لهذه الاسباب يجب البحث عن نظام للمرحلة الانتقالية في لبنان

 العميد د. امين محمد حطيط

لا يتقبل من نسج اتفاق  الطائف لمصلحته  اي قول يمس هذا الاتفاق أو النظام الذي انبثق عنه، و رغم كل ما يتخبط فيه لبنان من مآسي نظامية و دستورية مكرسة بالنص او بلورتها الممارسة، فان هذا الفريق المستفيد من هذا النظام الاعرج المشوه  لا يزال مكابرا محذرا من المس به الى حدا اعتباره نظاما نهائيا مقدسا و خاتمة الدساتير في لبنان و ان من وضعه كان  خاتم الجهابذة الدستوريين.

لكن الواقع  اللبناني يبرز تناقضا كليا مع هذا التصور و يظهر ان هذا النظام  تثبت قصوره عن تأمين استقرار في لبنان و عجز عن اعادة تشكيل السلطة في مواقيتها، و اذا كان البعض يدعي ان الطائف لم يطبق بسبب ما يسميه البعض ب ” الاحتلال السوري ” و فريق آخر ب”الوصابة السورية ” فان الواقع يكذب هذا الادعاء و يمكن ان نلجأ الى امثلة و احداث و وقائع حدثت بعد خروج الجيش السوري من لبنان و نرى تخبط المؤسسات الدستورية السياسية و غير السياسية المنبثقة عن نظام الطائف و عجزها عن ادارة شؤون الدولة بشكل مستقر يوحي بالثقة و الطمأنينة و نذكر هنا على سبيل المثل لا الحصر ما يلي :

1)    تعطيل المجلس الدستوري في بداية حقبة ما يسميه المتمسكين بالطائف ” الاستقلال الثاني “. حدث ذلك بعد ان اجريت الانتخابات النيابية في العام 2005 بغياب اي وجود لسورية في لبنان، و ارتكبت في الانتخابات ممارسات التزوير و شتى مخالفات القانون ما ادى الى قيام اكثرية نيابية مزورة، و لما طعن ببعض المرشحين سارعت الاكثرية المزورة الى كف يد المجلس الدستوري ثم عينت من تأمن على نفسه منها  و هكذا استمر في مقاعد النيابة من لا حق له بها او من لم يفصل بالطعن بنيابته.

2)    منذ خروج السوريين في العام 2005 و حتى اليوم لم تستطع المؤسسات المخولة بوضع الموازنة و اقرارها ان تنجز موازنة واحدة و الدولة مستمرة منذ ثمان سنوات في اعتماد آخر موزانة اقرت  اثناء الوجود السوري و تنفذها على اساس القاعدة الاثني عشرية.

3)    رغم النص الدستوري الثابت على ان لا شرعية لسلطة لا تراعي العيش المشترك كما و النص على موقع رئيس الجمهورية  في النظام السياسي باعتباره رمز وحدة الدولة و من يفاوض الخارج باسمها، فان حكومة برئاسة احد المتمسكين بنظام الطائف المقدسين له كما ذكرنا، استمرت في الحكم بغياب ممثلي مكون رئيسي من مكونات الشعب اللبناني ( الشيعة ) و لم تعر اي اهتمام لمواقف رئيس الجمهورية الرافض لانعقاد مجلس الوزراء بغياب هذا المكون. ثم ان هذه الحكومة و بهذا التشوه البنوي و التمثيلي اضطلعت بمهام رئاسة الجمهورية لفترة تعدت الست اشهر.

4)    مع انتهاء ولاية العماد لحود الرئاسية في العام 2007 عجز مجلس النواب عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية و ظل العجز قائما لمدة ستة اشهر، و لم يتم الخروج من حالة الفراغ في الرئاسة الا بعد هزة امنية حدثت في ” يوم مجيد ” عملت فيه القوى الوطنية على انقاذ لبنان من مفاعيل قرارات حمقاء اتخذتها حكومة شوهاء تدعي انها تحكم باسم الطائف، و بعد تدخل خارجي مارس وصاية واضحة على هذا الفريق اللبناني او ذاك ليحمل الجميع على القبول بحلول وسط يعتبر بعضها مخالفا لمنطوق الدستور.

5)    اما في قانون الانتخاب الذي هو الاساس في اي نظام سياسي و دستوري فحدث و لا حرج، ففي الاصل لم يحترم ما جاء في الطائف من قواعد لاعتمادها في قانون الانتخاب و بعد الخروج السوري ازداد الامر بعدا عن تلك القواعد في اعتماد نظام نموذجي في تعميق الطائفية خلافا لما وعد به اللبنانيون من سعي للتخلص من النظام الطائفي و توجه للخروج من الطائفية السياسية.

6)    و مع اشتداد الصراع حول قانون الانتخاب و العجز عن الوصول الى صيغة تقر في مجلس النواب بعد ان طرحت و للمرة الاولى في تاريخ لبنان المستقل، طرحت مسألة ميثاقية جلسات مجلس النواب و يعنى بها اشتراك ممثلي الطوائف جميعها و مع الانقسام الحاد المعيق ل ” الجلسة الميثاقية ” كان الحل اللبناني السحري بعدم اجراء الانتخابات النيابية و التمديد للمجلس الحالي خلافا لقواعد الوكالة الشعبية المحددة الاجل.

7)    و حتى تكتمل الصورة نذكر بالعجز الحالي  عن تشكيل حكومة منذ ثمانية اشهر، عجز مرشح للاستمرار لاشهر غير محددة ايضا الا اذا كان قرار بتشكيل حكومة تفاقم المأساة اللبنانية  بتشكيل حكومة لا تحظى بموافقة الفرقاء و لا تنال ثقة ميثاقية في مجلس النواب او حتى ثقة دستورية و هنا تكون الطامة الكبرى مع انتهاء ولاية رئيس الجمهورية دون انتخاب رئيس جديد و يكون عندها الفراغ الشامل في كل المؤسسات الدستورية السياسية و على صعيد السلطتين التشريعية و التنفذية.

ان نظاما هذه مفاعيله و نتائج إعماله نصا او ممارسة او الاثنين معا، انما هو نظام غير قابل للحياة  وان التمسك به و الادعاء بصلاحيته انما هو تعنت او مكابرة لا تزيد الوضع الا سوءا. و عليه نرى انه ان الاوان لاعتراف الجميع بسقوط هذا النظام  و الاعلان الصريح عن هذا السقوط مع العلم  بان الاقرار بهذا الامر هو من طبيعة اعلانية و ليس من طبيعة انشائية، اما رفض الاقرار بهذا الشأن   فانه لا يعني بث الحياة في نظام مات و انتهى.

و يجب الاعتراف اذن اننا نعيش الان في حالة اللانظام أو الفراغ السياسي   و بسبب هذا نجد دوائر الفراغ و التعطيل  تتوسع و ستتوسع حتى تشمل كل السلطات و الوظائف القيادية الرئيسية في الدولة و على كل الصعد و في  جميع الاسلاك ما لم يطرأ ما يحول دون ذلك من داخل النظام الهالك او من خارجه.

و لكن الخطر الاكبر و المثير للفوضى الاعم يكمن في المبادرة الى اجتراح حلول يظن انها تنقذ من الوضع و تقود الى عكس المأمول كما يشاع اليوم عن امكانية تشكيل حكومة تفرض امرا واقعا و تسقط في مجلس النواب ثم تتولى صلاحيات السلطة التنفيذية لفترة غير محددة الا بالعودة الى الوفاق و الاتفاق الوطني الممنوع حاليا، او انتخاب رئيس جمهورية دون احترام النص الدستوري المحدد ضمنا للنصاب القانوني ب الثلثين، قرارات تستند في بعضها الى سوابق الامر الواقع الذي احدثته حكومة فؤاد السنيورة غير الميثاقية في العام 2007، او ممارسات الرئيس نجيب الميقاتي غير الدستورية ( رفض انعقاد مجلس النواب في ظل حكومة مستقيلة، و العمل بالموافقات الاستثنائية التي تتجاوز مجلس الوزراء و تقحم رئيس الجمهورية في قرارات لا يسأل عنها )، فان البناء على تلك السوابق او الممارسات لا يستقيم اليوم لان الظروف اختلفت و ستختلف اكثر ما يمنع التكرار لانه:

–         لا يمكن تصور الفريق المتضرر من حكومة واقع مفروض، سيسلم زمام الامر لمن يناصبه العداء و يكيد له و ان زمن استجلاب المحكمة الدولية بممارسات سكت عنها زمن لن يتكرر و لن يعود و لن يسمح به.

–         لا يمكن تصور الفريق المنتصر استراتيجيا يتنازل عن انتصاره و القبول بوضع المهزوم في وطنه، فاذا لم تطالب المقاومة في العام 2006 صرف انتصارها في الداخل فانني لا اعتقد انها تقبل لا بل من المستحيل ان تقبل تسليم زمام امور الدولة لمن يستأثر بالحكم و يكيد لها و لسلاحها.

–         لا يمكن القبول بتولي حكومة رفض مجلس النواب منحها الثقة،  تولي مقاليد السلطة التنفيذية  حتى من اجل تصريف الاعمال و امرها يختلف عن حكومة نالت الثقة و استقالت من تلقائها دون سحب الثقة منها، او حكومة شكلت و منحها الدستور مهلة شهر لتعرض بيانها عليه و ينظر في امر الثقة بها. فالفارق كبير بين وضع تكون فيه  ثقة ممنوحة، او ثقة مأمولة، و وضع تكون فيه الثقة محجوبة كليا لانه في الحالة الاخيرة تكون ممارسة الحكومة اغتصاب للسلطة و لا يصح اصلا فيها تصريف الاعمال و هنا ينبغي لاي دستور او تعديل دستوري ان يعالج هذه المسألة بنص صريح لا يكتفي بتفسير النصوص وفقا لروح الدستور كما نفعل الان.

مع هذه المحاذير التي ترسم الخطوط الحمراء  العريضة امام البعض المتحمس للركوب في المراكب الخشنة غير الدستورية نقول بانه ان الاوان للاعتراف باننا نعيش مرحلة انتقالية يقتضي البحث عن نظام لادارتها قبل ان نبحث عن نظام يحكم لبنان بمقتضاه، نظام انتقالي توافقي لا يلغي احدا و لا يستأثر بالسلطة فيه احد.

::::

المصدر: البناء، بيروت