أوكرانيا | هل تخلق معاداة لينين ثورة؟

طلال عبدالله

عندما انهار جدار برلين في العام 1989، عمد ليبراليو ألمانيا الغربية إلى السيطرة على ألمانيا الشرقية اقتصادياً وسياسياً، وفتحت أبواب الرأسمالية العالمية للقضاء على ما تبقى من الاشتراكية في ألمانيا الشرقية، وكان الشغل الشاغل للصوص الغرب في تلك الفترة تماثيل لينين، التي انتزعت من ألمانيا الشرقية، لهدف واحد، نزع النموذج الذي يحمل التصور النقيض من الذاكرة الجمعية، ونزعه لاحقاً حتى من البرنامج السياسي.

 

راديكال – طلال عبدالله

تلك المشاهد التي ظهرت بوضوح في الفيلم الألماني “وداعاً لينين” أو “Good Bye Lenin!”، تتكرر اليوم في أوكرانيا، بفارق أن أوكرانيا لم تعد شيوعية، ولكن، وعندما يشكل تمثال لينين هذا الحجم من الإزعاج لأحبة الولايات المتحدة ومناصريها ، فإن الفقراء سيتلمسون وجه التمثال الذي دمر، لكي لا يتبادر إلى أذهانهم ولو للحظة، أن لينين قد رحل عنهم!

 أوكرانيا والاتحاد الأوروبي

عند انطلاقة المظاهرات في الشارع الأوكراني كان جمهور “المثقفين” العرب ومعهم الكثير من “المتثاقفين” على موعد مع تحليلات لربما كان وصف “أفلاطونية” هو الأصلح بها، أما بداية المشهد في أوكرانيا فتمثل في “ضغط شعبي” على الحكومة الأوكرانية للتوقيع على اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، ضغط لم يخلو من “أحلام” لأبناء الطبقة الوسطى تتعلق بالعيش تحت مظلة الاتحاد الأوروبي، وأوهام لفرص عمل أفضل لبائعات هوى أوكرانيات من الطبقة ذاتها!

في أوكرانيا اليوم -كما كان الحال سابقاً- جهتين متقابلتين، أبناء الغرب العالقين في أوهام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأبناء الشرق الذين يرون بأن الحفاظ على العلاقات مع روسيا هو الضامن الوحيد لعودة أوكرانيا إلى الخريطة، الأمر الذي يساعدنا في فهم طبيعة الاضطرابات السياسية التي تضرب أوكرانيا منذ ما ينوف عن العشرين عاماً.

تلك الحقيقة تظهر جليّاً في الشعارات التي رفعت من قبل المتظاهرين، “أريد العيش في أوروبا”، “أوكرانيا جزء من أوروبا”، “نريد أن نكون معاً مع أوروبا”، و “نريد لأطفالنا مستقبلاً وليس الضغط عليهم من طرف روسيا”، ويمكننا ملاحظة تلك الحقيقة بوضوح أيضاً من خلال التركيز على جزئية خلو المدن الأوكرانية الشرقية من تلك الاحتجاجات، وبالأخص إذا ما تحدثنا عن مدن كبيرة مثل دانيتسك وسيفستوبل.

 

نسي أنصار أوكرانيا الاتحاد الأوروبي أن الدول المستفيدة من منظومة الاتحاد الأوروبي لم ولن تكن دول أوروبا الشرقية، التي عانت الأمرين بعد انهيار المنظومة الاشتراكية من ظهور مهوول للمافيات وانهيار صناعات كبرى لصالح الاستثمار. لا معنى لدخول الاتحاد الأوروبي إن كنت طرفاً ضعيفاً، معنى الدخول في الاتحاد الأوروبي يحمل فرصتك في تصريف صناعتك التي تنافس، أما إن لم تكن كذلك فأنت السوق القادمة.

المشهد في مجلس النواب الأوكراني لم يخلو من ذلك أيضاً، فأحد النواب أكد في إحدى الجلسات في بداية الأزمة على أنه وبعض المعارضين وعن طريق الولايات المتحدة يحضرون لانقلاب في أوكرانيا، الأمر الذي يجعلنا نطرح سؤالاً حقيقياً هنا: ما مدى مسؤوليتكم عما يحصل الآن في أوكرانيا يا سعادة السفير الأمريكي في كييف؟

ما يحدث في أوكرانيا اليوم ليس ثورة ، فالثورة باعتبارها سيرورة سياسية واجتماعية طويلة المدى تعرف بكونها “تلغي المجتمع القديم، وهنا تتكون الثورة الاجتماعية، وتلغي السلطة القديمة، وهنا تتكون الثورة السياسية”، ولكننا إذا ما أردنا تعريفها كثورة حقيقية فلا بد من دراسة القوى المنتجة المادية للمجتمع، وفترات تطورها، وتناقضها مع علاقات الإنتاج القائمة أو مع علاقات الملكية، لنخلص إلى تعريف مركزي مفاده أن الثورة هي تقويض المجتمع القديم، وإسقاط البرجوازية، وتحرير البروليتاريا أو الطبقة العاملة فكرياً وسياسياً واقتصادياً.

وبذلك، لربما كان التعريف المناسب لما تشهده أوكرانيا اليوم: “ثورة ملونة جديدة”، فيها تكرار لما حدث منذ عدة سنوات، السؤال الحقيقي والملّح هنا: “هل العامل الاقتصادي هو ما الدافع لخروج الأوكرانيين الغربيين إلى الشارع اليوم؟ أم أنه “الحلم الأوروبي” الذي يراودهم وسط اعتقادهم بأن أوروبا هي الحاضنة لهم وليست روسيا الحليفة التاريخية؟”.

كل ما يحدث وفق المصطلح الاقتصادي هو فقدان “السيادة الاقتصادية” لأوكرانيا، لا أحد يأبه اليوم لمنع التأشيرات بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي، فما معنى أن يتجه الأوكراني للعمل في بولندا أو ألمانيا؟ سفراء الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الغربية الأخرى كذلك يتوسطون الاحتجاجات التي تشهدها أوكرانيا اليوم! الاتحاد الأوروبي لا ينوي إلغاء التأشيرات للأوكرانيين، فهذا كابوس لمنظومتهم المأزومة! يريدون زعزعة استقرار الدول التي تعقد تحالفاً ما مع روسيا! فهم يخشون عودة الدب الروسي بقوة إلى المشهد، ويخشون أكثر تحالفه مع بلد بحجم أوكرانيا.

خديعة الاتحاد الأوروبي اليوم تريد لأوكرانيا الابتعاد عن روسيا وفي ذات الوقت فهم سيغلقون الباب في وجهها، من يتظاهر في أوكرانيا اليوم لا يعرف ولا يفهم ما الذي يدور في نص هذه الاتفاقية، لم يقرأوها ولم يطلعوا على مضمونها، يسعون لأي شيء للانعزال عن روسيا والانضمام للاتحاد الأوروبي!

الولايات المتحدة في قلب “الثورة”

هيلاري كلينتون ولدى مشاركتها في مؤتمر يالطة في وقت سابق أكدت أنها جاءت إلى المؤتمر من أجل أكل الشوكولاتة الأوكرانية فقط، في إشارة منها إلى أن روسيا تعتبر البضاعة الأوكرانية سيئة! هل تريد الولايات المتحدة تحويل أوكرانيا إلى قواعد عسكرية أمريكية ورأس حربة من خلال نشر الدرع الصاروخية؟

أما جون ماكين، فيصرح اليوم من قلب كييف، وسط المتظاهرين: “أمريكا معكم”!!

تلتقي أهداف الولايات المتحدة مع أهداف الأوروبيين في أوكرانيا، ضم أوكرانيا إلى الناتو، ومنع أوكرانيا من التقارب مع روسيا! تدخل السفير الأمريكي في أوكرانيا واضح، من خلال تعليقاته المستمرة، الاتحاد الأوروبي يشير اليوم إلى أنه لا يستطيع تقديم نصف ما تقدمه روسيا لأوكرانيا، وآخر ما في الحكاية تلويح الولايات المتحدة بفرض عقوبات على أوكرانيا في حال عدم توقيعها اتفاقيات الشراكة الاقتصادية والتجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي!

أوكرانيا تعاني اليوم من أزمة اقتصادية حادة، والحكومة الأوكرانية التي وعت ذلك، قامت بتعليق اتفاقيات الشراكة واتفاقيات التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، والاستعاضة عن ذلك باتفاقيات مع روسيا!

أما موضوع “استقلال أوكرانيا” فلا يكون بتكريس تبعيتها للاتحاد الأوروبي، موسكو تقف اليوم حجر عثرة أمام أوكرانيا للتوقيع على الاتفاقية، والأوروبيون يبذلون كل ما في وسعهم لجر أوكرانيا إلى جهتهم، للضغط على روسيا، فما مصلحة أوكرانيا التي تعاني أصلاً أزمة اقتصادية خانقة في التوقيع على اتفاقية من هذا النوع مع الاتحاد الأوروبي؟ دون إغفال أن الأهمية التي تشكلها أوكرانيا اليوم بالنسبة للغرب اليوم هي ذاتها قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي.

الثورات الملونة مجدداً

عندما نتحدث عن ثورات هدمت البنى الاقتصادية الاجتماعية وأعادت تركيبها، نتذكر ثورتين، الثورة الفرنسية في فرنسا، والثورة البلشفية في روسيا، فالثورة الفرنسية أجهزت على الإقطاع وجاءت بالقوة الصاعدة آنذاك، البرجوازية. والثورة الروسية، أسقطت حكم القيصر وبدأ المشروع الاشتراكي في العمل بما في ذلك تأدية مهمات البرجوازية نفسها.

مع بداية التسعينات، سعت الولايات المتحدة الأمريكية لتغيير مفهوم “الثورة” بما يتناسب مع مصالحها ومصالح القوى الرأسمالية والامبريالية، وبرزت بذلك الثورات الملونة، والتي قادتها “مؤسسات المجتمع المدني” المدعومة في غالب الأمر من القوى الغربية في أوروبا الشرقية والوسطى، حيث عمدت تلك المؤسسات الممولة لتنظيم “اعتصامات سلمية” للإطاحة بما عرفته الولايات المتحدة “الأنظمة الشمولية”، وأطلق عليها آنذاك اسم الثورات “المخملية” أو “الناعمة” وذلك لعدم “تلوثها بالدم وعدم استخدام العنف فيها” (ويعود عدم تلطخها بالدماء لعدم وجود قوى مجابهة آنذاك، وطريقها اليسير في الحصول على السلطة)، ليتجلى بذلك مفهوم “المجتمع المدني”، الذي توضحت أهميته في رسم السياسات الداخلية والخارجية لهذه الشعوب بتوجيه امبريالي!

من يقرأ كتاب “اعترافات القاتل الاقتصادي”، يلمس بوضوح قيام الولايات المتحدة الأمريكية بالعمل على تطوير أساليب حديثة للسيطرة على العالم ومنها تقديم رشاوى للأنظمة السياسية في البلدان المراد السيطرة عليها بواسطة Economic Hitman (القتلة الاقتصاديين) الذين أرسلتهم الولايات المتحدة إلى تلك البلدان، الأمثلة كثيرة في ذلك، ووفق اعترافات أحد القتلة الاقتصاديين الرئيس الاقتصادي السابق لشركة “شاس” الرئيسية المحدودة، فقد حاولوا رشوة محمد مصدق في إيران وخاييم رالدوس في الإكوادور وعمر توريخوس في بنما.

وعندما فشلوا في تقديم رشاوى لتلك القيادات، فما كان منهم إلا تصفيتهم جسدياً، وعقب ذلك عملوا على الترويج لمصطلحات كـ “الإصلاح” و “الثورات الناعمة” أو “المخملية”، وذلك للقضاء نهائياً على المفهوم الحقيقي للثورة!

التمويل، رافع الثورات المضادة

تناول الرفيق محمد فرج في مقالة سابقة له في العدد الخامس لمجلة راديكال تحت عنوان “الحرب الثقافية على دول الأطراف” موضوع مخاطر التمويل الأجنبي، ودور منظمات المجتمع المدني في صياغة الوعي لدى الشارع، وذلك لدى دراسته لكتاب “من يدفع للزمار – الحرب الثقافية الباردة”.

“شهدت دول العالم الثالث ظاهرة المنظمات غير الحكومية الممولة من جهات أميركية وأوروبية “تحديداً في مجال حقوق الإنسان”، ويأتي هذا في سياق تجزئة الصراع الأساسي إلى صراعات عديدة، يعتبر كل منها مشكلة قائمة بذاتها يعمل على حلها مجموعة من الإختصاصيين، ولها مجموعة من المنظمات الخاصة بها، فتتشكل هيئات ضد الإستغلال الجنسي في العراق، وهيئات لإعادة الإعمار في العراق، وهيئات ضد تجاوزات مبادئ حقوق الإنسان في السجون وتطالب بسجون نظيفة حسنة المعاملة، وهيئات لإشراك المرأة بشكل أكبر في العمل، وهيئات تعمل على إشراك سكان المناطق الريفية والقروية بآخرين يأتون من أوروبا ومن أميركا بحجة العمل على “تطوير” سكان تلك المناطق، وهيئات للإشراف على “نزاهة” مختلف الإنتخابات، وهيئات خيرية لمساعدة الفقراء والإحسان إليهم، وهيئات تعلن الإلتزام بدمقرطة الوطن العربي، وهيئات تتحدث في الجندر، وهيئات تعلم آليات بناء المشروع الخاص، وهيئات تبحث في نسب الجريمة والسرقة وتبحث في أسبابها “الأخلاقية”.

أصبحت هذه المنظمات ممولاً أساسياً للعديد من المنظمات المحلية، وشمل ذلك العديد من الفئات السياسية التي كانت تتحرك بمنطق مختلف تماماً، حتى اليساريين الكلاسيكيين والمتطرفين، إنزلق العديد منهم في هذه التجارب، منهم من ركض خلف أشكال المنفعة الشخصية الخاصة بها، ومنهم من إقتنع بأوهام نجاح هذا المشروع، وحاول تبرير تبنيه على أنه خلاص الطبقة العاملة.

في كتاب “من يدفع للزمار، الحرب الثقافية الباردة” ل “فرانس ستونر سوندرز”: “بدأت وكالة المخابرات المركزية منذ عام 1947 في بناء إتحاد له واجب مزدوج وهو تحصين العالم ضد الشيوعية وتمهيد الطريق أمام مصالح السياسة الخارجية الأميركية، وكان من ذلك أن تشكلت لجنة محكمة من البشر الذين يعملون بالتوازي مع الوكالة للترويج لفكرة مؤداها أن العالم في حاجة إلى “سلام أمريكي”، إلى عصر تنوير جديد وأن ذلك سوف يسمى “القرن الأمريكي”.

نشرت صحيفة ترود الروسية وثيقة تحت عنوان “ظل بريجينيسكي” أن الولايات المتحدة وألمانيا ودولاً غربية أخرى زرعت في أوكرانيا 399 منظمة دولية و421 منظمة خيرية و179 منظمة غير حكومية لدعم فيكتور يوشينكو “قائد الثورة البرتقالية في أوكرانيا وحليف الغرب”، وتبين الوثيقة أتعاب هذه المنظمات أنها تتراوح بين 300 ألف و500 ألف دولار في الأسبوع الواحد. كان الهدف من وراء ذلك هو العمل على إضعاف المجال الإقتصادي الحيوي بين روسيا وأوكرانيا، لأن الوحدة الإقتصادية بين هاتين الدولتين تهدد بالضرروة المشروع الرأسمالي بخطر ممكن وعودة لمشروع يشبه الإتحاد السوفياتي”.

هذا بالضبط ما يجري في أوكرانيا اليوم، تلك المؤسسات الممولة تعمل من وراء الستار، لمنع أي تقارب روسي-أوكراني، في ظل صعود محور البريكس، وعودة الدب الروسي إلى المشهد الدولي بقوة!

“البلد الذي تركته أمي كان البلد الذي آمنت به، والذي أبقيناه حيّاً حتى آخر لحظات عاشتها، بلد لم يكون موجوداً أبداً على هذه الصورة، بلد سيبقى في ذاكرتي مرتبطاً بأمي”!

 

بتلك الجملة يختتم فيلم وداعاً لينين، وفي أوكرانيا الشرقية اليوم، كما كان الحال في ألمانيا الشرقية، تتكرر تلك الجملة على ألسنة الملايين، وبالأخص عند مشاهدتهم لهدم تمثال لينين في كييف، تمثال لينين برمزيته التي ما زالت تؤرق الغرب، وبتخلي شيوعيي أوكرانيا عنه!

قد يعتقد البعض أن الموقف من هدم تمثال لينين هو موقف تصنيمي، ولكن الهدم فعل يخفي خلفه منحى القوى المشجعة له. نعم ما زلنا نؤمن أن كراساً صغيراً بحجم البيان الشيوعي ما زال شبحاً يطارد الرأسمالية إلى اليوم، وما زلنا نؤمن أن المنهج الذي اتبعه لينين ما زال راهناً، راهناً جداً.

::::

العدد الحادي والأربعين 16-31 كانون الأول 2013

http://radicaly.net