أحمد حسين
في قانون التجربة الإجتماعية بند دستوري ملزم، مفاده أن الجماعة ( الشعب، الدولة، ) التي لا تدخل ساحات الصراع الدولي بقواها الذاتية، ستظل ناقصة الإرادة ومحدودة التأثير على الحلبة، تعايش وجود الأخر على حساب جزء من وجودها. واستكمال القوة الذاتية لاحقا، سيكون استئنافا لمشروع تقديم الذات مرة أخرى، بالإعتماد على القوة والتناحر، لأن دول ومجتمعات القمة، لن تسمح طوعا بفقدان جزء أو جزيء من امتيازاتها الوجودية، لصالح نمط جديد من العلاقة بقوة تحاول الصعود. هذه هي ألف باء الصراعات السياسية والتناحرية في المجتعات الطبقية، وفي عالم رأسمالي يعيش جدلية القوة بانعكاساتها القصوى على تحقيق الذات، التي تعني أكبر قدر من الحرية والإرادة في العلاقة بالأخر.
لم يمتلك العرب في تاريخهم الهجري أية مقومات لبناء القوة الذاتية. ويصعب القول أنهم فكروا فيها بوضوح خلال ذلك التاريخ. فالقوة الذاتية صناعة للعقل العلماني، واستغلال لأبعد حدود الإمكان الواقعي المادي في الثابت والنظري. لقد تنبه الآخر للثقل العربي النوعي، البشري والحضاري والجغرافي والثرواتي، قبل أن يتنبه العقل العربي النظري إلى ذلك، وتكفل هذا الأخر الضدي، بعملية البناء الذاتي العربية، على صورة الدمية المجنونة، التي تدور حول نفسها على قدم واحدة. الواقع يشرح نفسه ولا حاجة للتفاصيل. يكفي أن نقول أن العرب المعاصرين، لم يتنبهوا لأنفسهم كذات إلا في خدمة الأخر. وأنهم استعملوا ما ظنوه قوة ذاتية لأول مرة في حياتهم، ليمنعوا مصر والعراق وسوريا من دخول باب العصر بقواها الذاتية. فعادت مصر إلى موقعها الورائي التابع، وهو إنتاج سلع التخلف الفقهي الأزهري والإخواني والفرعوني. وأبيد العراق بالتمام والكمال، وما تزال سوريا غارقة في بركة من دمها المسفوك بأيد عربية، تستخدم علاقتها الوثيقة بالسماء في خدمة علاقتها الأوثق بأمريكا والصهيونية. وكانت النتيجة حتى الآن أن سوريا لو دخلت العصر الجديد الذي أطلعته بدمها نيابة عن الدنيا، فلن تدخله بقوتها الذاتية، رغم إعجازية الدور الذي أداه الجندي والمواطن والمسؤول السوري العظيم بالأصالة والنيابة.
أستبعد الحل السياسي في سوريا ولا أتمناه. فهو حل تفرضه النظرية على الواقع والحاجة. ولأنه لا يعني أكثر من تأجيل الحسم إلى مرحلة أخرى، ربما لن تستطيع سوريا مواجهتها منفردة، كما تفعل اليوم. اليوم تفعل ذلك، بمساعدة سياسية ولوجستية ممن يعتقد بضرورة انتصار سوريا لمصلحة علاقات دولية جديدة بين الأقوياء، وليس لمصلحة سوريا والشعوب المهددة. ولكن سوريا ظلت تدرك أهمية وعي الإرادة الذاتية وتصر على الإحتفاظ به، إلى أن جاءت لعبة الكيميائي الدولية. فالحل السياسي بعد لعبة الكيميائي، لا يعني أقل من أن سوريا قد ابتزت دوليا، ودفعت ثمنا كان يجب ألا تدفعه. لقد غيرت بموافقتها على هذه اللعبة، جوهر التزامها بعدم التفريط بسورية القرار مهما بدا لها الأمر مختلفا. يمكن للكلمات أن تغير القناعات، ولكنها لن تغير النتائج. سوريا لم تقامر مثل العراق، بمحاولة تحرير لواء اسكندرون. كان العدوان عليها متعلقا بكل ملابساته بالآخر. كانت ضحية لعدوان لا سبب له إلا نوايا الغزو المجرد لتحقيق مشروع ” الإلغاء العربي “. وصحوة المعارضة السورية ” العريقة ” المتزامنة مع مشروع الربيع العربي، لا تترك مجالا للشك في ضلوعها بالخيانة الوطنية، قبل معارضة النظام أو معها. وحينما اتخذت سوريا قرار الصمود كانت تعرف حدود قوتها وحدود قوة أعدائها، وراهنت استشهاديا على قوتها الذاتية ونجحت في إرباك حسابات كل الأطراف، إلى درجة تورط أمريكا في إلزام نفسها بالتدخل المباشر. وكان على سوريا أن تواصل الرهان على موقف المقاومة المحقق الردع بالنسبة لأمريكا، وليس على موقف روسيا والصين، اللتان تحاربان داخل البيت الرأسمالي وليس خارجه. ما الذي يمكن أن يجعل الصين بالذات ترتاح مجانا إلى قيام قوة عربية صاعدة في أهم مناطق الإستهداف الرأسمالي ؟ وما الذي يجعل روسيا، كدولة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من تقاسم العالم مع أمريكا، أن ترغب في قيام صين أخرى على حدودها ؟ إن امتلاك العرب وإيران قوة ذاتية سيادية بالكامل، أمام اندفاعة روسيا الإقتصادية والأمنية، أكثر خطرا من المراهنة على أمريكا مقلمة الأظافر، بالنسبة لروسيا. والصهيومريكية تعتبر أن سقوطها الحقيقي عن قمة العظمة الدولية هي تخليها عن إسرائيل، يدها الإمبراطورية الممدودة في كل آسيا وكل أفريقيا، والحاجز بينهما وبين التغلغل الروسي والصيني فيهما. لذلك لم تكن لتتدخل في سوريا حرصا على إسرائيل، وإذا تدخلت فما الذي سيخسره العرب ؟ هل بقي لهم ما يبكون عليه بعد إهدار دمهم واستباحة أوطانهم ووجودهم الإنساني ؟ كان المعرض بالتأكيد للخسارة الكبرى هو أمريكا في حال التدخل العسكري في سوريا. فلماذا تتطوع سوريا لإننتشال أمريكا من هوتها التي قيل إيحائيا في وسائل الإعلام أنها شجرة سامقة ؟ لماذا لم تراهن على حسابات الربح والخسارة لدى أمريكا. الضربة الأمريكية حصلت أم لم تحصل، كانت أسلم عاقبة من تنازلها عن قوتها الذاتية، التي أفرغت أي انتصار سوري من جدواه الإستراتيجية ؟
لم تكن روسيا لتستطيع التنازل عن دعم سوريا بذات القوة لو أصرت سوريا على رفض لعبة الكيماوي الدولية. فروسيا لم تحضر على المشهد ببطاقة دعوة من أحد. حضرت لأنها كانت على الشجرة قبل الجميع، بعد أن بلغ استهتار أمريكا بها حد التوقف عن الأصغاء لمطالبها. والصمود السوري لم يكن بالنسبة لها مجرد ملابسة أمنية طيبة، كانت بتشعب آثارها الدولية سلما للصعود أيضا، منحتها سمعة دولية مشجعة وساهمت في التفاف حلفاء دوليين مؤثرين حولها، وجعلت منها في نظر شعوب الجوار الروسي خاصة، سفيرا للخلاص من جحيم الهيمنة الصهيومريكية. لقد كانت استجابة سوريا المستعجلة للعبة الكيماوي مجانية على كل الصعد. ولا يمكن التوسع في الشرح لأن هناك محاذير لا يجب الوقوع فيها، سواء بالنسبة لسوريا أو غيرها.
لقد أسقط الصمود السوري الربيع العربي، وغير اتجاهات المصائر على الساحة الإقليمية، وأربكها على الساحة الدولية. عزز ثقة الشعوب بنفسها إلى درجة زعزعة الرأسمالية الإقتحامية وأجبارها على إعادة تفكيك استراتيجياتها. أعاد بعض الكرامة إلى العروبة رغم أنف العرب. جعل من السوري نموذجا عالميا، وأعاد رومانسية التحرر الجيفارية إلى ذاكرة الشعوب المقهورة. زعزع أركان ثقافة التعالي الغربية للأبد. أثبت التفوق الإنساني للوجدان العربي على كل من عداه. صهر كل السوريين معا في بوتقة الوطن الواحد، وأثر في وعي المسيحية تجاه العرب والإسلام الحقيقي. وأشياء كثيرة أخرى ربما ستجعل من الحادثة السورية استدارة نحو عالم أفضل. ولكن لن يدخل العرب هذه المرة إلى التاريخ من باب القوة الذاتية كإيرا مثلا. ربما في مرة قادمة نرجو الأ تتاخر كثيرا. ربما سيحتاجون قبل ذلك إلى شيء من البراغماتية الفاضلة، وحرق كل كتب الفقه، واعتماد نسخة موحدة التفسير للقرآن. وتحريم ظاهرة علماء الدين لأن القرآن يحرمها ويحذر منها. ولأنها كانت مبدأ لظهور مسلسل التلاشي العربي السريع على خارطة الحركة والنشاط البشري.