عادل سمارة
تساؤلات حول في فكرة وحدة المشرق: منذ قرابة العامين يردد كثير من التقدميين واليساريين والقوميين والماركسيين شعار وحدة المشرق وخاصة على ضوء تجرية الحرب على سوريا. والوحدة في الحقيقة مطلبا أكثر مما هي فكرة. هي مطلب يجب أن يولد الفكرة، ولا غرابة في هذا فالواقع الموضوعي هو الذي يتحدى الوعي الواعي والنشيط كي يخلق الحلم أو الفرضية ليناضل من أجل تجسيدها وبالطبع بعد أن يعيد صقلها وينقيها من الشوائب.
ولكن حتى الآن هناك خلافات واسعة في كل من:
تحديد المشرق جغرافيا وتعريف المشرق ثقافيا وقوميا.
يرى البعض المشرق في سوريا (بلاد الشام الأربع) والعراق وهو تحديد جغرافي لا يخرج عن نطاق أطروحة الحزب القومي السوري الاجتماعي. ولا ادري لماذا يحاول هذا الفريق فصل تصوره عن هذا الطرح القديم الجديد. هل المسألة فقط كي لا يُحسب المرء على حركة قائمة حتى لو شريفة؟
ويرى البعض المشرق كذلك في الشام والعراق ويحاول عدم استثناء مصر ولكن لا يطرح وجودها. وهذا الطرح يقارب طرح البعث والقوميين العرب (مع مجزوئية معينة مثلا تخجل من الحديث عن بلاد المغارب العربي). وكأن هذا الفريق خجل بتاريخ البعث والقومين العرب. وقد يكون خجلا في غير ما قناعة، ولكنه متساوق مع أو متراجع أمام الضخ الهائل للخطاب الغربي الاستعماري سواء السياسي أو الأكاديمي أو المخابراتي ومنه الصهيوني كذلك، أكثر مما هو موقف نقدي للفشل الديمقراطي لهذين الحزبين حينما تسلما السلطة في أكثر من قطر عربي.
ويتحدث البعض عن الناصرية التي وسعت طموحها باتجاه قومي عربي عام لكن أصحاب هذه الأطروحة يتعددون بتعدد القُطريات العربية نفسها وحتى في القطر الواحد هناك تعدد ناصري كبير.
وبالمقابل يسحب البعض جزءا من المشرق باتجاه هوية جديدة يحاول صنعها مكونة من إيران وتركيا وسوريا، اي طبعة “دين إسلامي سياسي” تنسجم مع احتفاظ الإيرانيين والأتراك بقومياتهم وإيلاج هوية قومية لسوريا تهيئها للتبعية للقوميتين الأخريين. ويرى هذا البعض أن الوحدة بين العراق وسوريا مستحيلة لأن العلاقة بينهما “مسمومة”. ومن الطريف أنه لا يرى مثلا 400 سنة من الاستعمار التركي لكل بلاد العرب. وكأن لا سموم في هذه.
يعيدني هذا إلى نقاش جرى في لندن قبيل اغتيال ناجي العلي 22 تموز 1987 وهو الجدل الذي انتهى باغتيال ناجي حيث تم امتطاء الجدل لذلك الهدف. حينها أطلق الراحل إميل حبيبي كل مفرداته اللغوية المرة ضد القومية العربية والأمة العربية وكان اقلها “الحمير القومجية”. طبعا كان إميل عضو في برلمان الكيان الصهيوني الإشكنازي، وكان عضو في الحزب الشيوعي الإسرائيلي راكاح وكان من مدرسة الشيوعية التي تعتبر الأمة العربية “أمة في طور التكوين-ستالين” فكان طبيعي ان تصل هذه المدرسة إلى رفض الوحدة العربية. رحل الرجل بعد أن استبدل الشيوعية بالديمقراطية الغربية لكنه أبقى على رفضه للقومية العربية وعلى الانتماء للكيان الصهيوني. وكان الله قد رزقه ب عزمي بشارة أحد تمفصلاته الذي ايضاً غادر الشيوعية باتجاه القومية العربية، إلى أن استبدلها بالولاء لأسرة في أقل من كيان، وأبقى على الانتماء للكيان الصهيوني كذلك.
كان بعض ردودي علي إميل حينها: “إذا كان مشروع التجزئة ممكناً فلماذا يكون مشروع الوحدة مستحيلاً!”.
واليوم، أُعيد السؤال نفسه، من أجل التفكير الهادىء ولكن الجريء، فليس هناك أكثر جرأة من الوعي، التفكير الخالي من الحساسيات والهروب من تهم الخطاب المخابراتي والإعلامي والإيديولوجي الغربي الذي يعتبر كافة القوى السياسية العربية في فترة الستنيات وما بعد بأنها فاشية وقمعية…الخ. وبالطبع لا يمكننا غض الطرف عن كافة هذه الأخطاء القاتلة، ولكن علينا ان نتذكر ما يلي:
الأول: أن العروبة كشعب ووطن موجودة كما هي بغض النظر عن هذا النظام والحزب أو ذاك، وبالتالي قرائتها والعمل على إيجاد صيغة تحررية تنموية وحدوية لها لا علاقة لها بأخطاء انظمة وقوى طرحت الشعار القومي.
والثاني: فإن هذه القوى لم تكن مجرد مجموعات من الحكام والقمعيين، بل كانت لها نضالات وتعرضت للتعذيب والقمع والقتل والسجون. وقد يكون جزء من فشلها بأنها بقيت تحت إسقطات تلك المناخات الرهيبة التي عانت منها.
والثالث: قبل سبعة عقود لم تكن قد تبلورت الكتل المافوق قومية بعد على الصعيد العالمي. فكيف نتقيد بكتل صغيرة في عالم الكتل الكبرى بينما لدينا ما هو مشترك عربي أكثر من المشترك بين أمة وأخرى.
والرابع: فإن السلطة القُطرية قد نجحت في إعادة تشكيل وعي كثير من المثقفين بحيث أعادوا (في أذهانهم) تشكيل كل قطر عربي تحت سلطة ما على الشكل الذي تريده السلطة نفسها. وهنا لا أقلل من الخصوصيات العديدة بين قطر وآخر.
والخامس: مهما تم تعميق السطوة السلطوية القطرية للسلطة والخطاب، فإن هذا لا ينفي قط أن من مصلحة بل وأمنية عاطل عن العمل في المغرب أن يعمل في الرياض بدل أن يغرق على شواطىء إسبانيا. أي أن هناك مصلحة مادية طبقية في الوحدة ، الاتحاد، الكونفدرالية…الخ للأكثرية وهي الطبقات الشعبية.
والسادس وليس الأخير: فإن كافة قراءات الأعداء للوطن العربي هي قراءات له كوحدة، ثم تأتي التفاصيل، بينما يقرأ كثيرون منا هذا الوطن كتفاصيل ويتم تصغيره إلى اصغر منزلة عشرية. وقد يفسر هذا الفارق مسألة خطرة وهي: حينما يتم فصل جنوب السودان لا يشعر بذلك السوري ولا يهتم. وابعد، فقد وصل الأمر إلى قيام أنظمة الخليج بتدمير سوريا والعراق خدمة للكيان الصهيوني الإشكنازي. فهل عدوان انظمة الخليج على ليبيا وسوريا والعراق خطوة توحيد “بسماركية”!!! لقد اصبح الهلال الخصيب “الهلال الخضيب” بالدم. أما وهو هكذا، أليس بحاجة لمشروع وحدوي مع مصر وحتى الجزائر!
ربما أهم ما ابتغي إيصاله في هذه العُجالة أن الفكرة اشد اختلافا عن السلعة. فالسلعة حتى المعمرة تعيش افتراضيا لعشر سنوات، بينما تعيش الفكرة دهوراً. وهذا يعني أن تكريس فكرة وحدة بعض المشرق أو كل المشرق او المشرق وائد…الخ تقود إلى إيديولوجيا التفككي الدائم. ليس المقصود وحدة الكل غداً، ولكن التاسيس لفكرة أن الوحدة ضرورة مادية تنموية موضوعية واشتراكية. وهنا في اللحظة أكتفي بالحفاظ عملياً على وحدة سوريا الحالية وأتطلع إلى الوحدة مع موريتانيا.