامعقول، و بالطبع كان أقوى المنخرطين في هذه الحملة جماعة الإخوان المسلمين، و كان جهاز المخابرات العامة هو أكبر المستهدفينمن تلك الحملة، حيث عملت الجماعة على تصويره على أنه سلخانة بشرية يجري فيه كل أنواع التعذيب و التنكيل، و ساهمت سينما السبعينات في ترويج و نشر هذه الصورة عبرأفلام عديدة.

لم تكن تلك الحملة على الجهاز تمت للحقيقة بأي صلة، فالمخابرات جهاز جمع و رصد و تحليل معلومات بالدرجة الأولى، و ليس جهة تنفيذ عمل في الداخل أو إجراء تحقيقات وتعذيب المتهمين، و إزاء تلك الحملة الشرسة، حاول الجهاز تصحيح صورته عن طريق رفع السرية عن بعض عملياته و تحويلها إلى أفلام و مسلسلات، مثل فيلم “الصعود إلىالهاوية” و مسلسلات “دموع في عيون وقحة” و “رأفت الهجان” و غيرها. كان تحرش و حملة الجماعة على المخابرات واضحة و ظاهرة، و لكن الجهاز أكتفى بالمقاومة السلبية،و أستمر في رصد التنظيم الدولي و جمع المعلومات عن علاقات الجماعة و تحالفاتها الخارجية.

3- مبارك و الإخوانالبدايات لا توحي بالنهايات

يخطئ من يظن أن علاقة الإخوان ب”مبارك” كانت كلها عداء كامل، على الأقل في الفترة الأولى من حكمه، فعندما جاء “مبارك” إلي الحكم في أكتوبر 1981 قرر أن يسير عليخطي الرئيس “السادات”، وكان صادقا في قراره ذلك، ولم يفعل مثلما فعل “السادات” الذي كان يسير علي طريق “عبد الناصر” بأستيكة. ومن بين خطي “السادات” كان التحالفمع جماعة الإخوان المسلمين، لم يتعاون “مبارك” معهم كما تعاون “السادات”، فلم يقربهم منه، ولكنه ترك لهم الفرصة كاملة ليعملوا دون أن يعترض طريقهم أحد، بل كانتالتعليمات الواضحة التي لا تقبل الشك ولا التأويل من الرئيس شخصيا هي أن يتركوا الإخوان دون أن يعترض طريقهم أحد.

 كانت الفترة ما بين 1981 إلي 1991 من أفضل الفترات في تاريخ الإخوان، بدأت الجماعة في الانتشار والتوسع، سيطروا علي كل شيء، الاتحادات الطلابية في الجامعة(“عصام سلطان” المنشق عن الجماعة الآن كان رئيس اتحاد طلاب جامعة القاهرة عام 86) وسيطروا علي النقابات المهنية بالكامل، وكذلك أحكموا السيطرة علي نوادي أعضاءالتدريس في معظم الجامعات. كانت أجهزة الأمن ترصد تحركات الإخوان، وتعرف إلي أي مدي وصل تغلغلهم في كل المناطق الحيوية في مصر، كانت التقارير الأمنية ترفع إلى”مبارك” تنبه إلى اختراق الجماعة لمختلف هيئات و تجمعات و منظمات المجتمع المدني، و تنبه أكثر من مرة إلي الخطر الذي يمثله الإخوان، الذين يسيرون باتجاه وضع المجتمعفي جيوبهم، وفي اللحظة المناسبة فإن الأمر سيكون لهم، لكن الملفت بالفعل أن تأشيرة “مبارك” على هذه التقارير كانت غالبا هي “سيبوهم”، هكذا بالعامية، أو “يحفظ”، فقد كان”مبارك” يرى أيضا أن التهديد الأكبر يأتي من ناحية اليساريين و القوميين، و أن حضور اليمين الديني و صعوده يستطيع ان يردع هذه التيارات و يحاصرها.

 لكن الفراق و الصدام و المواجهة ما بين “مبارك” و الجماعة جاء في سنة 1992، في قضية سلسبيل، هي قضية كبري عرفتها مصر عام 1992 وسميت بهذا الاسم نسبة لشركةالسلسبيل للمشروعات، التي أسسها المهندس “محمد خيرت الشاطر” و السيد “حسن مالك” للعمل في مجال الحاسبات ونظم المعلومات، وقد داهمتها قوات الأمن واستولت عليكافة الأجهزة والأقراص بها.

كانت الأجهزة الأمنية قد توصلت إلي أن “خيرت الشاطر” من خلال شركة سلسبيل، التي كانت أول و أكبر شركة كمبيوتر تدخل مصر، قد استطاع أن يخترق الأجهزة الأمنيةالحساسة ويحصل علي المعلومات الخاصة بها.

لكن كيف ذلك؟

 لقد كان الإخوان أهل ثقة وقتها، وكان النظام يأمر الجميع بألا يتعرض للجماعة التي استطاعت أن تحصل علي 37 مقعدا في مجلس الشعب في انتخابات 1987، فلماذا لا تثقفيهم وتتعامل معهم الأجهزة الأمنية؟، كان رجال “خيرت الشاطر” يدخلون الأجهزة الأمنية والسيادية لصيانة أجهزة الكمبيوتر وتنزيل البرامج عليها، وهم في طريقهم إلي ذلككانوا يقومون بنسخ المعلومات الموجودة علي الأجهزة ويحتفظون بها.

كان هذا هو الخيط الأول في القضية، وكان لابد للأجهزة الأمنية أن تتحرك، طلبت الإذن بالتحرك، فوجدت أن هناك صعوبات فأوصلت الأمر إلي مسئول كبير ومقرب منالرئيس شخصيا، الذي اطلع علي الأمر فأمر بالتحرك الفوري.

عندما دخلت الأجهزة الأمنية إلي مقر شركة سلسبيل لجمع المستندات، وجدت نسخ كاملة من ملفاتها، بل و وجدت ما هو أهم وأخطر من ذلك، كانت الوثيقة الأساسية في القضيةهي خطة التمكين التي وضعها “خيرت الشاطر” بخط يده، والتي كانت ترسم طريقا للسيطرة علي كل القطاعات في المجتمع، العسكرية منها والمدنية.

و تضع الوثيقة، المكونة من 13 ورقة فلوسكاب، مهمة التغلغل في قطاعات الطلاب و العمال و المهنيين و قطاع رجال الأعمال و الفئات الشعبية الأقل قدرة باعتبارها حجرالزاوية في خطة التمكين لأن من شأن انتشار جماعة الإخوان في هذه القطاعات – هكذا تقول الوثيقة – أن يجعل قرار المواجهة مع الجماعة أكثر صعوبة ويفرض على الدولةحسابات أكثر تعقيداً، كما أنه يزيد من فرص الجماعة وقدرتها على تغيير الموقف وتحقيق «التمكين».

كما أن وثيقة «التمكين» تشير بوضوح بالغ إلى أهمية تغلغل جماعة الإخوان في المؤسسات الفاعلة في المجتمع، وهنا مكمن الخطورة، لأن المؤسسات الفاعلة في عرف الجماعةليست فقط النقابات المهنية و المؤسسات الإعلامية و مجلس الشعب ولكنها أيضاً المؤسسات الأخرى التي تتميز بالفاعلية و القدرة على إحداث التغيير و التي قد تستخدمها الدولة فيمواجهة الحركة و تحجيمها.

إن وثيقة التمكين لا تقول صراحة ما هي المؤسسات الأخرى التي يجرى تجهيلها عمداً؟! لكن الوصف يشير بوضوح بالغ إلى مؤسسات الجيش و الشرطة.

كما تطرح الوثيقة كيفية التعامل مع أقباط مصر من خلال سياسة تقوم على محورين: الأول محاولة التحييد بإشعارهم أن الإخوان لا يمثلون خطراً عليهم، أما المحور الثاني فيتعلقبتقليل فاعلية دور الأقباط في الحياة العامة وتقليل تأثير حجمهم الاقتصادي في المجتمع.

على أن أخطر ما تطرحه الوثيقة هو رؤية جماعة الإخوان لكيفية التعامل مع قوى العالم الخارجي خاصة الغرب و الولايات المتحدة الأمريكية، لأن الوثيقة تؤكد أهمية إشعارالغرب وأمريكا على وجه الخصوص بأن الإخوان لا يمثلون خطراً على مصالحهم، وأن من صالح الغرب أن يتعامل مع الإخوان عند التمكين لأن الإخوان يمثلون قوة تتميزبالاستقرار والانضباط.

3- المخابرات و الإخوانسياسة الاحتواء

قبل هذه القضية، كانت المخابرات العامة المصرية قد بدأت مرحلة جديدة مع الاخوان، ففي بداية التسعينيات، خرج من عباءة التيار الديني عدد كبير من التنظيمات الجهادية.. مثلالجهاد.. و الجماعة الإسلامية.. و التكفير و الهجرة.. وجند الله.. وجند محمد.. و غيرها.. وتسببت هذه التنظيمات المسلحة و العنيفة في مواجهات إرهابية ضد شخصيات ومنشآتبجانب الشرطة.

كلفت المخابرات العامة من الرئيس بوضع خطة للقضاء على ظاهرة التنظيمات الإرهابية التي انتشرت في مصر.. و عقد اللواء “عمر سليمان” مدير المخابرات الجديد في ذلكالوقت، اجتماع مع العديد من القيادات الأمنية المختلفة.. و أكد في الاجتماع على حتمية المواجهة.. قال لا بد من المواجهة.. و جهاز المخابرات، كما هو معروف، ليس له قوةتنفيذية.. وهو يترك مهمة التنفيذ للأجهزة الأخرى.. لكن.. الأجهزة الأخرى كانت تخشى المواجهة.. وشرح المسئولون عنها وجهات نظرهم.. وطالبوا بمهلة زمنية كي يستعدواللمواجهة.. لكن “عمر سليمان” نصح “مبارك” بأن الوقت مناسب.. ولا يجوز التأخير.. فالتأخير سوف يضاعف من صعوبة المواجهة.. و قد لا ننجح في القضاء على هذهالتنظيمات، و بالفعل أستمع “مبارك” إلى نصيحة “سليمان”.

راحت المخابرات تتابع هذه التنظيمات وتقدم عنها ما تتوصل إليه من معلومات.. و وجد الجهاز أن الإخوان في ذلك الوقت لا علاقة لهم بالعمليات الإرهابية بشكل مباشر.. كما أنهملم يعملوا على تحريض هذه التنظيمات، فقام الجهاز باحتضان الإخوان تقريبا، حتى لا يتعاطفوا مع هذه التنظيمات أو يتورطوا معها.

وبدأت المواجهة.. كانت مع الجهاد أولا، وهو ما جعل عناصرها تشعر بالخطر فخرجت قياداتها ومعظم عناصرها إلى السعودية و أفغانستان و باكستان و اليمن.. انتشروا هناك..و ظلت الجماعة الإسلامية تقاوم.. و أحدثت كثيرا من الخسائر حتى وقعت مجزرة الأقصر التي تغير معها موقف الرأي العام المصري.. و كان الناس في مصر هم اكبر معينلأجهزة الأمن في كشف مخازن أسلحة الإرهابيين و تحديد عناصرهم و قياداتهم حتى انهار تنظيم الجماعة الإسلامية و تم القضاء على ظاهرة الإرهاب في مصر تقريبا.

 طوال تلك المدة كان جهاز المخابرات على اتصال بالإخوان المسلمين على فترات مختلفة حتى يرشد تعاملهم مع الدولة.. لكن في هذه الفترة أيضا و بالتحديد في الفترة ما بينعامي (92 – 1993) رصدت المخابرات المصرية ورشة عمل عقدها مركز دراسات الشرق الأدنى، بالتعاون مع مركز الشرق الأوسط في الولايات المتحدة لحل أزمة الشرقالأوسط من وجهة نظر أمريكا.. وكانت تضم ورشة العمل مجموعة مهمة من صانعي السياسات في الولايات المتحدة، منهم : “ديك تشيني”، و “دونالد رامسفيلد”، و “كولنباول”، و “جون كيري”. و فى الفترة من (94 – 1995) كانت هناك دراسة أخرجها مركز الشرق الأوسط الأمريكي تحت عنوان (كيف نحرك المياه الراكدة في الشرق الأوسط)وشارك بها أيضا مركز دراسات الشرق الأدنى، لكن الباع الأكبر كان للمركز الأول، وانتهت التوصيات إلى ضرورة نشر (الفوضى الخلاقة).. ثم بدأت الولايات المتحدة تروجلمفاهيم صراع الحضارات، لتهيئ المناخ بالمنطقة للصراع القادم.. و هكذا نرى أن مقالة “صمويل هانجنتون” الشهيرة عن صراع الحضارات، التي أحدثت ضجة كبيرة، لم تكنإبداع فكري خالص للكاتب، بل كان وحي الإدارة الأمريكية حاضر في الموضوع. قدمت هيئة المعلومات والتقديرات بالمخابرات المصرية، تقارير مختلفة ل”مبارك” توضح فيهاأن مصر في «الكاتوجرى» رقم 6 الخاص بأمريكا، فهي «الكعكة الكبرى» في سياق خطة «الفوضى الخلاقة»، و أنها ترى إن الحل هو أن يتم تسليم منطقة الشرق الأوسطللإسلاميين وتحديدا جماعة الإخوان لاقتناع الأمريكيين بأنهم سيكونون موالين لهم أكثر من أي نظام آخر، وسيكونون أداتهم في ضرب القومية و العلمانية والتيار المدني العربي.

3- وقفة لا بد منها

و هنا أعتقد أنه من الواجب التوقف عن إكمال السرد التسلسلي و القفز إلى عام 2013، و نستمع إلى حديث “هيكل” في قناة السي بي سي، حيث تكلم عن اجتماع حلف شمالالأطلسي في 2009 في ستراسبورج، الذي فيه وضعت ملامح ما يسمى بخطة طي البساط، و هي كانت خطة لإزاحة ما تبقى من آثار الحرب الباردة في المنطقة.

إن المقصود بإزاحة آثار الحرب الباردة هو إزاحة الأنظمة التي جاءت نتيجة الحرب الباردة و استبدالها بأخرى، و لكن إذا حاولنا أن ندقق بعض الشيء و أن لا نستسلملمصطلحات الناتو، فإننا نجد أنه ليس المقصود بالضبط هو آثار الحرب الباردة، بل المقصود بالأحرى هو آثار حقب التحرر الوطني، التي أفرزت الدولة الوطنية التي حاولت أنتكون حديثة، و حاولت أن تخلق لنفسها مساحات أو دوائر من الاستقلال، و لكي نفهم جيدا ما هو المقصود، فإنه يتحتم علينا العودة إلى أواخر أربعينيات القرن الماضي، حيثاستنزفت الإمبراطوريات القديمة     (البريطانية و الفرنسية بالذات) في الحرب العالمية الثانية و بدى ان شمسها تميل إلى الغروب، ساعتها تحركت الولايات المتحدة الأمريكيةلترث هذا الدور و هذا النفوذ، و تحل نفسها في المنطقة العربية محل الإمبراطوريات الآفلة، و لكنها اصطدمت بحركات التحرر الوطني الصاعدة، التي رفضت أن تستبدل راياتاستعمار قديم باستعمار جديد، و استعانت بالاتحاد السوفيتي و الكتلة الشرقية كحليف أساسي في مواجهة الهجمة الإمبريالية الأمريكية الجديدة، و بالفعل خرجت دول كثيرة عنالطوق في المنطقة، و صنعت لنفسها مساحات من الحركة المستقلة عن الفلك الأمريكي، و كان أحد المهام الرئيسية للقوة الأمريكية طوال الفترة الماضية هو ترويض القطعانالضالة و أعادتها إلى الحظيرة، و قد لاقت تلك المحاولات نجاحات متباينة و مختلفة الدرجات، لكنها في النهاية ظلت دون ما هو مطلوب، و ما إن دخل السوفييت في غيبوبةالانهيار، حتى تم اصطياد العراق في سنة 1990، و كان هذه الحرب هي البداية التي انطلقت بعدها الولايات المتحدة لضرب و تصفية كل ما تبقى من زمن التحرر الوطني،فأمريكا تدرك جيدا أن انفرادها بقمة العالم و عدم وجود خصم حقيقي لها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، هو بالتأكيد أمر مؤقت و محدود بمدى زمني، على الأرجح قصير، فقوانينحركة التاريخ تحتم ظهور خصم و متحدي جديد للإمبراطورية، و حتى ظهور هذا الخصم يجب الاندفاع لتسوية الأوضاع لصالحها حتى لا يجد خصم المستقبل أي مجال للحركةو يبقى محاصرا، ثانيا من أجل تعويض النزيف في الثروة و القوة الذي أصاب الولايات المتحدة في الحرب الباردة.

إذن فإن خطة طي البساط لم تبدأ في 2009 حسب ما قال “هيكل”، بل بدأت قبلها بكثير، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة أو حتى قبلها عندما كان يعاني سكرات الانهيار، و لميكن اجتماع ستراتسبورج 2009 سوى حلقة في التنفيذ و إعادة توزيع المهام على أعضاء حلف شمال الأطلنطي، بعد ما أصاب أمريكا ما أصابها من استنزاف في العراق، و أثقلكاهلها تكاليف التوسع الإمبراطوري. إن الحديث عن الفوضى الخلاقة و إعادة ترتيب الأوضاع بل و إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط، مطروح و يجري تنفيذه من التسعينات،حيث سقطت أهمية أنظمة حليفة و لم يعد هناك ما يبرر استمرارها بعد أن أدت دورها و لم يكن يبدوا أنها صالحة للترتيبات زمن قادم، و حيث بدا أن الفرصة سانحة للتخلصالنهائي من أنظمة أخرى تشكل صداع في الرأس الأمريكي.

قد يستهول البعض و يستنكر أن تفكر الولايات المتحدة الأمريكية في الإسلام السياسي كحليف لها، فالصورة السائدة في الأذهان هي العداء المطلق بين الغرب عموما والإسلاميين، و لكن أدعوا القراء الذين يؤمنون بهذا، العودة إلى المقال الثاني في هذه السلسلة، فهو في سياقه يرصد جزء بالغ الضآلة من العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين وكلا من المخابرات الأمريكية و البريطانية بالذات، لقد حدث تعاون وثيق و متين بين الإسلام السياسي و الغرب في مواجهة المد اليساري و صعود حركات التحرر الوطني، بل إنالأمريكيين بالذات يروا أنهم مدينون بنصف انتصارهم على الاتحاد السوفيتي للإسلاميين، و في القلب و على الرأس منهم جماعة الإخوان المسلمين، عندما تولي هؤلاء تنمية وتربية العقيدة الجهادية، بوجهها الديني خصوصا، في عقول و قلوب الملايين من الشباب المسلم، ثم تجنيدهم و إرسالهم للجهاد في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، و قد كانالنزيف الحاد و الطويل للسوفييت في أفغانستان هو الضربة القاضية التي أسقطته، لذلك فالإسلام السياسي، و الجماعة بالذات، كان شريك أساسي في إسقاط إمبراطورية الشر،كما كان يحلوا للأمريكان أن يصفوا الاتحاد السوفيتي..!!

4- ما بين الصدام و الاحتواء

المهم أن خطوط تحالفات و ترتيبات بين الأمريكان و الإخوان راحت ترسم مجراها في الأرض العربية و المصرية و كانت المخابرات المصرية من أوائل من رصد هذه العلاقة ونبه لها، و ترافق مع هذا أيضا قضية سلسبيل التي كشفت عن خطة التمكين، ثم ما تواتر من معلومات تم الحصول عليها من الجهات الرقابية والمصرفية والأمنية الدولية، عن أنأربعة في الجماعة هم: “مهدي عاكف” و “يوسف ندا” الذي كان مسئولا عن بنك التقوي قبل تصفيته وتفكيكه، و “سعيد رمضان”، و قد تكلمنا عليه من قبل، و “مصطفيمشهور”، الذي كان المرشد الخامس في تاريخ الإخوان المسلمين، يقومون على جمع التمويل اللازم لتمويل الثورة الإسلامية في مصر التي حددوا لها العام 1995، دعت كل هذهالخيوط و القضايا إلى الصدام بين “مبارك” و الجماعة، و الذي شهد ذروته الأولى في قضية سنة 1995، حيث كانت المحاكمة العسكرية الأولي للإخوان في عصر الرئيس”مبارك”. كان رقم القضية 8 لسنة 1995 جنايات عسكرية، حيث تم القبض علي 49 من قيادات الجماعة في 2 يناير 1995، وذلك عقب اجتماع لمجلس شوري الجماعةبمركزها العام بالتوفيقية، وبعد عدة أشهر تم تحويل المجموعة إلي القضاء العسكري، وكانت التهمة هي إعادة إحياء جماعة محظورة، و هي تهمة لم تكن معروفة ولا مألوفة فيتلك الفترة، بعد سنوات طويلة من العمل العلني للجماعة. كان “مبارك” يحاول حصار و تلجيم الجماعة برفع يد الحماية عنها، و تحويل ملف الإخوان المسلمين من ملف سياسيإلي ملف أمني – سياسي، أصبح مسئولية أمن الدولة، و إحالة قضاياهم إلى القضاء العسكري، و في نفس الوقت كان جهاز المخابرات على اتصال بهم، حتى يرشد تعاملهم معالدولة، و يقطع الطريق على تعاطفهم أو تورطهم مع التنظيمات الجهادية التي كانت تشن الحرب على الدولة و تنفذ عمليات إرهابية، خاصة أن دليل عمل و الفكر القائم عليه هذهالجماعات هو بالأساس فكر “سيد قطب” منظر جماعة الإخوان المسلمين الأول… كان الجهاز يعمل على إقناع الاخوان بالمشاركة لا المغالبة.. قالوا لهم: لا تفكروا في أن تحلوامحل النظام.. شاركوا في تطويره.. لكنكم لستم البديل، و عرض الجهاز على الإخوان المسلمين أن يشكلوا حزبا مثل الوفد و التجمع و الوطني و غيره.. ليتم التعامل معهم سياسيا..والتفاعل مع برامجهم.. و لكن بشرط أن يكون هناك حزب فقط و تحل الجماعة.. الاثنان معا لا يجتمعان.. فوجودهما معا هو نوع من خلط الأوراق الشديد.. عند هذه النقطة كانالحوار ينقطع.. فقد كان الإخوان مصممين على بقاء الجماعة بتنظيمها وأهدافها وسلوكياتها.

و بينما كانت المخابرات المصرية تسعى لبناء جسور للحوار مع الجماعة في الداخل لاحتوائها و الفصل بينها و بين التنظيم الدولي، المصدر الأول لكل المخططات الانقلابية، لمتتوقف عن متابعة التنظيم الدولي لحظة واحدة، و راح ملف التنظيم يكبر و يتضخم كل يوم بالمعلومات و الأسرار و التفاصيل و التقارير، حتى أضحى جهاز المخابرات العامةالمصرية هو، بدون أدنى مبالغة، أكثر جهاز مخابرات في العالم يعرف عن الجماعة و تنظيمها الدولي.

قالوا: “الغباء هو…معرفة الحقيقة…رؤية الحقيقة…و الإيمان بالأكاذيب

::::

المصدر: “كنعان” الفصلية، العدد 153، صيف 2013