كتاب يستحق القراءة[1]
معن بشور[2]
نحن اليوم إزاء كتاب استثنائي، وكاتب استثنائي أيضاًً، أما الكاتب، وهو الصديق الكريم الأستاذ أياد موصللي، فاستثنائيته نابعة من انه فاجأ عارفيه، كما فاجأني، بإعلان انتسابه الى نادي الكتاّب فيما كنت أعتقد إن اهتماماته وكفاءاته في مكان آخر، واستثنائية أبو حلمي تكمن انه رغم صداقتي له الممتدة الى عقدٍ ونيّف، وقد عمقتها جهود مشتركة كتضميد جراح أكثر من صديق عراقي ألمت به نازلة الاحتلال، ومنهم كاتب مقدمة كتابنا اليوم، الراحل العزيز الدكتور عصام حويش، فإن تواضعه منعه من أن يخبرني عما تضمنه كتابه اليوم من مشاركته بحرب فلسطين عام 1948، وعن علاقاته بإبطال تلك المعارك، وكانت مفاجاآتي تتوالى كلما كشفت لي صفحة من هذا الكتاب جانباً من نضال هذا المقاوم الرائد منذ الفتوة، ومن مواقفه الوطنية والقومية، وعن جرأته بالمجاهرة برأيه التي لا تقل عن جرأته بالقتال بصفوف المتطوعين العرب في جيش الإنقاذ بقيادة المجاهد الراحل فوزي القاوقجي وإخوانه، وهي جرأة أدبية نفتقدها كثيراً هذه الأيام في زمن تهاوت فيه أقلام كثيرة أمام إحباط مثبط للهمم، وأمام أموال تهون معها النفوس، أو أمام أهوال تهتز لها الأفئدة والعقول.
أما الكتاب، وقد كنت أتمنى للصديق أبو حلمي أن يضيف الى عنوانه ما يشرح مضمونه بشكل أفضل وعلى نحو يحول دون أي التباس، فيصبح “حاربت في فلسطين قبل بيعها على يد الحكام” كي لا يسمح لأحد أن يستغل هذا العنوان الصادق لإغراض مشبوهة معززاً حملة جرت منذ النكبة وما زالت حتى اليوم، ضد شعبنا العربي الفلسطيني متهمة إياه أنه باع أرضه وذلك بهدف صرف الأنظار عن الباعة الحقيقيين لفلسطين، وقد كشفهم أبو حلمي بكل وضوح في كتابه، وكذلك بهدف التنصل من أي التزام عربي أو إسلامي بقضية فلسطين تحت شعار “ماذا نفعل لفلسطين إذا باعها أهلها” والذي بات اليوم ” لا نريد لفلسطين إلاّ ما يريده أهلها” في حين إن الجميع يعرف إن ما يريده أهلها هو تحريرها من البحر الى النهر، وما يريدها أهلها أن يشارك كل العرب، في تحريرها، كما شارك أحرارهم عام 1947 و 1948 في الدفاع عنها، بل أن تمتنع بعض الأنظمة العربية عن التضييق على الشعب العربي الفلسطيني وإلصاق شتى الاتهامات والنعوت به.
وإذا تجاوزنا الالتباس الذي قد ينشأ لدينا من عنوان الكتاب (وهو التباس يتبدد تدريجاً مع صفحات الكتاب “284”، كما يتبدد مع العديد من الأحداث التي يرويها الكاتب التي تعبّر عن عميق إعجابه وتقديره لبطولات الشعب الفلسطيني وتضحياته المتواصلة منذ ما يناهز القرن دون توقف أو انقطاع)، استطيع القول إن هذا الكتاب هو خليط جميل وممتع بين ما يشبه يوميات مشاركة كاتبه في حرب فلسطين الى جملة وثائق تكشف حجم المخططات التي أُعدت لاغتصاب فلسطين، وحجم التخاذل والتواطؤ، وصولاً الى الخيانة التي طبعت سلوك العديد من الحكام العرب المشاركين في تلك الحرب، بالإضافة الى تضمنه جملة أراء وانطباعات كونها أياد موصللي عبر عقود ثمانية من العمر (العمر كله يا أبا حلمي) أمضاها في ساحات الجهاد من اجل الوطن وميادين الكفاح من أجل عيش كريم وكرامة تليق بأمثاله.
هذا الخليط من الوقائع الحية، والوثائق الدامغة، والآراء المازجة بين المرارة والعزيمة، الذي يقدمه الكتاب تجعل قراءته ضرورية لمن يرى في فلسطين قضيته المركزية، ولمن يريد لأبنائه وأحفاده أن لا ينسوا حقاً يوم سلبت حقوق، وشرّد أجداد من أرضهم، وكيف تواطأ الكثيرون على أمتهم.
ولن استطيع في هذه العجالة إن استعرض معكم فصول هذا الكتاب الثري بالمعلومات والانطباعات والأفكار، ولا أريد أن أحرمكم من متعة التنقل بين وقائعه وسطوره، وهي بالفعل متعة، ولكنني سأتوقف أمام بعض الملاحظات التي تقفز فوراً أمام كل من يقرأ الكتاب.
اول الملاحظات: هو أن “الفتى” أياد الموصللي الذي “هرب” أكثر من مرة من بيته ومدرسته في دمشق للالتحاق بالثوار في فلسطين، هو نموذج يتكرر لشباب الأمة المسكون بالعنفوان الوطني والقومي والثائر على كل ظلم، خارجياً كان أم داخلياً، بل نموذج تعمق العلاقة بين سوريا عموماً، ودمشق خصوصاً، وبين فلسطين، وهي علاقة تشرح لنا الكثير مما عانته بلاد الشام، وما زالت، من مؤامرات وحروب ومشاريع ومخططات وفتن ما زلنا نعيشها حتى اليوم.
فما نراه من مآسٍ ومحن في سوريا اليوم ليس هدفه نظام أو حزب أو رئيس بقدر ما أن هدفه الحقيقي هو تدمير وطن ومجتمع وشعب خرج منه يوسف العظمة، وإبراهيم هنانو، وصالح العلي، وسلطان الأطرش، وحسن الخراط، ومحمد الأشمر، وجول جمّال وصولاً الى أبطال حرب تشرين 1973، وابطال مقاومة الغزو الإسرائيلي للبنان عام 1982.
وهذا العقد الذي كان جيش الإنقاذ عام 1948، ومن متطوعيه الفتى أياد الموصللي، واسطته تتضح معالمه بكل وضوح في الكتاب الذي يناقشه اليوم.
ثاني الملاحظات لقد كشف الكاتب في كتابه وبالوقائع الملموسة إن المتطوعين العرب، والثوار الفلسطينيين، حين كانوا يحققون انتصارات ميدانية باهرة على المستعمر الصهيوني أبان وجود جيش الانتداب البريطاني كان الجنود البريطانيون يسارعون الى أرض المعركة لنجدة الصهاينة وإزالة أثار الأنتصار الفلسطيني والعربي.
لقد سمعنا كثيراً عن التواطؤ الاستعماري البريطاني مع المشروع الصهيوني، منذ وعد بلفور وقبله، لكن أياد الموصللي يقدم لنا في كتابه شهادة حيّة عن هذا التواطؤ يمكن أن تكون درساً لأجيالنا القادمة، ووسيلة نستخدمها في معركتنا لكسب الرأي العام البريطاني خصوصاً، والغربي عموماً الى جانبنا في مواجهتنا الطويلة الأمد مع العدو الصهيوني.
ثالث الملاحظات إن الكاتب يكشف، وبالوقائع الميدانية أيضاًً، كيف إن الحكومات العربية المعنية يومذاك، بحرب فلسطين، قد تفاوت دورها بين العاجز والمتخاذل والمتواطئ بل والخائن للحق العربي، وكيف أن هذه الحكومات التي رفضت قولاً قرار تقسيم فلسطين الصادر عن مجلس الأمن عام 1948، سعت الى تطبيقه فعلياً على الأرض حين منعت الجيش العراقي مثلاً من الزحف نحو تل أبيب وقد وصل الى ما يقرب 12 كلم منها، وأجبرته على التراجع، وحين أجبرت الجيش المصري على التوقف في الفلوجة بعد أن جرى تزويده بالأسلحة الفاسدة، وحين حجبت السلاح والذخيرة عن الشهيد عبد القادر الحسيني قبيل معركة القسطل التي أستشهد فيها وهو ينادي بأعلى صوته لكي يتم أمداده بالسلاح والذخيرة بعد أن حقق انجازات كبيرة في القدس، فضاعت القدس بشطرها الغربي يومها، لتضيع بشطرها الشرقي اليوم، وفيه الأقصى والقيامة، في ظروف عربية وإسلامية مماثلة.
ويروي الموصللي بكل شفافية كيف كانت الأوامر تصدر للثوار بالتراجع الى بعد خطوط “التقسيم” المشؤوم، فيما يحتفظ الصهاينة بأجزاء واسعة من الأراضي التي أبقاها القرار نفسه لأصحابها الفلسطينيين، فبتنا أمام معادلة مشبوهة. نسلّم للصهاينة ما بأيدينا من أراض حسب قرار التقسيم، ونسكت عن أراض أعطاها هذا القرار للفلسطينيين.
رابع الملاحظات إن صاحب الكتاب والمجاهر بانتمائه الى المدرسة السورية القومية الاجتماعية، كان حريصاً جداً على ان يبرز مشاركة كل القوى والتيارات الحزبية التي شاركت في حرب فلسطين، والى الشهداء الذين قدمتهم في تلك الحرب، وما تلاها من مواجهات ومن مقاومة، فتحدث أبو حلمي عن الضابط السوري القومي غسان جديد والمعارك المشرفة التي خاضها، وعن الشهيد البعثي الضابط مأمون البيطار وعن وصول القائدين المؤسسين في حزب البعث ميشيل عفلق وصلاح البيطار الى مدينة القدس، وعن الإخوان المسلمين ودورهم في القدس بقيادة الشيخ الراحل الدكتور مصطفى السباعي، وعن دور زعيم الحزب العربي الاشتراكي أكرم الحوراني، وعن العديد من الشخصيات العسكرية والسياسية السورية التي لعبت أدوارا هامة فيما بعد في حياة سوريا والعراق والمنطقة.
كان ميدان النضال والكفاح موحدّاً للجميع، وبقي المناضل والمكافح أياد الموصللي أميناً لروح الوحدة بين مناضلي الأمة وقواها وتياراتها، وكأنه يقول “أين كنا… وأين أصبحنا… بسبب تشرذمنا”.
خامس الملاحظات إن الكاتب قد جمع في كتابه بين الأمانة للوقائع، وبين الدقة في الوثائق، وبين التدفق في المشاعر، فترى نفسك وأنت تقرأ الكتاب تنتقل بين صرامة التوثيق، ودقة الرواية من جهة، وبين تفجر الشعر في جنبات الكتاب، أما شعر الكاتب نفسه، أو قصائد شعراء كبار لشاعر الأمة الكبير عمر أبو ريشة ناهيك عن استعانته بأقوال مأثورة لرجال عظماء.
لقد كان هذا المزج بين الرواية التاريخية والوثيقة الموثوقة، والإفاضة الشعرية، خير تعبير عن شخصية أبي حلمي المتدفقة التي تشكل العواطف الأصيلة جزءاً هاماً منها. فلولا العاطفة الوطنية ، لما هرب ابن السادسة عشرة من عمره مرتين من منزله ليلتحق بالثوار بفلسطين، ولولاها لما شعر بالحاجة الى أن ينقل تجربته من ذاكرته الى الورق، كما هو حال هذا الكتاب، بل لولا هذه العاطفة الجياشة لما تمكن أن يصمد كل هذه السنوات وفياً لمبادئه ورفاقه وتاريخ وطنه وأمته، فمنبع كل الأخلاق يكمن في المشاعر الإنسانية الصافية التي تحركه.
سادس الملاحظات لقد بذل الكاتب جهداً كبيراً في جمع الوثائق والصور الجميلة، ربما لكي يضفي على هذه المذكرات والانطباعات طابعاً علمياً يدحض فيه مزاعم كثيرة، لكن فاته أيضاًً وثائق ومعلومات أعتقد ان من واجبنا جميعاً أن نزوده بها لكي تأتي الطبعة الثانية بإذن الله أشمل وأكثر، وهنا أتوقف بشكل خاص أمام نقص غير مقصود بالطبع وهو عدم الإشارة الى دور بعض القوى الوطنية والقومية اللبنانية وشهدائها في مقاومة العدو الصهيوني في وقت مبكر…
ولعل من الصدف التي نعتز بها، ان يكون يوم انعقاد هذه الندوة في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 هو ذاته يوم معركة كفركلا الشهيرة عام 1975، حيث واجه أبناء البلدة الجنوبية المجاهدة تسلل القوات الإسرائيلية الى بلدتهم في معركة ضارية استشهد فيه القائد البعثي الشهير عبد الأمير حلاوة (ابو علي)، بعد أن أستشهد في 1/1/1975 رفاق له في الطيبة هم علي وعبد الله وفلاح شرف الدين ومعهم المناضل الشيوعي محمد قعيق، وقبلهم الأخضر العربي (أمين سعد) في شبعا، وحسين علي قاسم صالح في مزرعة حلتا – كفرشوبا، وواصف شرارة في بنت جبيل، بل شهداء من طرابلس رووا بدمائهم ارض الجنوب في 12/5/1970 وهم هوشر وحمود والترك، وبعدهم شهداء من التيارات العروبية والإسلامية لا سيّما شهداء قوات جبل عامل، وقوات الفجر، والشهيد الناصري سمير الشامي على سفوح جبل الشيخ، ناهيك عن شهداء بيروت من كل الاحزاب والحركات والروابط الشعبية، ونرجو أن يتم تدارك هذا النقص في الطبعة الثانية.
الملاحظة السابعة والأخيرة كم كنت أتمنى لو ان الأخ الكبير ابو حلمي تجنب في كتابه الراقي الاسلوب، والحضاري المستوى، والاخلاقي الالتزام، ذكر اسماء قادة فلسطينيين، شهداء واحياء، في معرض ادانته لمظاهر الفساد البيروقراطي والترهل النضالي التي اصابت بعض مؤسسات العمل الوطني الفلسطيني، وهي مظاهر نتفق معه في ادانتها، ولكننا نعتقد ان اسلوب معالجتها ليس بالتركيز على شخصنتها والتركيز على اشخاص دون غيرهم، بما يفسح في المجال لاستغلالها من أعداء المقاومة الذي يعرف ابو حلمي اكثر من غيره مقاصدهم واهدافهم.
هذه الملاحظات التي سمعها مني الكاتب العزيز، حرصتُ ان يتضمنها هذا النص المكتوب على قاعدة انني ألتزم الموضوعية في تقييم كتاب العمر هذا، فأشير على ما أراه من ايجابيات دون القفز على ما رأه من ثغرات.
باختصار، نحن بالفعل أمام كتاب يستحق القراءة، بل يستحق أن ينتقل من جيل إلى جيل، فالحديث عن فلسطين ممن عاشوا في قلبها، وغاصوا في جراحها، يبقى له طعم مختلف ونكهة مختلفة، فكيف إذا كان “الطباخ” ماهراً يملك خبرة من كان يوماً صاحب مطعم في عاصمة الرشيد فجمع إلى فروسية بغداد، شموخ دمشق، وإباء بيروت، وجرح فلسطين.
تحية للصديق إياد موصللي، والرحمة لشقيقيه المميزين الراحلين بشير ومنذر، ولكل منهما قصة تستحق أكثر من كتاب.
[1] – مداخلة في مناقشة كتاب أ. أياد موصللي “حاربت في فلسطين قبل بيعها” في نقابة الصحافة اللبنانية.
[2] – الرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي