سوريا: جنيف ووحدة المشرق العربي:


منظور المثقف المشتبك

عادل سمارة

قبيل ظهر يوم العدوان المهزوم على بلدة الكرامة الأردنية  من قبل الجيش الصهيوني (المعروف بمعركة الكرامة)، كان يقودني مقيدا  جندي صهيوني اسمه هرتسل عائدا من المحكمة العسكرية إلى غرفة المعتقل. كانت طائرات العدو تتحرك بكثافة باتجاه الأردن ذهابا وإيابا. أضطررت أن أسأله: ماذا يحصل؟ كانت إجابته صفعة بل خنجراً لن أنساها ما حييت: قال بالحرف وبالعربية: رايحين يفتحوا عمان!!! لم يلفت نظري ذلك النفس الانتصاري بعد عدوان 1967 بقدر ما لفت نظري، أنه حتى حارس سجون صهيوني ينظر إلينا جميعا كعرب وليس كقُطريات مفككة . ولست أدري هل هو شبح العروبة الذي يدخل في روع هؤلاء دون تلقين، أم هي تعبئة صهيونية ليعرف هؤلاء بوعي حدود تناقض القومية العربية مع مجرد وجود الكيان الصهيوني الإشكنازي.

 ربما أُجيز لنفسي القول، بأن هذا الموقف يشرح ما هو دور الكيان الصهيوني وما معنى الوحدة العربية مهما تعددت الملل والنحل والتخارج والتغربن والطوائفيات والجهات وغيرها. هذا من جهة، وبأن موقف ودور المثقف هو الأهم في هذا المستوى لا سيما في مناخ ما بعد حرب السلاح على ان يكون المثقف حاضرا وليس مجرد موجوداً. أي المثقف المشتبك الذي لا يتمتع بنضال غيره بل يناضل هو، الذي لا يستنيم على تضحيات غيره بل يضحي هو.

بين وجود الإنسان وحضوره فارق في المعنى والتأثير. وقد أتجرَّأ على الفلسفة بالقول بأنه في الوجود يتشارك الإنسان والجماد، العضوي وغير العضوي. أما الحضور فهو الفعل الواعي الذي لا يتمكن منه وبه سوى الإنسان. والصراع هو الذي ينقل المثقف من الوجود إلى الحضور. هذا ما كشفه تدمير سوريا، وهو ما يجب أن نتنبه إليه في قادم الأيام حين يُعاد للخبث مناخه وللكلام مساربه ومجاريه ولإستغفال الجماهير أدواته وفي هذه جميعاً مناخ للمثقفين بتنوعاتهم كل طبقا لانتمائه ومن ثم حضوره.

وإذا كان ما يدور ضد سوريا منذ ثلاثين شهرا هو دفاع وطني قومي وحتى طبقي ضد عدوان بالمستويات الثلاثة، فإن مرحلة ما بعد الحرب سوف تأخذ بعداً طبقياً وقومياً وعالمياً معاً، وهو البعد الذي علينا التركيز عليه. حينها لا بد من موقف أيضاً كي لا يتمكن كثير من المثقفين/ات من التلطي وراء توليد الكلام من الكلام.

وبغض النظر عن موافقة القارىء على هذه التحديدات، فما يهمني هنا هو التأكيد بأن المطلوب هو محاصرة المثقف لتحديد موقفه ودوره، وهو الأمر الذي يفرز المثقف المشتبك من المثقف المتسلق. وبكلام آخر، فإنه إذا لم  تكن قد حانت لحظات الاشتباك الثقافي سابقاً، فهي الآن والحرب تدور رحاها ضد سوريا  تملأ الفضاء الوطني والقومي، حيث تنتقل سوريا من القتال الدامي لحماية الأرض إلى النضال لحماية الهوية الوطنية/القومية ولتحديد اين تتجه طبقياً. وإذا كان الوطن عرضة للاختطاف والاغتصاب، فإن الهوية اليوم أمام تحديات التمييع، والتخارج والتقزيم.

في هذا الاشتباك الواسع والذي فيه من الرمادية اكثر مما فيه من الوضوح ، بعكس اشتباك السلاح حيث الخصم واضح والحليف واضح. في هذا الاشتباك حيث تُفتح الأبواب على المكاسب  والأنفال، لا يشبتك سوى المثقف البرِّي. الذي يقول ما لا يُقال.

في مناخ ما بعد حرب السلاح يقف المثقف أمام تحدي الاختيار بين السلطة والطبقة. والسلطة أقوى وذات إمكانيات وإغواء وإغراء. ودون أن تحدد السلطة للمثقف خياراته، فإن بوسعه التقاطها وإدراكها وهي:

  • إما الاعتقال
  • وإما السماع منه دون  القدرة على احتوائه
  •  وإما الشراء

أمام هذه الخيارات يقف المثقف المشتبك موقف المنتمي للطبقات الشعبية والمشتبك دوما مع السلطة لصالح هذه الطبقات، اشتباك يحدده اقتراب السلطة من حقوق هذه الطبقات الشعبية. أما المثقف فيُباعد ما بينه وبين السلطة بمقدار اقترابها أو تباعدها مع هذه الحقوق التي منتهاها وصول هذه الطبقات إلى الاشتراكية والسلطة. وحتى حينها يُبقى المثقف على مباعدته عن السلطة. حينما يأخذ المثقف هذا الدور في حماية الهوية العروبية وحقوق الطبقات الشعبية  في الحالة السورية، يكون دوره هو الاستكمال والامتداد الطبيعي لدور الجيش الذي حمى الأرض.

جنيف: الضرورة الضارَّة

بعض الأسئلة ربما لم يحن موعدها بعد. ولكن بعض الأسئلة من الخطورة أن لا تُطرح في اللحظة المناسبة بل ربما هي التي تخلق موعدها وتفرضه مما يوجب طرحها قبل المرحلة القادمة لتؤسس لها وهذا معنى الكتابة التأسيسية.

من الأسئلة الملحة سؤال جنيف. سؤال في أمر دبلوماسي. لكن ما ُيحدَّد  هي معايير القوة على الأرض، وهنا لا يعود المعيار فقط قوة السلاح والمال بقدر ما هو قوة الإنسان، ونقصد هنا سوريا  وتمسك السوري بالوطن كوطن وليس الوطن كمكان، وهذا ما يبين البَون الشاسع بين  صمود سوريا  وبين فهم حكام الخليج للوطن كمكان يُهجر إذا قل فيه الكلأ والماء…والنفط،  بين الوطنية السورية  وبين مجاميع تتحرك على خريطة العالم كما تتحرك تريليونات المضاربات المالية ويتم تحويلها كتحويل المبالغ المالية التي تنتهي عادة بانفجار فقاعتها، بين الصمود الوطتي السوري وبين تدفق هذه المجاميع متجاوزة الوطن إلى مجهول صاغه لها الآخرون افتراضياً على شكل دولة “أمة”الإسلام ناهيك عن مغانم ومزاعم كثيرة أخرى.

 وعليه، فبيت القصيد ليس انعقاد هذا المؤتمر وإنما المقدمات العملية التي تفرض انعقاده وتفرض عدم انعقاده في آن بما هو حالة تناقض وصراع  ومن ثم أهداف كل مشارك وما ينجم عنه. وليس لنا أن نطالب بعدم انعقاده على كرهنا له لأن ما يجب أن نواجه به أعداء سوريا هو المطاردة الدائمة إلى أن يُعاد لمكة والدوحة عربها وعروبتها، وإلى أن يُضرب مغتصبوها “حتى  تقول الهامة اسقوني” ، مطاردة كافة أطراف الثورة المضادة من الراس إلى اذنابه المتعددة، فبخلاف الهيدرا التي تنبت رؤوساً مكان الرؤوس المقطوعة  يُنبت الوحش الأمريكي ذيولاً.

فانعقاد جنيف يفترض تنفيذ الشرط السوري بأن يلتزم من يحضر بعدم مد الإرهابيين بأدوات وأسلحة وأموال الإرهاب. فما من شك أن الطرف المعادي سيحاول تحصيل مكاسب ما من المؤتمر، ولكن ربما يكون انعقاد المؤتمر أفضل لسوريا من عدم انعقاده لأنه يوقف الدمار الذي يلحق بالبلد، أو هكذا يُفترض طالما أن أحد أهم الشروط السورية وقف تهريب ثلاثي:السلاح والمسلحين والمال.

وهنا علينا التفريق بين الانتصار الذي غدا قيد التحقق وبين الدمار الإرهابي الذي يمكن أن يبقى حتى بعد التحقق العميق للانتصار. كما أن استمرار العدو في دفع السلاح والمال والإرهابيين إلى سوريا هو استمرار الإرهاب في العراق واستمرار دور الأردن في تمكين الإرهاب من الدخول إلى سوريا، ولا يهم هنا كونه تمكين محسوب أو منفلت، كما يُجنب لبنان قدحة الاشتعال المذهبي والطائفي التي تشارف على الاشتعال.

إن قوى الطرف العدو اي الثورة المضادة في حالة من الارتباك كي تقرر موقفها النهائي من جنيف على ضوء ما يلي:

  • تواصل انتصارات الجيش العربي السوري تُلح على العدو بالذهاب إلى جنيف طالما له على الأرض بعض الأقدام قبل أن تُزال. انتصارات بطيئة لأنها تراعي حفظ حياة المدنيين، وحياة الجنود كذلك، وما الحيف!
  • وفي الوقت نفسه، فبانعقاد جنيف سيضطر العدو إلى تقليل ضخ الثالوث الإرهابي إلى سوريا السلاح والمال والإرهابيين او هكذا يُفترض.
  • كما أن انعقاد جنيف يعني أن تغير وجه الإقليم لم يعد واقعا وحسب، بل صار معترفاً به من العدو، اي أن معسكر المقاومة والممانعة فرض نفسه في الإقليم كخصم قوي وصاعد في مواجهة قوى الثورة المضادة وخاصة الأنظمة العربية الحاكمة التي كانت تمثل وحدها (أو هكذا يبدو) وجه الوطن العربي ، وأي وجه!!!!.

ليس سهلا على الثورة المضادة التسليم بصعود هذا القطب الخصم، ولكن أقل سهولة عليها وقفه واقتلاعه. ولعل هذا الموضوع تحديداً هو الذي يلخص العلاقة بين الولايات المتحدة ودرجات توابعها. فالكيان الصهيوني يُلح على واشنطن لضرب إيران  نيابة عنه!!! والنظام السعودي يلح كذلك ويستميت لتصفية سوريا. كلاهما يعرف أن صعود  القطبية الإقليمية للمقاومة والممانعة خطر عليه. وكلاهما يرفضان أو يعيقا جنيف 2 باية وسيلة ممكنة.

وبرأينا، ليست مشكلة جنيف 2 في انعقاده بقدر ما هي في صراع الأطراف على ما سيدور فيه وينجم عنه ويتبع. وهنا يجدر التأكيد بأن لكل طرف يحضر جنيف أجندته الخاصة وأجندته مع حلفائه وأجندته ضد أعدائه وهذا يعني وجود تشابكات وتعقيدات قد يكون تفكيكها اشد صعوبة من الحرب على الأرض.

في جبهة المقاومة والممانعة ستكون إيران حاضرة رغم مماحكات ومناورات السعودية والكيان الصهيوني. وحتى جنيف، فإن بوسعنا الجزم  بطبيعة موقف إيران. ولكن من اهم ما  يجب قراءته بدقة هو موقف إيران بعد الانتصار.هل تتعامل مع سوريا كملحق أو كمقدمة لتحالف واقعي عربي إيراني؟ وهل ستتعامل إيران مع سوريا والعراق كفريقين أم كفريق عربي مقابل فريق إيراني؟ وهذا منوط اساساً بارتقاء العلاقة السورية العراقية إلى ما عجزت عنه سوريا والعراق طوال فترة 1963-2013!!! هل يوحدهما إرهاب المفخخات بعد أن باعد ما بينهما إغواء السلطان!!!هذا دون أن نذهب إلى مصير وأهداف التقارب الإيراني التركي؟ ومع ذلك يبقى على كل أمة حماية مصيرها لا استجدائه.

والأمر نفسه بشأن روسيا، هل ستكون علاقات  روسيا /سوريا على مستوى الأنداد قدر الإمكان على الأقل بمعنى وجوب حماية سوريا لنفسها من التورط في تبعية لروسيا. ولا يشمل هذا بالطبع المسائل الاقتصادية إذا ما كانت على أرضية التبادل المتكافىء وهذا مرتبط طبعا بقرار سوريا التوجه الحقيقي شرقا كما تفعل إيران وفنزويللا. وفي هذا الصدد، يصبح أو يكون موقف سوريا اقوى كلما كان ورائها بعض العرب، ولا نقول كل العرب لأن كثيرين منهم أعداء لها وهذا ما يوجب طرح الوحدة السورية العراقية كمشروع جدي هو ضمان عروبتهما وضمان العروبة إلى أن تقف مصر ولو على ساق واحدة ونهوض مصر يعيد للجزائر روح الثورة.

لعل الأمر المؤسف، وإن لم يكن في السياسة متسعاً للأسف، إن العرب ليسوا هم صانعو جنيف، بل هو مصنوع لهم من غيرهم سواء الحلفاء أم الأعداء فليس للعرب حضور عربي سوى صمود سوريا. ومرة أخرى، هذا يطرح وجوب الوحدة السورية العراقية، والتي  في حال حصولها تكون فرص التهرب الأردني واللبناني منها ضعيفة، كما أنه يلعب دوراً في لجم المساومات من سلطة الحكم الذاتي.

إن تحديد هوية سوريا الخارجية والإقليمية بل وهويتها الاجتماعية الاقتصادية الداخلية هي ما يستحق النقاش هي ما يقلق، وهي تحديدا ما على المثقف النقدي المشتبك أن تكون له  فيها كلمة الصدق لأنه : “لا يحارب من أجل عُمَر”.

إلى داخل سوريا: توظيف للتجربة الفريدة

أذكر اني كتبت مع بداية الأزمة السورية مقالة بعنوان “ماذا نريد لسوريا” وحينها كان معظم مثقفي/ات الأراضي المحتلة مصطفين ضد سوريا مأخوذين بإقليمية بغيضة ونزوع قُطري من أناس لا قطر لهم  بلا قُطر وبلا إقليم ، على الأقل لأن كل شيىء تحت سطوة  الاحتلال، وهذا مثار العجب!!! فكان البعض منهم، ولا يزال، يرى في الاحتلال أفضل من النظام السوري. وبعدها كتبت مقالة أخرى “ماذا نريد من سوريا؟  وبين ذلك الوقت، بل ذلك الزمن “اسميه ذلك الزمن، فالزمن يُقاس بشدة الأحداث وليس بتثائب الساعات والسنون”، بينه وبين اللحظة  هذه جرت متغيرات أوضحت لكل ذي انتماء اين يجب أن يقف. ويمكنني القول بلا تردد هذه المرة بأن ما كتبه السيد هيثم مناع على صفحته في الفيس بوك قد أوضح  ما يجب توضيحه وما تم تدبيره وما حصل في سوريا. انظر (كنعان النشرة الإلكترونية Kana’an – The e-Bulletin السنة الثالثة عشر ◘ العدد 3350 ، 12 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013) .  وإن كنت لا أعرف الرجل، إلا أنني أعرف أنه حينما تحدث لفضائية المنار عن لقائه هو وفريقه مع عزمي بشارة كان يتحدث وكأنهم التقوا قوميسار سياسي ثوري وليس فتى الموساد!!! هذا رغم أن مناع في تغريدته هذه يغمز من قناة بشارة قليلا.”، ولكن كما يقول المثل الشعبي (بعد ما ضربها ابو الحصينيات وعشَّرت)[1].

لعل الأهم   بالنسبة لنا  هو السطوع بحقيقة صلبة صلدة ولكنها ضرورية وحاسمة وهي أن الوطنية وحب الوطن لا يمكنها الالتقاء مع اي طرف من الثورة المضادة سواء كان نظام حكم سيد (امريكا) أونظام حكم تابع (قطر والسعودية) أو شخص فرد  استدعى العدوان الأجنبي أو دخل عضو في الكنيست. إن فعلت هذا، لن تبقى وطنياً . فلا تستقيم هذه مع تلك. يذكرني هذا بما قرأته عام 2000 على لوحة حجرية في إشبيلية حينما رفض الصاحب بن عباد التحالف مع فرديناند وإيزابيلا لإنقاذه من خصومه العرب وقبِل أن  يُؤسر ويموت في السجن على أن يتحالف مع العدو. هنا يتضح معنى النضال من أجل الوطن أو التحالف من أجل السلطة على حساب الوطن.

وهذه المقدمة  تدخلنا إلى الداخل السوري.

ربما يتفق النظام قبل غيره على أن سوريا لن تعود كما كانت كنظام حكم، ودولة أمنية وفساد ودولة راس المال الكمبرادوري وإن جرت تغطية ذلك بملاءة “السوق الاجتماعي”. وهذا تكثيف للنقد الذي لم يعد معنى لتفصيله لأنه أصبح خلفنا بمعنى أن السؤال هو كيف ستكون سوريا من الداخل.

في الوقت الذي انفجرت الأزمة السورية كانت تتفجر في العالم مفاجآت لم يتوقعها معظم الناس.وبمقدار ما كان انفجار الأزمة السورية مدمراً، بمقدار ما كانت انفجارات كثيرة في  العالم في خدمة سوريا وهنا المفارقة.

ولو عدنا عقدين ونيف إلى الوراء حينما تفككت الكتلة الاشتراكية (الاتحاد السوفييتي ومحيطه من شرق أوروبا) تبع ذلك:

  • استرخاء السوق وراس المال وجماعة نهاية التاريخ وقام هؤلاء بالانقضاض على معظم ما حققته النضالات الطبقية العمالية في المركز الإمبريالي
  • وللمفارقة فقد تهاوت وراء المركز السوفييتي العديد من  الأحزاب الشيوعية في العالم ذاهبة في وفود حجيج إلى معقل راس المال وذهب بعضها العربي وفود حجيج إلى الوهابية والإخوانية!!!

قلة هم الذين أمام هذا الانهيار لقوى الثورة أدركوا بأن التاريخ حقب وبأن حركته حلزونية حقا وبأن هذه انكفائة وليست نهاية التاريخ، وأذكر أنني كتبت حينها بأن راس المال تمكن من عنق الكتلة الشرقية ولكنه خرج جريحا. والمهم في الأمر أن قلة من الماركسيين والاشتراكيين الذين حافظوا على وعيهم بالتاريخ ولم يصطفوا(في الحالة العربية)  وراء إمامة القرضاوي !!!

حتى المتشائمين جداً من طبيعة السوق وراس المال والسياسات النيولبرالية، لم يتوقعوا هذا التدهور السريع لحقبة العولمة. كيف لا، وقد اعتدنا على أن حبال التاريخ طويلة.  فالأزمة الاقتصادية العالمية التي تطيح بالنيولبرالية وحقبة العولمة وتهز جذور النظام والإيديولوجيا الرأسمالية هزا سيوْدِيْ به ولو آجلا.

وهذا يطرح السؤال الطبقي في سوريا بعد الأزمة. وذلك لسببين:

الأول: هو ان الراسمالية وخاصة طبعتها النيولبرالية فشلت، وبالطبع لم يعنيها اساسا الإجابة على أسئلة اغلبية البشرية، وليس دورها ذلك بالطبع

والثاني: لأن معظم الأزمة الاجتماعية في  سوريا كان ناجم عن سياسات السوق الاجتماعي، هذه التوليفة الراسمالية النيولبرالية بامتياز رغم مساحيق تقدمية طلت بعض وجهها.

وكاتب هذه السطور هو من جانب الذين لم يروا في ما حصل في سوريا “ثورة”  الطبقات الشعبية. فلا بد من التفريق بين المطالب والاحتجاجات وحتى الإرهاصات، وبين بلورة هذه في مواقف طبقية سياسية واضحة. بين تحرك الفقراء وبين من يقود الفقراء أو قيادتهم لأنفسهم. لا بد دوما من قراءة مسار تجويف الوعي كحاضنة ضرورية لحماية تجريف الثروة، ووجوب توفر قيادة طبقية تقود الحراك ضدهما.  وهذا ما يفرقنا عن مقاولي الصراع الطبقي وخاصة أحفاد الشيخ ليون دافيدوفتش تروتسكي.

إن الانتماء الواعي للطبقات الشعبية، والتعاطف مع صراخ الطبقة الوسطى يجب أن لا يورط البعض، كما حصل، في الهتاف بأن البروليتاريا قد اندفعت في صراع طبقي. هذه الحماسة خطيرة بشقيها:

  • الشق الرومانسي أو الصبياني اليساري
  • والشق المندس على الانتفاضة والاحتجاج وهذا يعبر عنه بوضوح الطابور السادس الثقافي.

كلاهما لم ير أو تعامى عن القوى المعولمة التي التقطت الحراك ووظفته، وبالطبع لم ير بأن هناك تحضيرات لضربة سوريا  تم الإعداد لها قبل سنين على هذا الحراك. بل إن من لم يقرأ تدمير العراق ومن ثم ليبيا، لم يكن له ليفهم تدمير سوريا.

إن السؤال الطبقي في سوريا اليوم ، بعد الانتصار، هو  تجديد الاستقلال الاقتصادي لبلد فيه موهوبية ثرواتية تشكل ضمان توجهه الاشتراكي   أي وجود إمكانات زراعية توفر الأمن الغذائي وتوفر فائضا، ولو متواضعا، لرفد التصنيع ناهيك عن إمكانات نفطية مقبولة، وهذا بعيدا عن  حقول النفط والغاز الواعدة. فطبيعة القطر السوري ليست غنية بفوائض الريع ولكنها كافية لبلد إذا ما تبنى نموذج التنمية بالحماية الشعبية، بل إن البنية الاقتصادية لسوريا هي التي جنبتها خطر الجوع رغم ثلاث سنوات من الحرب المعولمة ضدها. بعيدا عن النفط الواعد فإن سوريا بحالها الحالي قادرة على الاكتفاء والاستقلال والتقدم باتجاه اشتراكي. وهذا مشروط بمن سيقود سوريا، وهنا يمكن استحضار النموذج الكوبي في نجاحه رغم كل ما لا يزال يحيط به.

ليس من حقنا تحديد كيفية دخول سوريا إلى التوجه الاشتراكي، وليس لنا سوى المناداة بذلك من منظور حق الطبقات الشعبية وهي الأكثرية العددية والإنتاجية معاً. وهذا يفتح بالطبع باب التناقض الطبقي بوضوح ويبرر الصراع الطبقي وخاصة مع القوى المتقدمة للثوة المضادة داخل سوريا، سواء قوى الكمبرادور والفساد والطائفية والقطرية والبيروقراطية…الخ.

قد تكون البداية بدرجة كبيرة من فك الارتباط مع السوق العالمي ممثلا في التبادل الواسع بين سوريا والغرب الراسمالي ومن ثم التوجه شرقاً، وتقوية القطاع العام واستعادة دوره القيادي في الاقتصاد، قد يكون تبني نموذج التنمية بالحماية الشعبية وهذا ربما أكثر واقعية، فبعد حماية الجيش للبلاد ينتقل الواجب والدور للطبقات الشعبية بحماية الاقتصاد. إن  الجيش قطاع اساسي من الطبقات الشعبية. إن أية سياسة أقتصادية إجتماعية إذا ما اخذت بالاعتبار مصالح الطبقات الشعبية والجيش، إذا ما صدرت من أدنى إلى أعلى  فمن حقها القول بأنها تمثل الأكثرية الشعبية الفاعلة وطنيا وإنتاجيا. والطبقات الشعبية تمثل طبعا العمال والفلاحين ويمكن توسيع نطاقها إلى الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى، كما انها لا تبتعد عن البرجوازية الصغيرة، وإن كانتا  الأخيرتين متداخلتين بنا يحول دون فرزهما عن بعضهما.

قد يجوز السؤال هنا: من الذي يمثل هذا القطاع الأكبر في المجتمع؟ هل هي شرائح قيادية من النظام؟ هل هي الشريحة المحيطة بالرئيس؟ هل هي المنظمات التي تتبنى الماركسية؟ هل هم الناصريون؟…الخ. هذا متروك لمن له إطلالة على الوضع الداخلي السوري وله معرفة بحدود صدقية هذه القوة أو تلك. ولكن ربما يكون الخيار الأفضل هو تشكيل جبهة سياسية طبقية لهذه القطاعات الطبقية، جبهة  تفرزها هذه القطاعات بحيث لا تُنزل على الطبقات الشعبية  من الأعلى من جهة وبحيث يكون قيادها بيد ممثلين حقييين لهذه الطبقات من جهة ثانية. وهنا لا نكرر قول البيان الشيوعي بنوع من الثرثرة، بمعنى ان قيادتها يجب ان تكون من الحزب الشيوعي حيث لا نعرف إن كان هناك حزبا شيوعيا حقيقيا موجودا.فهذا امر تقرره تلك الطبقات . وكلما عجزت هذه الطبقات عن فرز مندوبها(حزبها) إلى المعركة الاجتماعية كلما جرى استثنائها، وبهذا تخسر حقوقها وتُسهِّل بقاء البلد نهباً لراس المال، اي تمارس جريميتن معا وبالتوازي سواء بوعي أم لا.

فالطبقات الشعبية ليست مجرد كم محايد اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، وليست مجرد لوبي لتحصيل بعض الحقوق، بل هي القوة الاجتماعية الإنتاجية الأساس ومن واجبها ان تقود. وهو واجب يشترط أن ترتفع إلى مستوى القدرة على القيادة بدل الانحناء للانقياد.

فالكثير من قوى الحراك السلمي في سوريا لم يكن لها دورا في الدفاع عن البلد ولا هي طبعا شريك أو جزء من تضحيات الجيش والمدنيين، وقد يجوز اتهام هذه القوى بأنها قوى انتظارية همها السلطة حتى بعيداً عن الأسس الضرورية لسوريا الجديدة والمتجددة. وما نقصده أن الطبقات الشعبية والجيش يجب ان لا تسلم قيادها لأصحاب البيانات والبرامج وإلاعلانات.

لعل أمام هذه الطبقات خيارات رئيسية ثلاث:

إما بلورة حزبها الذي يمثلها كما ترى

وإما دعم القطاعات من النظام التي ناضلت لحماية سوريا وقادت المعركة ودفعت ثمنا من أعصابها ودمها

وإما تركيبة مزدوجة من الطرفين.

أهمية هذه الخيارات لا تكمن فقط في الحفاظ على مصالح الطبقات الشعبية والجيش بل كذلك الحفاظ على الاستمرار في خط المقاومة والممانعة والعروبة. فالبلد ليس مجرد مشروع اقتصادي رابح أو خاسر وليس مجرد شركة مساهمة يأخذ كل حسب اسهمه. البلد هي كل معقد من الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي والتراثي والأخلاقي والوطني والقومي،من الخطل تفكيكها عن بعضها. وهذا يُدخلنا على خط المقاومة والممانعة.

 

المقاومة والممانعة

قد يثير البعض مسألة إعمار البلد والتصالح الاجتماعي ولئم الجراح، وكل هذا صحيح. بل هو مدعاة لأن يكون للطبقات المتضررة رايها طبقا لدورها الإنتاجي وحجمها العددي في كل هذا. فالطبقات الشعبية هي الثكلى وهي الفقيرة وهي المعوزة . ولأن لإعادة الإعمار والتأهيل أولوية، فإنها هي صاحبة الحق في هذه الأولوية. ولكن تنفيذ وإدارة هذه الحقوق يجب أن تبدا على أرضية الحماية الشعبية وليس هيمنة البيرقراطية وفرص تحكم الشركات المحلية والأجنبية بعملية الإعمار كي تقوم بنهب مجدد، لا بل وترسي هيمنة برجوازية كمبرادورية مقاولاتية قد تكون أخطر من ما قبل الحرب. أي لا بد من اختيار سياسة خاصة بطبيعة سوريا قومية اشتراكية.

قد نضيف أن ما تطلبه الوضع السوري هو اجتراح نموذج جديد أقرب إلى التنمية بالحماية الشعبية. وهذا يجعلها مختلفة عن النموذج الإيراني كنموذج تنمية على أرضية قومية برجوازية بأقل فساد وباعتماد على الذات ولكن دون موقف من الملكية الخاصة وإنصاف حقيقي للمنتجين. صحيح أن التعبئة الثقافية/الدينية هامة، ولكن هذا لا يستديم إلى ما لا نهاية هذا ناهيك عن وضع المرأة. ومختلف عن النموذج الروسي الذي يشابه الإيراني  إلى حد كبير وإن كان يتميز عنه بتراث اشتراكية الاتحاد السوفييتي من جهة وبتراث فترة يلتسين حيث الفساد من جهة ثانية وتحديد بوجود فوارق طبقية شاسعة تؤكد رسملة روسيا بمعنى أن التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية في روسيا هي راسمالية فعلا. وربما تشترك روسيا وإيران في دور النفط في إسعاف النمو والنفط سائل مخادع طبقا للسوق!!!!، كما يختلف عن النموذج الصيني الهجين الذي يرتكز إلى حد كبير على التراكم الأولي والنمو العالي المترتب على استغلال فاحش مترافقا مع تصفية الجُماعيات The Communes في الزراعة  مع ما يواكبه من استغلال عميق للطبقة العاملة. هذه الهجانة الصينية تميل إلى “انتصار” الراسمالية وهو “انتصار” يسهله تدهور راسمالية المركز!!! هذا بدل أن يكون التوجه إعادة الاعتبار لأساس النمو الحالي الكامن في التنمية الماوية.

الخيار القومي، المقاومة والإقليم

مثل اي قطر عربي، لو كانت سوريا بلد يعيش باختياره لما كانت الأزمة الحالية أو لاتخذت منحى اجتماعياً داخليا من جهة وعدوان السوق من جهة ثانية دونما عدوان مسلح كما حصل في أوروبا الشرقية باستثناء يوغسلافيا. فمشكلة الوطن العربي ليست فقط في المستوى الداخلي بل كذلك في الحرب الدائمة التي تشنها الإمبريالية والصهيونية ضد الأمة العربية  مدعومة بأدوار للطبقات الحاكمة في هذا الوطن.

هذا المدخل لمعالجة الوضع السوري يعيد إلى الذاكرة  ما زعمه ستالين بأن الأمة العربية “أمة في طور التكوين”، وهو زعم ينم عن عجز في فهم التاريخ من جهة وعن تورط في تبعية للدعاية الصهيونية  والإمبريالية من جهة ثانية ناهيك عن طبعة ماركسية وإنما مركزانية أوروبية “حمراء”. وهو تورط أصاب كثيرين من المثقفين والمفكرين العرب الذين وصل بهم الحال إلى إنكار الدور الحضاري العربي فزعموا أن حضارة العرب هي إسلامية فقط لا دور للعرب فيها.

هذا مع أن وقائع الاستهدافات العدوانية على الوطن العربي تؤكد بأنه “وطن قيد الاستهداف الدائم” ولا سيما الاستعمارين الأخيرين العثماني  (الذي يحلم بالعودة) والراسمالي الغربي (الذي يحم بالبقاء) والصهيونية في اذيالهما.

ليس هنا معرض النقاش التاريخي لوضعية الوطن العربي، ولذا فإن ما يهمنا هو بعد الاختيار الداخلي لسوريا ما هو الخيار القومي والإقليمي؟

وقد نصوغ الأمر على شكل إشكالية ثلاثية الأبعاد:

الأول: هل يُسمح لسوريا اختيار الطريق الاشتراكي

والثاني: هل يُسمح لها أن تكون عروبية

والثالث: هل يُسمح لها ان تكون مقاومة وممانعة؟

هذه هي الإشكالية التي تواجه سوريا بعد الانتصار المسلح.

فليس خيار الوجه الاشتراكي باية درجة من السهولة. فإذا كانت راسمالية الكمبرادور والفساد قد واصلت ضرب الاقتصاد الوطني خلال العدوان فكيف لها ان تقبل باي توجه سوري ضد مصالحها بعد العدوان؟ ما هي اشكال المقاومة  التي ستبديها؟ ومن هي القوى السياسية التي ستعتمد عليها، وما هي تحالفاتها الإقليمية والدولية؟ ولماذا لا تشكل معسكراً  للثورة المضادة بشكل علني يدعو لتعميق التوجه غرباً وتعميق إيديولجيا السوق، وتقديم المغريات لراس المال الأجنبي المباشر الغربي تحديداً، ولماذا لا تدعو لمصالحة مع أنظمة الدين السياسي والريع في الخليج…الخ. أو مصالحة على حساب الدم مع أعداء سيقوموا بما قاموا به أنَّى سنحت لهم الفرصة. هنا نتحدث عن تناقض تناحري.

لعل هذا ما يجعل معركة الطبقات الشعبية في سوريا قاسية ومعقدة، ويجعل التنمية بالحماية الشعبية والتوجه التعاوني ومن ثم الاشتراكي مسائل تستجلب مستوى من الحرب الأهلية وليس فقط صراع صناديق الانتخاب؟ ولا شك أن هذه القوى سوف تستخدم ما جنته من ثراء الحرب للإنفاق على خلط الوعي وشراء الأصوات ولنا في تجربة مصر بعد مبارك وشراء الإخوان للأصوات بالزيت والسكر عبرة للحذر والتفكير. كما أن من أنفق على قوى العدوان  العسكري على سوريا سوف ينفق على فريقه من الثورة المضادة داخل سوريا في فترة الانتقال اي ما بعد الحرب. سيتم استبدال البندقية بالدولار والدرهم والريال…الخ وجميعه لتدمير سوريا موقفا ومستقبلا بعد تدميرها بشريا وعمرانا.

صحيح القول بأن تجربة العدوان خلقت وعيا ما لدى البعض من الطبقات الشعبية، ولكن ماكينة الإعلام المضادة لم تتهي، كما أن الإعلام الوسطي يمكن ببساطة أن ينحاز ضد المشروع الاجتماعي الراديكالي ، أي سيقف لصالح السوق والقطاع الخاص…الخ. فليس شرطا ان يقف كل وطني مع المشروع الجذري التنموي سواء لأنه من طبقة أخرى أو لأن وعيه الفكري باتجاه يميني. كما ان كثيرا من الحلفاء لن يكونوا سعداء بتوجه اشتراكي وهم ليسوا اشتراكيين  وتعيش بلدانهم مراتبيات طبقية واضحة وفاقعة أي كتلة البريكس وإيران بالطبع.

مخطىء من  يتجاهل هذه التناقضات، ومخطىء من لا يرى بأنها سوف تشل دور سوريا القومي والمضاد للتطبيع لفترة ليست قصيرة، ومخطىء من لا يرى بأن هذه القوى (الداخل سوريا) أو كثير منها قُطرية وتطبيعية ربما في الوقت نفسه.

وهذا يطرح السؤال الثاني، هل ستتمكن سوريا من الحفاظ على توجهها المضاد للتطبيع ورفعه إلى مستوى رفض التسوية مع الكيان الصهيوني الإشكنازي ليصل إلى تبني واضح لاستراتيجية التحرير، اي اتخاذ موقف عروبي واضح؟ قد يتسائل البعض وهل سوريا بعد كل هذا الدمار قادرة، إن كانت راغبة، قادرة على مقارعة الكيان باتجاه التحرير؟

لا شك أن القضايا الكبرى لا تعالج في المديات القصيرة ولكن حضورها في الاستراتيجيات القيادية وفي الثقافة الشعبية شرط اساسي كي يكون لها موقعها في الاستراتيجيات. ومن هنا فإن تأخير غروب الكيان الصهيوني لا يمنع قط ان يكون التحرير هو مركز الاستراتيجية القومية لسوريا الغد وخاصة بعد تجربة المذبحة الكبرى الدائرة حالياً. وقد تكون لنا عبرة في إصرار الحركة الصهيونية على تدمير سوريا من هيرتسل إلى جابوتنسكي إلى بن غوريون إلى نتنياهو إلى بندر بن سلطان.

وعليه، فإن سوريا المقاومة والممانعة هي إحدى القضايا الأساسية التي سيدور عليها صراع داخل سوريا، وعلى الأغلب، فإن القوى والاتجاهات القُطرية والكمبرادورية سوف تكون ضد الدور المقاوم لسوريا حتى بشأن الجولان، وستلعب دور 14 آذار في مواجهة سلاح حزب الله.

ولا شك ان هذا الأمر متعلق إلى درجة كبيرة بتطورات الصراع في الإقليم. فإذا ما تمكن النظام بجناحه القومي والمقاوم من تثبيت دوره في المقاومة والممانعة وإذا ما تطور وضعه الطبقي الاجتماعي إلى التوجه الاشتراكي، كيف سيكون موقف إيران منه؟

إيران تدخل اليوم مرحلة جديدة تؤكد موقعها القيادي في الإقليم. مرحلة تدشين علاقة جديدة مع الغرب وعلى راسه الولايات المتحدة علاوة على دورها في شنجهاي. فهل ستبقى المقاومة بمعنى تحرير فلسطين على أجندتها؟ هل خطاب روحاني بهذا الشان هو خطاب نجاد أم أن روحاني أتى من أجل سياسة قومية إيرانية تتمسك بثوابت البلد وبمرونات في الإقليم؟ وغذا واصلت إيران سياستها هذه، هل ستتوقف قوى المعارضة اللبرالية والمتغربنة  داخلها عن الاعتراض؟ وحتى استثمار  ذلك في تحريض الطبقات الشعبية بأن سياسة الدولة إقليميا على حساب هذه الطبقات.

هل سيقود تحسين العلاقات التركية الإيرانية إلى “نصائح تركية” لإيران بالتعقل تجاه الكيان الصهيوني ودفع الأمور إلى تسوية تؤكد وجود الكيان على حساب الشعب الفلسطيني؟

قد يكون هذا مقنعا لإيران على ضوء أن أهل البيت اي العرب ليسوا في وارد تحرير الوطن، بل إن الحكام العرب المعترفين والمطبعين مع الكيان الصهيوني في تزايد، تيار الصهيونية العربية؟ وقد تغدو هذه التساؤلات مشروعة أكثر إذا ما تبنت سوريا توجهات اشتراكية تتناقض إلى حد بعيد ما الراسمالية “قومية وتنموية” الاتجاه في طهران. وإذا ما تبنت سوريا توجهات قومية وحودوية وخاصة مع العراق؟

وهنا يكون للعلاقة المصرية السورية دورها في تطورات الإقليم. فمن الواضح أن السعودية تحاول الارتكاز على مصر في مواجهة إيران ولترميم الانسحاب الأمريكي الجزئي من المنطقة. ولكنها بالطبع  تكشف عن علاقات عميقة مع الكيان الصهيوني. فهل هذا توريط لمصر في استعادة موقف مبارك من الكيان ؟ وهل يقود الواقع العربي البائس اليوم إلى وقوف كل من مصر وسوريا في تكتل بدل ان تكونا قيادة للمشروع العروبي؟ ولكن بالمقابل، أليس بدء انفتاح مصر على روسيا مؤشر إيجابي؟ ولكن ايضا ربما تنحصر إيجابيته في تحرر ما من سيطرة  الولايات المتحدة دون أن يرقى الموقف الروسي إلى عدم الاعتراض على الهدف العروبي لتحرير فلسطين. وربما هذا الموقف الذي تشتريه الولايات المتحدة من روسيا بعد  إقرارها بالقطبية الروسية.

ليس من السهل القطع بان إيران باتجاه عدوان على الخليج. ولكنها لا شك باتجاه تقوية دورها الإقليمي ليكون مهيمناً. فتجربة الحرب العراقية الإيرانية ربما اكدت لإيران بأن العلاقة مع الجيران العرب يجب أن تأخذ شكل العلاقة مع الجار التركي مثلا، اي علاقات سلمية وتحالف إن أمكن. وهذا إن حصل فهو يعني ترطيب الأجواء بين إيران والخليج وبين إيران ومصر. وهذا يشي بضرورة استثمار العلاقة الإيرانية السورية وحزب الله لسحبها على ما أمكن عربيا على أرضية تحالف عربي إيراني وهو ما يمكن أن يقلِّم أظافر الهوس التركي.

وقد لا يكون الخلاف  هو على طبيعة علاقات دول الإقليم مع بعضها البعض، وإن كان الطرف الأضعف في هذه العلاقات هو الطرف العربي المجزأ والمتعادي داخليا، بل سيكون الخلاف على ما يلي:

  • رؤية  الإيراني والتركي لعلاقاته مع  القطريات العربية
  • موقفهما  من المشروع القومي العربي
  • والصراع العربي الصهيوني.

وهذه القضايا مترابطة حتى لو بدت متباعدة. فكل من إيران وتركيا تحتل أرضا عربية، وهذه مسألة  لا يمكن إهمالها وإن أمكن تأجيلها. ونظراً لحالة الاحتلال هذه، فإن تبلور المشروع القومي العربي لن يكون مرحبا به من الجارين، ربما كذلك من أجل هيمنة كل واحدة منهما على جزء من محيطها العربي، إيران على العراق وتركيا على سوريا، أو حتى على الإثنتين.

وإذا كان الأمران الأولان مليئين بالتناقضات من جانب إيران وتركيا وبالمخاوف من الجانب العربي، فإن ذلك لا بد أن ينعكس على الأمر الثالث وهو الموقف من الكيان الصهيوني أو الصراع العربي الإسرائيلي.

قد يكون لنا المخاطرة بالقول:  ربما ما تسعى الولايات المتحدة لتكريسه في هذه الفترة الساخنة والحرجة من حياة المنطقة هو تقديم مرونات لإيران وترطيب العلاقات التركية الإيرانية مقابل إزاحة إيران عن موقفها تجاه الكيان الصهيوني ومن ثم توجه إيران شرقا باتجاه باكستان وبعيدا باتجاه شنغهاي إلى جانب شراء رفض روسي أو على الأقل عدم دعم  لمشروع عربي لتحرير فلسطين.

قد تثير هذه التساؤلات حفيظة بعض العرب لا سيما فيما يخص إيران، وقد يكونوا على حق ولكن مصائر الأمم لا تُبنى على الاتكالية ولا التوكل على الأصدقاء. بل إن مدى تمسك الحلفاء بمواقفهم مرتبط إلى حد كبير بقوة موقفك أنت.

من هنا يبرز السؤال الكبير، ما هي علاقة الحواضر العربية الكبرى والأساسية الثلاث؟ مصر سوريا والعراق؟ هل يمكن استرجاع زخم المشروع القومي بعيدا عن تقارب ومن ثم توحد هذه الحواضر؟ هل هذا قريب اليوم؟ وإذا لم يكن قريباً هل يتم اللجوء إلى الإلتحاق بمحاور أخرى والتبعية لهويات أخرى؟ فإذا ما تبلور تحالف إيراني تركي هل تنضم إليه سوريا منفردة والعراق منفرداً كملحقين؟ أم تتحد سوريا والعراق كممثل للوطن العربي على أن تبقيا توحدهما مفتوحا لمصر واقطار عربية أخرى؟ هنا يكمن دور المثقف المشتبك أكثر من دور حامل أكياس المعلومات عن خطوط النفط والغاز وكميات السلاح ونوعيته…الخ وبوضوح، اي مثقف عربي ليس عروبيا فهو خائن بلا مواربة حيث أن الأمر أمر المصير.

بهذا المعنى، فإن على سوريا منذ اليوم أن تختار بين ممثلة لجزء تقدمي من العرب في تحالف إقليمي وبين أن تكون تابعة لطرف من أطراف التحالف الإقليمي، وهي تبعية لن يكون هناك فكاكاً سهلاً أو قريباً منها إذا ما حصلت.

بكلام أوضح، لن يكون لانتصار سوريا معنى إذا لم يتم تجليس هذا الانتصار في سياق المشروع القومي الوحدوي الاشتراكي العروبي . وهو مشروع اجتماعي وطنيا وعروبي قومياً  وإقليمي ومن ثم عالمي.  لعل هذه هي لحظة طرح المسألة القومية والطبقية الاجتماعية (تلاحمهما) ضد راس المال ، الإمبريالية والصهيونية. هنا تقع المواطنة القتالية. ومن حيث الدعوة للتنفيذ المباشر، هي وحدة سوريا والعراق. وهذا ما يجب ان تكون حملتنا اليومية من أجله حتى لو غضب اي طرف جميل أو قبيح.

 

ما مصير اسس دولة سوريا

قد يتسائل البعض بعد كل هذا، ومن قال بأن سوريا ما قبل الأزمة وحتى سوريا الحالية سوف تتمكن من الاستمرار في توجهات مقاومة وعروبية؟

وقد يكون لهذه التساؤلات أرضية إذا لم تتمكن سوريا من جعل جنيف مسألة بروتوكولية أي لا تحدد هي هوية سوريا الداخل ولا سوريا العربية ولا تشكيل حكومة سورية  او تحديد صلاحياتها . وهذا يعني أن على الدولة السورية الحالية طالما دخلت مشروع سوريا المتجددة أن تفتح باب الحوار السوري الداخلي، حواراً ذا بعدين:

1) بعد ميثاقي: يقوم على أسس منها:

  • الدول السورية دولة عربية وحدوية
  • الدولة السورية لا تقوم بتطبيع مع الكيان الصهيوني وتعمل على تحرير فلسطين
  • لا تقوم الأحزاب السياسية في سوريا على اساس ديني
  • لا ترتبط اية قوة سياسية بالأجنبي ولا تتمول منه.

هذا الميثاق يمكن أن يكون اساس الحزب العروبي، حزب الطبقات الشعبية والجيش.

2) وبعد دستوري، يعيد إنتاج الدستور الحالي والتصويت عليه على أن لا يتضمن ما يخالف وثيقة الشرف.

ما هو الفيصل للوصول إلى سوريا طبقا لهذا الطرح؟ ليس هناك ما يؤكد تحقيق هذه الصورة الوردية لسوريا سوى استطاعة الطبقات الشعبية التصدي لقيادة المرحلة، ووجود المثقف العضوي النقدي المشتبك الذي يطرح ما يجب وليس ما يُطلب منه.

ملاحظة: يجد القارىء في هذه المقالة محتوى واضحاً جوهره  المشروع العروبي الوحدوي لكل أهل الوطن العربي قوميا وإثنيا ودينيا (باستثناء الصهاينة)، وهذا ما يثير ردودا ورفوضاً في المستوى القومي والإثني. كما يجد البعض بالمقابل تناقضا إيديولوجيا مع هذا الطرح بمعنى رفض “ماركسية/ات” ما لمجرد الحديث في المسألة القومية وهو رفض قائم إما على عجز عن فهم روح التطورالكامنة في الماركسية وروح المقاومة التقدمية في قومية أمم تحت الاستعمار والاستيطان، أو قائم على “ماركسية صهيونية” تتغطى برفض القومية حماية للكيان الصهيوني. كما سيجد رفضا طبقيا ممن ليسوا اشتراكيين لا ثقافة ولا وضعا طبقيا. ورغم هذه الاعتراضات وقوة أهلها، فإن مستقبل هذه الأمة، كما أزعم، هو في بنية وحدوية أو اتحادية ومشروع اشتراكي وهذا لا يقوم به سوى تيار/حركة/حزب عروبي شيوعي. وقد تكون بداية تبلوره في سوريا الطبقات الشعبية والجيش.


[1] في هذا المثل الشعبي عن التفريط بالشرف الجنسي بلاغة كررها ماركس  في (18 برومير والحرب الأهلية في فرنسا) ،طبعا دون علمه بهذا المثل الشعبي حينما نقد استخذاء البرجوازية الفرنسية أمام الألمان بعد سقوط الكميونة.