ليبيا وأبواب “الانفصال” المشرعة

محمود عبد الرحيم

ربما يبدو الحديث عن الفيدرالية ليس جديداً في ليبيا، حيث تمت إثارته منذ الأيام الأولى للمرحلة الانتقالية بعد رحيل القذافي، فضلاً عن التلويح المتكرر عن إعلان برقة إقليماً مستقلاً، لكن المفاجئ كان تشكيل المكتب السياسي لإقليم برقة برئاسة إبراهيم الجضران الأسبوع الماضي، وإعلان عبد ربه البرعصي ل”حكومة في برقة” بشكل انفرادي، وحديثه عن “دولة مستقلة” مع تشكيل، بالترافق، “قوة دفاع برقة”، فيما يقدم في الوقت ذاته أحمد الزبير السنوسي (ابن عم ملك ليبيا السابق) نفسه كرئيس ل”المجلس الانتقالي لبرقة” الذي تم الإعلان أيضاً مجدداً عن تشكيله مؤخراً وبشكل مستقل، الأمر الذي حوّل مسألة الفيدرالية من مجرد فكرة متداولة في الإعلام، أو تهديد شكلي متكرر، إلى واقع يتم محاولة فرضه على الأرض، الأمر الذي أثار جدلاً واسعاً بين الليبيين، وفي الوقت ذاته طرح المخاوف حول مستقبل ليبيا، وهل باتت تتجه فعلياً نحو خطر التقسيم، وهل ثمة أياد خارجية تقف وراء هذه التحركات، أم أن القضية لا تعدو تنافساً قبلياً ومناطقياً على الثروة والسلطة، وعدم اعتراف بوجود الدولة؟ أم أن ما يجري يعبّر عن شكل من أشكال الاحتجاج العنيف على سوء الأوضاع؟

علينا أولاً أن نتوقف عند توقيت محاولة فرض الفيدرالية، ومبررات هذه الخطوة، والسياق التي جرت فيه، حيث إنها تمثل استثماراً للظرف السياسي الراهن، ولحالة الهزال الذي لا يسمح للدولة المركزية ببسط سيطرتها على كامل الأراضي الليبية، فأي متابع للتطورات التي تجري على الأرض الليبية، يمكنه بسهولة أن يدرك أن ثمة غياباً لمفهوم الدولة، من حيث القدرة على فرض الأمن والنظام، وتلمس دور المؤسسات الرسمية في حياة المواطنين .

وحين يتجاوز الأمر تعطيل المصالح الحكومية، وحصار المحاكم، وموانئ تصدير النفط، والسطو المسلح على البنوك، وحتى استهداف السفارات الأجنبية المتوالي، وعمليات الاغتيال اليومية، إلى اختطاف رئيس الحكومة ذاته، فهذا معناه ببساطة أن الفوضى ضربت ليبيا، وأن مؤسسات الدولة عاجزة عن القيام بالحد الأدنى من دورها، وباتت “فاشلة” بلا مبالغة، فضلاً عن تعثر المسار الانتقالي، بعدم قدرة المجلس الوطني الذي تعصف به الصراعات الأيديولوجية، ويُتهم من قبل قطاعات عديدة بالفشل وإهدار ميزانية الدولة، على اختيار لجنة الدستور وإنجاز دستور دائم، والشروع في انتخابات، ومن ثم بناء مؤسسات دولة مستقرة لها شرعيتها .

إضافة إلى عدم قدرة الحكومة والمجلس الوطني (البرلمان) معاً، على معالجة الخلل الأمني، والتعاطي مع أزمة الميليشيات المسلحة التي ترى نفسها فوق الدولة، وتفرض سطوتها على الجميع لأسباب مصلحية، أو لحسابات قبلية .

ومن هنا يمكن فهم السياق الذي جرى فيه إعلان برقة إقليماً ذاتياً، فضلاً عن كون ثراء هذه المنطقة نفطياً، محفزاً للاستقلال بها، وأظن أن هذه هي الورقة التي يمكن لدعاة الفيدرالية من خلالها الضغط على الحكومة المركزية، وإضعافها، ومغازلة في الوقت ذاته الدول التي لها مصالح نفطية في ليبيا، لتمرير الفيدرالية .

وربما يستوجب الأمر، هنا، استحضار تجربة كل من كردستان العراق، وجنوب السودان، حيث كان صراع كل منهما على إعلان الحكم الذاتي، والسيطرة على مناطق غنية بالنفط، مرتبطاً بضعف الحكومة المركزية، ووجود مناخ دولي يسمح بهذه الخطوة، مع بروز أجندة مصالح دولية في هذه المنطقة، خاصة المرتبطة بالطاقة .

وكانت الفيدرالية مقدمة للانفصال التام، وإعلان دولة مستقلة كما في حالة السودان الجنوبي، أو إقليم مستقل تماماً، يعقد اتفاقات سياسية وصفقات اقتصادية ويدير شؤونه مع الدول الأخرى، من دون الرجوع للحكومة المركزية، كما حالة كردستان العراق، مع حالة صدامات لا تتوقف حتى الآن، وتأخذ أحياناً الشكل المسلح، سواء بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان في العراق، أو بين السودان الشمالي والجنوبي .

ومن هنا تتجسد المخاوف، سواء ما يتعلق بوحدة ليبيا، وإمكانية انفصال هذا الإقليم الذي قد يكون مقدمة لانفصالات أخرى، واستعادة الحالة التي كانت عليها ليبيا قبل “ثورة القذافي” من توزع هذا البلد إلى ثلاثة أقاليم هي برقة وفزان وطرابلس، خاصة مع عدم تجذر فكرة الدولة داخل المجتمع الليبي، وسطوة النزعة القبلية، وأيضاً البعد الاقتصادي، حيث سيؤثر انفصال إقليم ذي موارد غنية في الوضعية الاقتصادية العامة لليبيا، وفي بقية الأقاليم، الأمر الذي قد يؤدي إلى صراع مسلح، وحرب مفتوحة بين الأقاليم المختلفة، أو بين ما تبقى من الحكومة المركزية، وقيادة هذا الإقليم . وبحكم التداخل القبلي العابر للحدود، بين كل من ليبيا وجيرانها، خاصة مصر وتونس وتشاد، والنيجر فهذا، بالتأكيد سيؤثر في وضعها الأمني المتردي أصلا، حيث قد يعزز تحركات مشابهة انفصالية، أو رغبة في الاتحاد مع أقرانهم، في دول الجوار، أو المشاركة معهم في أية صراعات مسلحة، على النحو الذي يوسع من دائرة الصراع، والفوضى الإقليمية، ومناخ عدم الاستقرار، وهذه الأجواء المضطربة تمثل أيضا بيئة حاضنة للنشاط الإرهابي ول”قاعدة بلاد المغرب العربي” التي أصبح لها وجود في هذه المنطقة بقوة مؤخراً .

والأزمة هنا، وعلى الأرجح تكمن في كون الحكومة المركزية في ليبيا ضعيفة لدرجة كبيرة، فلو كانت في وضع القوة، لأمكنها التدخل المسلح، والقضاء على هذا التحرك الذي يمكن وصفه ب”التمرد” وإخماده في مهده .

الأمر الذي يجعل مساحة حركتها محدودة، ويضطرها إلى اللجوء لعقد صفقات مع شيوخ القبائل، لمساعدتها على عدم شرعنة هذا الوضع الجديد بقوة الأمر الواقع والرضا الشعبي داخل الإقليم القائم على استثارة النعرة القبلية والمناطقية، وفتح حوار مع دعاة الفيدرالية، ومحاولة استيعابهم في مؤسسات الدولة، وإشراك أبناء كل منطقة في صنع القرارات المحلية التي تمسهم، ومساحة أوسع من الصلاحيات لمسؤولي المحافظات والبلديات، في إطار السياسة العامة ومرجعية الحكومة المركزية .

 وفي الوقت ذاته، ثمة حاجة للعب على التناقضات بين الكيانات المختلفة المعبرة عن الفيدرالية، لكن تختلف في رؤاها، فأحمد الزبير السنوسي مثلاً، وبحسب تصريحاته الأخيرة، لا يبدو مرحباً بنشأة حكومة فيدرالية بشكل غير شرعي ومن جانب واحد، ولا بفكرة الصدام بين الحكومة المركزية وإقليم برقة، ويتحدث عن الفيدرالية الإدارية، وليست السياسية، الأمر الذي يمكن استثماره، خاصة أنه شخصية مؤثرة في هذا الإقليم .

كما أن التواصل مع الدول الكبرى، وحثها على عدم تشجيع هذه الخطوة التي تمثل مقدمة لانفصال إقليم برقة مهم للغاية، وشرح خطورة تقسيم ليبيا، وأن هذا الأمر لا يخدم مصالحها على المدى البعيد، خاصة دول الجوار الأوروبي التي قد تعاني موجة هجرة تسبب لها توتراً أمنياً، حال اضطراب الأوضاع في دولة بجنوب المتوسط . وفي الوقت ذاته، يجب النظر بجدية في شكوى عدم عدالة توزيع الموارد على الأقاليم الليبية كافة، وكذلك إشعار كل الليبيين أنهم شركاء في ثروة بلادهم، ويحصلون على نصيب وافر، وخدمات جيدة، ومعالجة قضية الفساد المالي والإداري المثارة بقوة، والتحقيق الجدي فيما يُنسب لبعض المسؤولين . وربما يكون من المفيد حالياً، تغيير حكومة علي زيدان التي أثبتت أنها أكثر ضعفاً وفشلاً من سابقتها، لدرجة عدم قدرة رئيس الحكومة ذاته على حماية نفسه، والتوافق على رئيس حكومة قوي يحظى بدعم شعبي، ولديه كفاءة وقدرة على التعاطي مع التحديات الصعبة الراهنة، مع ضرورة الإسراع بإنجاز الدستور الذي يجب أن يعبر عن طموحات الشعب الليبي، ويستجيب لتطلعاته، ويعبر عن توافق كل ألوان الطيف السياسي، والدخول سريعاً إلى انتخابات برلمانية ورئاسية، لبناء مؤسسات الدولة، ومن بينها مؤسسة أمنية وجيش قوي، يمكنه فرض الأمن والنظام، خاصة أن دعاة الفيدرالية يبررون إعلانهم برقة إقليماً ذاتياً، بالفوضى الأمنية وعجز الحكومة عن التصدي لها، وكذلك الفساد المالي، وأيضاً بالرجوع إلى دستور ليبيا القديم من العام 1951 الذي يتحدث عن الفيدرالية، في غيبة دستور جديد .

فالتعثر أكثر من ذلك، يصب في خانة مزيد من الفوضى، ويشجع دعاة الانفصال، ويفتح الطريق أمام تفكك ليبيا، وتحولها لبؤرة ملتهبة من الصراعات المسلحة، الأمر الذي يضيع هذا البلد ويهدد جيرانه كذلك .

أما التلكؤ، في إنجاز هذه الاستحقاقات، أو الاكتفاء بالتهديد الكلامي بالمواجهة والحديث عن عدم قانونية ما جرى، كما جاء على لسان رئيس الحكومة ورئيس المجلس الوطني، أو إصدار فتاوى دينية تحريمية من رابطة علماء ليبيا، أو حتى مسايرة دعاة الفيدرالية كالبرعصي والسنوسي، في الدعوة إلى إجراء استفتاء حول الخطوة التي قاموا بها، فليس في مصلحة ليبيا ووحدتها واستقرارها بأي حال من الأحوال، فتجاوز أسباب الأزمة والتعاطي معها بجدية، هو السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق .

* كاتب صحفي ومحلل سياسي

mahmoudreheem@hotmail.com

 المصدر:دار الخليج