مرحى روسيا ! ولكن….
أحمد حسين
اختلطت الأوراق في السياسة الدولية بطريقة تتناسب والفوضى الهائلة التي فرضتها الصهيومريكية على علاقات البشر في كل مستوياتها. حالة مهاجمة الوعي لدى الأفراد والشعوب والأنظمة، التي مارست فيها الصهيومريكية كل إمكانات التفوق في القمع الاقتصادي والسياسي والعسكري والثقافي للعالم، بما في ذلك حلفاءها، اسفرت عن عالم متورط ومثخن في وجدانه العام، يعيش تحت طائلة الخوف والتمرد العاجز، و بين التوجس وصعوبة الإمتثال لحتم الخضوع. جميع إجراءات التغيير ومشاهده الحية أصبحت جزءا من يوميته، على الشاشة وأحيانا في الحي الذي يسكنه، تذكره باغترابه المادي والاجتماعي والإنساني في عالم فقد كل توازناته القديمة، في السياسة والأمن النسبي للعلاقات البينية، على المستوى الدولي وفي الشارع ومكان العمل وداخل البيت. ولم يكن هناك أي فرق بين ما يجري على الشاشة وما يشاهده في واقع الحال. كل شيء أصبح يجري بصورة مختلفة عن المألوف. أصبحت الأمور أكثر وضوحا في المباشرة واللامبالاة والقسوة، سواء كان ذلك في الحياة العادية أو الحروب أو السياسات الإقتصادية والإجتماعية.أصبح يحس أنه أقل أمنا في كل شيء، وأن مظلته الإنسانية قد تهرأت ولم تعد تقيه المطر أو الشمس. الإرتزاق العادي لم يعد متيسرا، وسوق الإنتاج والإستهلاك ودوره فيها أصبحت لغزا بالنسبة له، تطالبه بالقلق وتغيير أفكاره القديمة. اختفي قانون اللصوصية السطحية، وفائض القيمة وعلاقات الإنتاج القديمة، وأصبحت الأهمية لدورة المال المعقدة كآفاق الروح. وهي أهمية سحقت إنسانية المرتزقين، ودمجتهم بالسلعة في بنية واحدة، وجعلتهم شركاء مخلصين في بؤس أنفسهم دون أن يفهموا كيف.
لم يكن هذا صدفة تطورية في عقل العالم. كان تطورا في عقل المجرم الإمبريالي. قفزة نوعية في جنون التفوق الإمبريالي على نفسه. أهرام الدولارات الصهيومريكية، جعلتها تشتري الحروب وتنفق عليها، ثم تخرج منها رابحة ماديا ومعنويا. كيف ؟ إن توفر الإمكانيات فوق العادية للعقل المجرم تجعله قادرا على تدمير أي شيء في طريقه. يحاول أن يعيد بالتخريب تركيب العالم على هواه، وهذا ما حاولت الصهيومريكية فعله فنجحت في التخريب، ولكنها فشلت في إعادة التركيب وخلقت عالما تعمه الفوضى والكارثة المتربصة ومسوخية العلاقات. لقد خلطت الصهيومريكية المهووسة وعي العالم بالدولار السياسي والإجتماعي والإعلامي والعسكري، وفككت كل بناه الوعيوية القديمة، ليصبح ببساطة ملكوتا إمبرياليا يناسب عظمتها. طاردت الشعوب بالأنظمة المرتشية والمارينز، ومراكز القوى الطبقية العميلة، وأوكار الأحزاب الممولة بسخاء، ودمرت شعوبا وفككت أخرى، وأقامت جيوش الإرهابيين والمجرمين والقتلة، وسهرت على ترويضها ووضع أجنداتها التخريبة عقودا طويلة. ( آخرها الأرهاب المتنقل في المنطقة العربية ). وكما قلنا كان هذا كافيا لخلق الفوضى في العالم، ولكنه لم يكن كافيا لإدارتها.
وأدركت الصهيومريكية، بعد أن فقدت كما يبدو، جزءا من عنفوان القدرة التي تمتعت بها، وبعد أن دخلت بعض الدول القوية اقتصاديا وعسكريا كروسيا والصين ودول البريكس ساحة الفوضى العالمية الصهيومريكية، وأخذت تدعو إلى وقف التنكيل المتسارع والمتحلل من سنن العلاقات التاريخية دفعة واحدة، أن الأمور لم تعد كما كانت. ولكن الصهيومريكية لم تفقد تفوقها حتى الآن، خاصة في مواجهة مفتوحة مع العالم بأسره، إلا أن تكتل الجريمة الرئيسي في أمريكا ليس مقتنعا بحرب ستكون أفضل نتائجها عالما تحكم فيه أمريكا أشلاءها فقط. لم يعد هذا التكتل المشبع بفلسفة التفوق النوعي على غيره يعيش في عصر عتاة السوداويين من أمثال كيسنجر أو هاننجتون وأمثلهما من رواد ” نهاية العالم “، وبدأوا يحاولون التفكير. وأدركت شعوب الأقليات في أمريكا، أن نشوتها بعظمة ” امة اللوغو الأمريكية “، وتمتعها بفوائض الجوع العالمي، ليس أمرا مضمونا مع التبذير، وأن ما انفقته ” أمتهم ” العظيمة على حفلات صيد الشعوب وإبادتها، يستطيع أن يوفر لكل عائلة في أمريكا طبيبا متفرغا. ومهما كانت الأسباب، فإن السبب المباشر والأهم لما يبدو أن أمريكا قد أصيبت بتريث الجريمة، هو سقوط نظرية ” الدم ” الأمريكية، وهي نظرية مفادها أن أقل وسائل العظمة كلفة هي القتل. إن القتل يوفر عنصر الرعب، وعنصر الرعب يوفر عنصرالخضوع، وهذا بدوره يسهل سرقة الثروات بشكل مباشر وغير مباشر. فأمريكا تصنع الحروب وتبيع السلاح لأعدائها، ثم تقتلهم وتستعيد السلاح، وتحيله إلى الدول الصديقة فتقوم ببيعه مرة أخرى في مكان آخر، وهكذا تكون كلفة الحرب أقل من عائداتها. ولكن أمريكا خسرت ماديا، في المدة الأخيرة، من الحروب التي صنعتها، بسبب طول أمد الحرب، ونضوج خبرة أعدائها فيها، وكراهية الحواضن الميدانية لها في جميع بلدان العالم. ومع أنها نجحت في حروب الربيع العربي الأخيرة، بإقناع العرب بأن يشتروا منها السلاح ويقتلوا به العرب الذين يشترون السلاح من روسيا، ولكن تبين أن تسريح المارينز، يكلف أكثر من إرسالهم إلى الحرب. فجشع ” غولد ووتر “، وارتفاع نسبة الجريمة في أمريكا بحدود غير معقولة، التهم ضعف المبلغ الذي وفرته من صفقة ” القتل الذاتي ” التي عقدتها مع العرب. هذه بالطبع ليست سخرية، ولكنها تبدو كذلك.
والأن يبدو أننا أمام محاولة عالمية للخروج من الكارثة. فشل جيش الأشباح المفترسة الأمريكي في سورية، في تحقيق أية معادلة ربح ميداني سياسي أو معنوي، سوى التخريب وارتكاب جرائم الذبح ضد الأطفال والأبرياء. والخسارة المعنوية الأمريكية في سوريا تشكل أضخم خسارة معنوية منيت بها دولة عظمي بدون أن تخسر جنديا واحدا. والدمار الذي لحق بهيبة أمريكا ليس بسبب فشل مخططها في إخضاع سوريا بواسطة جريمتها المنظمة، وليس بسبب خسارتها السياسية بين شعوب المنطقة، وإنما لأنها نجحت أخيرا أن تقنع العالم أنها أسوأ دولة عرفها التاريخ، وأنها سبة التاريخ البشري السالف والتالي. لقد أيقن كل إنسان سوي في هذا العالم أن أمريكا عدوه، لأنها مركب كارثي جاء من كواليس التاريخ والصدفة معا مثل أية كارثة طبيعية.لم يعد بإمكان أحد في هذا العالم أن يصدق أمريكا في أي ِشيء، ولم يعد هناك شعب واحد يشعر أنه آمن من شرها لأنها أثبتت ذلك للجميع بكل الطرق. نظام عجيب يعتبر أي التزام إنساني أو حضاري أو أخلاقي عيبا عقليا. لم تعد أمريكا بكل قوتها وشرها وتحللها تثير خوف الناس بمدى ما تثير اشمئزازهم. هذه هي أمريكا الآن، دولة بدون مصداقية حضارية أو عقل إنساني، أو كينونة مدنية يمكن التعامل معها. وهي تتطامن الآن أحيانا، وتفور أحيانا، ولكن هل بإمكان عقل موضوعي أن يتوقع من عقل غريزي سوى الشر !!
في حالات الفوضى أوالشذوذ التاريخي تتضاءل نسبة اليقين الموضوعي للتحليل إلى درجة لا يمكن الإعتماد عليها. فالفوضى هي أساسا اغتراب في فكرة الذات، وسقوط للمضامين الاجتماعية المتبعة في التقييم. أما العلاقة بالآخر، ومنها، محاولة تحليله، فهي فاقدة في حالات الفوضى لأي يقين موضوعي بالكامل. فالمشترك المعرفي والمنطقي والثقافي للحياة والعلاقة يكون في حده الأدني، ولا يمكن اعتباره مضمونا وعيويا موحدا يساعد على حركة اتواصل المتبادل. هذا ما سعت إليه الصهيومريكية، وسمته الفوضى البناءة، أي فكفكة كل مصادر القوة الإجتماعية المفترضة، لتصبح هي القوة المركزية الوحيدة في العالم. فما الذي يجري اليوم ؟ هل دخلت الصهيومريكية مرحلة الشك في قدرتها على تحقيق هدفها النهائي الشامل للهيمنة، أم أنها تراوغ ؟ إذا كان المقياس هو القوة السياسية والإقتصادية والعسكرية، فما تبقى لأمريكا منها، بعد كل ما يبدو أنها فقدته في العقد الأخير، يبقيها قادرة على تحين الفرص، وما على الفرصة إلا أن تأتي أولا، لتجد. فالصهيومريكية عقل غريزي، وليست عقلا اجتماعيا. لقد تجاوزت قوة أمريكا في عنفوانها، المفهوم التقليدي لأية مصالح جزئية، لأنها لم تعد بحاجة إلى ذلك. لم يعد هناك مصالح دولية تتناقض مع المصالح الأمريكية، أو لا تخضع لها. أمريكا سيدة العالم، والرأسمالية حلم الشعوب الفقيرة في تحقيق علاقات جيدة مع وجبات الطعام. تلك الشعوب كان بعضها يتولى بنفسه حراسة المصالح والإرادات الأمريكية في بلاده ليبقى مرحليا على قيد الخبز فقط. ولم يعد كذلك بإمكان أمريكا على ضوء هذا ألا تحلم خارج علاقات القوة والسيادة، أو أن لا تضع مشروعا يحول العالم رسميا إلى ملكيتها. ولو تصورنا أن للقوة عقل اجتماعي، لكان بوسع الصهيومريكية أن تضع نظاما لعالم مثالي. ولكنه لم يكن بوسعها أن تتصور عالما تافها يكون فيه الجميع سعداء. عليها أن تعطي الفرصة لتفوقها أيضا. لذلك ليس هناك أية ضمانات، حتى لانتظار الفرصة من جانب الصهيومريكية، قبل العودة مرة أخرى إلى مشروعها لعولمة الإستعباد. ربما ستقوم بتحويل الفرصة إلى خيار، وتستأنف تدميركل شيء لا يناسب تحقيق موضوعة العقل الغريزي. ولو كان لي رأي في الموضع لأيدت هذه المغامرة من كل قلبي. فقد جوعت الصهيومريكية العالم، وأرهبته، وسفكت دمه، والآن تريد سحق إنسانيته، فما هو المانع من اعتبار الموت أحد الخيارات الموضوعية، في هذه الحالة ؟ الحياة ليست خيارا، ولكن استعجال الموت كما تقول التجربة، هو دائما الخيار المثالي لرفض عبثية الوجود. وفي حالة ما تريده أمريكا من العالم، يصبح مجرد العيش المقترح خيارا عبثيا أمام الوعي الإنساني للحياة. الصهيومريكية نفسها أول من أدرك ذلك، وحوله أثناء الحرب الباردة إلى نصوص روائية وأفلام عن عبثية الحياة في النظام الشيوعي اللاإنساني تنتهي دائما بالإنتحار أو التصفية. واليوم تقترح نظاما بديلا يقوم على العبودية الإقتصادية ودينامية الغريزة العاقلة. أي السوريالية بدل الماركسية. فما هو منطق أية علاقات سياسية يمكن ممارستها مع نظام كهذا ؟
المشهد المعروض حاليا، هو مشهد روسيا وهي تحاول ترويض الثور الصهيومريكي الهائج. ويمكن محاولة فهم روسيا بالطريقة التقليدية، فهي ما تزال جزءا من عقل العالم الذي ننتمي إليه، والذي كان الشعب الروسي أول من ثار عليه سنة 1917. فكيف يمكن لروسيا الديبلوماسية التقليدية إدارة نوع من العلاقات، مع الصهيومريكية التي تجاوزت السياسة إلى الفوضى السوريالية ؟ السياسة الروسية، كما يبدو، تسلم بأبدية النهج الراسمالي واعتبار الطبقية قانونا كونيا. ولكن تغول القوة، وتجربة المشروع الصهيومريكي القائم على نفي الأخر وتجربته الخاصة، أصبح يهدد سلام العالم وحاجته الماسة إلى تعدد توازنات القوة، للوصول إلى نظام دولي عاقل. إذن فإن روسيا ليست عدوة إيديولوجية للصهيومريكية كما يعتقد البعض اليوم، إلا إذا اعتبرنا التخلف عن السوريالية الصهيومريكية ايديولوجيا. وهي لا تريد أن تكون أيضا عدوة سياسية لها، فالحلم الإستراتيجي لروسيا لا يسمح بذلك. كل ما تحلم به حاليا هو الشراكة السياسية معها من خلال إخراجها من قبضة السوريالية الإمبريالية، وإعادتها إلى الإمبريالية المعولمة المتعقلة. فهي تعرف أنها لن تدخل عالم المنافسة الإمبريالية والعظمة الإقتصادية إلا من الباب الأمريكي كما فعل غيرها. ومن أجل ذلك تحاول جهدها أن تحقق في علاقتها مع أمريكا حالة من الحياد الإيجابي المتبادل عبر صورة محسنة للعالم القديم. أي إحلال العولمة مكان الحرب الباردة، بقيادة مشتركة ومستوجبة موضوعيا، بواقع الحال التي تفرضها التوازنات الدولية الآن، بعد الفشل الصهيومريكي المفترض حاليا، بعد سد بعض ثغرات هذا التوازن الموروثة من الماضي بينها وبين أمريكا. أهم هذه الثغرات هي، توقف امريكا وجواريها الأوروبيات عن تهديد أمنها، واستعادة دورها كقوة موازية لأمريكا تؤهلها لشراكة ندية معها في النظام العولمي. وهي تلعب بأوراق قوية في الضغط على أمريكا. أهمها : كثرة التورطات العسكرية الدولية لأمريكا في العالم. مشاكلها الداخلية كمجتمع بنيوي تلفيقي حول بنية اقتصادية بالغة القوة والشذوذ والنفقات العسكرية والأمنية، لا يمكن أن تستقر إلا بالنهب الإقتصادي الدوري للدول التابعة والحليفة ومؤسسات المال الدولية. اعتمادها على مؤسسات الجريمة الدولية التابعة للأمم المتحدة، كجزء من نهجها الإرهابي في تهديد أمن الدول والشعوب والأفراد. الصبيانية السياسية في التعامل مع العالم عبر طاقم من أراجوزات التعالي الدوني المثير للقرف، والدونية الأخلاقية الفاخرة، والذين تعمدوا مخاطبة العالم بفجاجة شخصية مركبة. وأخيرا، وهي جوكر اللعبة، مسرحية الربيع العربي، والصفعات التي تلقتها أمريكا في سوريا. ووقوف روسيا على أرضية تحالف دولي من دول الصف الثاني، يشكل ضغطا جديا على يقين القوة الصهيومريكي. هذا بالإضافة إلى أن حلفاء امريكا الأوروبيين أدركوا رغما عنهم، أنهم ضحايا تحالف تكتيكي خبيث من جانب الصهيومريكية، يسعى إلى استلحاقهم بالتبعية، وليس بالتحالف الإستراتيجي.
كل هذه الأوراق سخرتها وتسخرها روسيا من خلال طاقم ديبلوماسي هو قمة في الأداء، يثير الإحترام وحتى الحب لدى الكثيرين، باهتمامه باللياقة والوضوح والجدية في احترام الأداء الأخلاقي لما يريد، مقابل زعرنات الإخراج التي يؤدي بها الطاقم الأمريكي والغربي عموما استعراضاته المنفرة. إن بوتين وحده بمضامينه السياسية، وذكائه المتألق، هو أكثر شخصيات الرئاسة الدولية إقناعا وإثارة للإعجاب، وإنسانية وسحرا شخصيا. أنه يلعب بجدارة وصدق، دور الرجل الحكيم على ساحة من المجانين والنكرات.
والسؤال هو هل مشروع بوتين والدول المتحالفة معه قابل للتحقيق ؟ هل يمكن منطقيا وجود إمبريالية عاقلة ؟ هل بإمكان أية دولة في نظام عالمي رأسمالي، أن تلتزم بحدودها التوازنية في كل الظروف ؟ وإذا افترضنا أنه يمكن تحويل النظام إلى عدالة نسبية من خلال العولمة الرأسمالية الطبقية، فهل سيلغي هذا الإنجاز الدستوري المشكوك في أمره، جدل الحرية والمساواة والنزعة الوجودية المعقدة والصراع الطبقي، أم أن حركة القوة النظامية ستلغي قوة الحركة التطورية ؟ هذا ما أثبتت التجربة أنه غير ممكن إطلاقا. وأن العودة على ذات التجربة مرة أخرى ببعض التعقل الدستوري، هو مثل تفكيك القنابل الموقوتة بالنوايا الطيبة، وإقناع الشعوب أن الخبز الطبقي هو العدالة الوحيدة الممكنة.
إن مشروع بوتين الروسي، هو ترويض الأزمة التي خلقتها القمة الإمبريالية، ونزع فتيل التفاعلات التي يمكن أن تحولها إلى انفجار. إنه جار طيب، ولكنه يبحث من خلال حل الأزمة وإزالة خطر دمار العالم، أيضا عن فرصة لروسيا، للحصول على حقها الكامل في توازنات القوة. ومن المؤكد أن بوتين وحلفاءه، سيخلقان بتحقيق التوازن الإمبريالي مع أمريكا، فرصة أفضل لتوازنات الخبز في الدول الفقيرة والجائعة، ولكن ليس إلى درجة تغيير صورة العالم القبيحة إلى صور بارعة الجمال. ستكون أقل قبحا، ربما بكثير، مقارنة بالقبح الصهيومريكي، ولكنها ستظل قبيحة. عند هذه النقطة بالذات، يجب أن يتوقف الذين يرفضون مفاضلة القبح، ويطالبون بمفاضلة للجمال. أي أولئك الذين يؤمنون بحتمية التحرر الإجتماعي المتواصل. يمكن رفع القبعة لروسيا، على دورها المرحلي، في رفض بهيمية العلاقات بين البشر، والمحافظة على طابع أكثر عقلانية وإنسانية لتلك العلاقات، ولكن المراهنة التحررية على الدور الروسي الحاضر، هي ضرب من انعدام الوعي. لقد ساهم المشروع السياسي الروسي مساهمة عميقة جدا، على خلفية بشاعة المشروع السوريالي الصهيومريكي، في رفع المعنويات الشعبية وبعث روح التحرر العالمي مرة أخرى بعد أن بلغت حافة الغياب، وهي تجربة لا بد من استغلالها تحرريا في هذا المنعطف المصيري. مع الإنتباه المشدد إلى توجهات وتطورات العلاقة بين روسيا والصهيومريكية.
وعلى الصعيد العربي، يجب الإنتباه إلى الروح الأوروبية في توجهات الفكر السياسي الروسي. هذه الروح هي إلى حد بعيد ذات جذور استشراقية غربية بالتأثير. وهي بالتجربة جذور رئيسية واضحة الملامح : التوجس الروسي من مشروع تنموي عربي، العلاقة الوثيقة والممتدة لروسيا بالمشروع الصهيوني والإلتزام بعلاقة خاصة به. يجب على العرب غير المتصهينين، وعلى القوميين منهم وخاصة سوريا التي دفعت الحساب عن كل العرب، أن تفهم أصدقاءها الروس، أن أي اتفاق بين أمريكا وروسيا بخصوص حل القضية الفلسطينية ومشروع الشرق الأوسط الجديد، يجب ألا يخطر ببالها، إذا أرادت المحافظة على علاقات الصداقة والمصلحة بين الشعبين الروسي والعربي.