الحسن البصري السلف الأول لجورج لوكاتش، اما مرتدو اليوم فبلا سلف!
عادل سمارة
طبعاً ليس من المنطقي مقارنة مثقفين بينهم قرابة ألفية ونصف. ولكن لفت نظري مشترك بين الحسن البصري وجورج لوكاتش، وإن كان الهدف من فكر وموقف كل منهما متناقض مع الآخر بينما المشترك هو خشية السلطان على حساب الفكر والبيان.
المشترك بينهما هو الاعتذار او التراجع عن الموقف بلا قناعة وإنما خشية القمع. كلاهما نقيض للمثقف المشتبك. كان الحسن البصري مثقفاً قدرياً بوضوح، والقدرية في لحظتها العربية تلك كانت باكورة منارة أمل بأن منع الظلم ممكناً وبأن اعتماد العقل ضرورة. ولذا حاربها الأمويون (كنظام سلطة وقوة) حربا لا هوادة فيها بكل من القمع والتنظير الجبري. ومن هنا تناقض القدرية والجبرية، اي الشعب والسلطان، إن جاز لنا هذا التعميم. لذا جرى قتل معبد الجهني وعمرو المقصوص وغيلان الدمشقي. (ما يتعلق بالحسن البصري أنظر، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، الجزء الأول ، دار الفارابي، 1979، ص ص 571-76).
كان الحسن البصري يقول بأن الخير بقدر والشر بقدر، اي ليس الخير والشر من الله بصورة مطلقة بل إن نسبتهما إلى الله محدودة بحدود. وروى السيد المرتضى عن ابي الجعد بأنه سمع الحسن البصري يقول: ” من زعم ان المعاصي من الله جاء يوم القيامة مسودا وجهه”.
وحسب حسين مروة، فإن الحسن البصري تغلب في مناظراته على ابو السختياني المؤيد للجبرية والسلطة ولكن السختياني ارغمه على تغيير رأيه حيث هدده بالسلطة وخوفه بالسلطان وحينئذ وعده الحسن البصري بالإقلاع عن هذا الرأي.
يقول حسين مروة أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان كان يعرف خوف الحسن البصري من السلطان ولذا سأله عن رأيه في القدر والبر، ولكن في هذه الحالة لجأ الحسن البصري إلى إجابة قليلة الغموض :” إن كل شيىء بقضاء الله وقدره إلا المعاصي” وهنا كان يقصد معاصي الخلفاء الأمويين.
في الجانب الآخر، كان جورج لوكاتش من مدرسة الماركسية الثقافوية التي ركزت على الأفكار في الصراع الطبقي على حساب المادية التاريخية حيث ركز هو عام 1923 في كتابه التاريخ والصراع الطبقي على اهمية الثقافة الثورية بما هي العامل الحاسم الضروري لثورة ناجحة وهذا كان رفضا حادا للحتمية الاقتصادية (كما يسمونها الثقافويون) في الاستراتيجية البلشفية.
على ضوء طرد كارل كورش من الحزب الشيوعي الألماني قام لوكاتش باستنكار كتابه. وللتغطية على تراجعه هذا، زعم انه اذا ما طرد من الحزب لن يتمكن من مواصلة النضال ضد الفاشية، باعتبار ان هذه تذكرة دخول للعمل ضد الفاشية. لقد استنكر وعمل ضد كتابه، وخلال ثلاثين سنة من عرضه للستالينية كان متناقضا مع مشاعره وعمله المدرسي العميق. لذا، وحينما سنحت له فرصة العودة لموقفه القديم، عمل وزير ثقافة في حكومة إمري ناجي 1956 التي بقيت لفترة قصيرة قليلا. وكما يزعم بعض معارضي الستالينية فإن عقوبته كانت بسيطة نظراً لسمعته الكبيرة ( Arthur Hirsh, The French New left: An Intellectual History from Sartre to Gorz, Mai 1968, p.p.87-89, South End Press Boston, ).
وقد يكون هذا التفسير صحيحاً. فمارتن هايدجر النازي المعروف، لم يُقتل ولم يُعاقب أيضاً على يد الصهوينة والامبريالية في حملتهما المؤبدة على اللاسامية، ربما لمسعته الكبيرة، وربما لأن هناك تفضيلات في ما يُزعم بأنه المعيار الأكثر صرامة في تاريخ العقاب على الجرائم!!!!
والسؤال المعلق من حينها حتى اليوم هو: هل افلح لوكاتش حينما نسب فهم بل وعي البروليتاريا او رهنه للعملية الثورية وليس للحزب؟ وكذلك نسبه للعوامل الثقافية والإيديولوجية والأبعاد الذاتية ؟ يرى لوكاتش ان الوعي الطبقي هو تنبه العمال الى ان شغلهم هو المصدر الفاعل الإنساني في الحياة الاجتماعية، ومن ثم إصرارهم على القدرة الحرة والواعية للتحكم به. طبعاً، هذا مختلف عن لينين الذي ركز على دور الحزب ودور الحزب في الوعي والثقافة وحتى عن غرامشي الذي شارك لينين دور الحزب وشارك لوكتش دور الثقافوية.
في عصر هؤلاء جميعاً كان دور الحزب أعلى لأسباب منها أن فرص الوصول إلى الثقافة وبالتالي الوعي اصعب على الطبقة العاملة. اي ان مناخ العمل الجماعي في المصنع لم يكن كاف لرفع الوعي وتفجيره. ومن هنا كان موقف الحزبيين أكثر واقعية. وهذا يُغري بالاستنتاج أن تهمة الحتمية والستالينية كانت غطاءاً لميول ثقافوية لبرالية رافضة للمادية التاريخية أكثر مما هي نزعات ثورية.
ولكن، ماذا عن اليوم، العصر الحالي، حيث المعلومة متوفرة ونسبة التعليم عالية ومع ذلك فالنضال العمالي الطبقي ضعيف. هل السبب في بقرطة الأحزاب أو انحراقها؟ هل السبب لأنها اصبح مسموح بها ولها مما أوهن الشحنة النضالية لدى كوادر الأحزاب؟ هل السبب هو “مرونة” الراسمالية كما قيل كثيرا في العقود الأخيرة، بمعنى جِلدها “المغَّاط”؟ هل السبب في قدرة رأسمالية المركز على الحفاظ على تدفق التحويلات من المحيط إلى المركز مما أبقى على سيولة تخدم ماكينة دولة الرفاه في رشوة العمال بخدماتها إضافة إلى تراكب هذا مع الفوردية؟ وهل السبب هو تقويض أي دور تنموي حقيقي في دولة المحيط بعد ما يسمى ما بعد الاستعمار مما ابقاها أسيرة الاستيراد أي تحويل الفوائض المحلية كمداخيل لبرجوازيات المركز؟
بغض النظر عن هذه الأسباب فرادى أو مجتمعة، فإن اللحظة الحالية تؤكد بأن الحزب ضرورة إنسانية وضرورة طبقية للنضال الجماعي. كما انه بدون الفهم الطبقي لا يتحصل موقفا طبقياً وبالتالي لا ينبني موقف نضالي. طبعاً يجادل كثيرون بأن مفهوم الطبقة اختلف وتركيب الطبقة اختلف (مثلا أطروحات أندريه جورز)، إلا أن الحماسة الهائلة للفردانية، رغم تشدد حزب وجهاز الدولة بشكل فاشي يكشف عن خلل خطير لدى من يرفضوا مسألتي الطبقة والحزب ويعيد التأكيد على المنظور المادي التاريخي للتحليل دون نفي أهمية الثقافة.
وقد يُضيء على هذا أمران:
· في حقبة العولمة أصبح العالم تحت سيطرة “طبقة” راسمالية معولمة راسها رأسمالية المركز وفي مقدمتها الشركات الكبرى وقاعدتها كمبرادور الميحط مما حول العالم إلى “قطاع عام رأسمالي معولم لهذه الطبقة” ومقابل هذا تميعت الطبقة العاملة حتى في الدولة القومية الواحدة، وهذه هزيمة العمل على يد راس المال. وعلى ضوء هذا واجه العالم تغول رأس المال اقتصاديا بالاستغلال وعسكريا بالاحتلال. وعليه، فإن ضعف العمل كأحزاب وطبقات هو الذي، حتى الآن على الأقل، لم يتمكن من استثمار أزمة راس المال الممتدة منذ عام 2008.
· وقد ساعد رأس المال تلك القفزة التكنولوجية الواسعة على صعيد الإعلام بشكل خاص، وهي القفزة التي خصت دور الثقافة ووصول او توفر المعلومة مما زاد الفردانية واللاحزبية واللاطبقية فاصبح الإعلام جهاز تشويه وعي هائل القدرة مما غذى قوى الدين السياسي والطائفية والفئوية…الخ.
والسؤال الآن: إذا كان الحسن البصري قد تنازل عن قناعاته الصحيحة خوفاً، وإذا كان جورج لوكاتش قد تنازل عن قناعاته التحريفية خوفاً كذلك، فلماذا يرتد الكثيرون من المثقفين العرب اليوم لصالح الثورة المضادة طوعاً متخلين عن ما قالوا به لعشرات السنين !!
تساعد على الإجابة قراءة الحالة العربية عامة والحالة العراقية إلى حد كبير والحالة السورية إلى أحد أكبر وأوضح. كيف يمكن للمثقف أن يتحول من رافض للقمع المحلي إلى عميل للثورة المضادة: للولايات المتحدة، للكيان الصهيوني ولحكام الريع النفطي!!!!