محمود عبد الرحيم
ربما سؤال مصر إلى أين؟ بات من الأسئلة الملحة هذه الأيام، التي لا يعرف أحد إجابتها، أو استشراف آفاقها، وسط العودة مرة أخرى إلى حالة اللايقين والضبابية، وسيادة أجواء القلق والخوف من القادم بين غالبية المصريين، بعد وصول صراع السلطة بين الإخوان وأشياعهم من اليمين الديني من جهة والجنرالات ورجال الديكتاتور العجوز مبارك من جهة أخرى، إلى منحى خطير، وبعد أن تعثرت أو هكذا يبدو، مبادرات الوساطة المحلية والدولية بين الطرفين المتصارعين على حكم مصر.
والمزعج في الأمر، هو الانتقال من خانة الدعاية والدعاية المضادة، والمعارك السياسية والإعلامية، وما تحويه من خطاب تحريضي وتشويهي، وكثير من الأكاذيب والمغالطات والتعميمات، التي تزيد من حدة الاحتقان والاستقطاب والانقسام المجتمعي، إلى اللجوء إلى لغة التفجيرات والأعمال الإرهابية التي تسقط أبرياء بالعشرات، والتي لم تعد تقتصر على سيناء بمساحتها الشاسعة قليلة السكان، ما يجعل الأثر محدودا، بل وصلت إلى مدن القنال وقلب الدلتا، وحتى العاصمة ذاتها، على نحو يوحي بأن مصر كلها باتت تحت الاستهداف، وأن كل المصريين صاروا تحت الخطر. وبصرف النظر عمن قام بتفجير مدينة نصر والمنصورة الأخيرين، وقبلهما حوادث عديدة في الإسماعيلية والوراق وسيناء بالطبع، واغتيال كذلك أحد قيادات جهاز الأمن الوطني، واستهداف موكب وزير الداخلية نفسه، فهي، بكل تأكيد، أفعال إجرامية مدانة، وإزهاق الأرواح وإسالة الدماء جريمة لا تغتفر، ولا يمكن تبريرها تحت أي ظرف، ولا شك أن استسهال عمليات القتل مؤشر خطر على مستقبل مصر.
وعند تحليل مثل هذه الأحداث نتوقف عند التوقيت، والظرف السياسي، ومن المستفيد لرسم تصور محتمل عمن قام بالفعل، غير أنه في ظل حالة الاستقطاب الراهنة وصراع السلطة المحتدم بين الإخوان وأشياعهم والسيسي وعصابة مبارك، فكل طرف يمكن اعتباره متورطا في هذه الجرائم، فضلا عن إمكانية تورط جهات خارجية تستثمر الحالة الراهنة من أجل إشاعة الفوضى وإضعاف مصر، وصب مزيد من الزيت على النار المشتعلة حاليا. وتحضرني هنا تصريحات قالها رئيس جهاز الاستخبارات الإسرائيلية قبل عدة سنوات، لدى مغادرة منصبه، عن نجاحهم في اختراق الداخل المصري، وإثارة القلاقل والفتن داخل المجتمع.
ولاشك أن أي اتهام يظل فرضية ويدخل في باب التكهنات، إلى أن يأتي الوقت الذي تخرج فيه اعترافات حقيقية بالمسؤولية أو وثائق استخباراتية محلية أو أجنبية تكشف لنا تفاصيل الوقائع والمتهم الحقيقي، خاصة أن تنظيم ما يعرف بـ’أنصار بيت المقدس′ الذي يسارع بتبني كل العمليات يبدو مشبوها وغير مقنع لكثيرين، وكأنه شماعة تلقي عليها أجهزة الأمن والاستخبارات فشلها وتقصيرها، أو ربما يكون من صنعها هي ذاتها لسهولة تحميل أحد المسؤولية عما يجري، خاصة ألا معلومات مؤكدة عن هذا التنظيم، غير ما تروجه وسائل الإعلام المرتبطة بالأجهزة الأمنية التي لا تلبث أن تتحدث، كذلك، عن انجازات أمنية، وكشف ملابسات الأحداث والقبض على المتورطين سريعا، فيما تتوالي الضربات الإرهابية بذات التكنيك الاحترافي شديد التنظيم والخطورة.
وجدير بالذكر، هنا، أن هذا التنظيم المثير للشبهات، الذي تتم نسبته مرة لحماس، ومرة للقاعدة، ومرة للموساد، ويصفه البعض أنه مصري خالص من العائدين من أفغانستان وألبانيا، وممن رفضوا مراجعات الجماعات الإرهابية أو خرجوا على قياداتهم المتقاعدة، تم تحميله جرائم سابقة إبان حكم مبارك، ثم خرجت معلومات استخباراتية بعد ‘انتفاضة يناير’ تحمل المسؤولية لوزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي عن كل أعمال التخريب والفتن الطائفية التي كانت تحدث، لإطالة أمد النظام، وإلهاء الجماهير، وإحكام قبضته الأمنية على البلاد، وإسكات أصوات المعارضة والمطالبين بالتغيير أو الإصلاح.
وإزاء افتقاد المعلومات وحتى تنجلي الحقائق وليس الشائعات أو التهم الجاهزة، فإن ثمة العديد من السيناريوهات المحتملة، التي تنطلق من منطق من المستفيد في هذا التوقيت، من مثل هذه العمليات.
فمن مصلحة الإخوان، مثلا، أو أحد من حلفائهم وداعميهم، بما في ذلك تنظيمات تكفيرية مرتبطة بالقاعدة، تعطيل استحقاقات ‘خارطة الطريق’، التي تخلق شرعية جديدة تنسف شرعية الإخوان الانتخابية، وتفرض واقعا جديدا يستند إلى الشرعية الشعبية، سواء كانت حقيقية أم مزيفة ماديا أو معنويا، بالإضافة إلى إحراج السلطة الحاكمة وإظهار فشل الجهاز الأمني في توفير الأمن للمواطنين، بل وتأمين حماية حتى نفسه، سواء أمام الرأي العام الداخلي أو الخارجي، خاصة أنهم في ‘تحالف دعم الشرعية الاخوانية’ استبقوا التفجيرات الأخيرة بالتحذير من أعمال تفجيرية يتم إلصاقها بهم، وتحميل المسؤولية لما يسمونها ‘سلطة الانقلاب’، وتبرئة ساحتهم مسبقا.
وبذات المنطق أيضا، فمن مصلحة السلطة الحاكمة بزعامة قائد الجيش ومعاونة المؤسسة الأمنية برئاسة محمد إبراهيم، مثل هذه التفجيرات التي يسهل تحميل مسؤوليتها للإخوان، لمزيد من الخصم من رصيد خصمهم السياسي وتشويهه، وإفقاد خطابه أية مصداقية، خاصة مع محاولة تمرير الدستور المشبوه بأية طريقة، وتمرير الرئيس القادم، سواء كان السيسي أو احدا من رجال مبارك الآخرين، أو من يقبل لعب دور خيال المآتة، ويتيح للجنرالات الحكم من وراء الستار.
كما أن هذه الأحداث الدموية تستثير غريزة الخوف والبحث عن الحماية، وهو ما قد يصب في خانة ترميم شعبية السيسي التي تتآكل مع سوء الأوضاع، وتأثير خطاب الإخوان الذي يعزف بقوة على نقاط ضعف قائد الجيش وحكومته، ويفضح توجهاتهم وارتباطاتهم غير المنحازة للشعب، خاصة بعد الإحباط الذي أصاب كثيرا من المصريين الذين كانوا يراهنون على ‘القائد المخلص’ في تغيير أحوالهم للأحسن، مقارنة بالحال إبان حقبة حكم الإخوان، ثم اكتشفوا أنهم ما زالوا يعيشون على الشعارات الجوفاء، وأن الوضع من سيئ لأسوأ.
وكما أشرنا، سلفا، فيمكن لطرف خارجي أيضا أن يستغل هذه الوضعية الحرجة لمصر ومناخ الاضطراب السياسي والانقسامات المجتمعية في توتير الأجواء أكثر، والقيام بأعمال ترفع وتيرة الصراعات، وتشيع الفزع في المجتمع، وتزيد انقسامه. ولعل توالي التفجيرات، مؤخرا، يؤشر إلى دخول مصر إلى ‘سيناريو الجزائر’، والدخول إلى معركة كسر العظام بين الجنرالات والقوى الدينية بزعامة الإخوان، مع رفض طرفي الصراع الرئيسيين تقديم تنــازلات مؤلمة، وتغليب المصلحة العامة.
ويبدو أننا سنحتاج لسنوات لنعرف من هو المتورط الحقيقي في هذه الأعمال الإرهابية التي باتت تهدد كل المصريين، وتمثل خطرا حقيقيا على الوطن، حيث أن العنف والعنف المضاد سيدخل البلاد في مأزق خطير لا يعلم نهايته إلا الله، وصراع السلطة الدموي سيدفع ثمنه أبناء الشعب الذي لا يعي أبعاد اللعبة الشريرة الدائرة بين طرفين في واقع الأمر هما وجهان لعملة واحدة.
ومن واقع التجربة الجزائرية، التي يجب عدم تجاهلها في التعاطي مع الحالة المصرية الراهنة، فان بعض الجنرالات اعترفوا، لاحقا، بارتكاب مجازر وأعمال إرهابية من اجل إحكام السيطرة والتحكم في الجماهير، وإلصاق التهمة بخصومهم، وعزلهم اجتماعيا، كما أن القيادات الإسلامية اضطرت بعد معركة طويلة النفس إلى القبول بمبادرة وقف العنف، بعد اكتشاف أنهم تورطوا في حمامات دم من أجل صراع السلطة، وان مثل هذه المعارك الدموية في النهاية لا غالب فيها ولا مغلوب، وإن بقيت آثار للعنف لم تنته بعد حتى اللحظة، وخروج بعض الشباب على قياداتهم، بل واقترابهم من فكر القاعدة، وإقامة ‘تنظيم القاعدة في بلاد المغرب العربي’ الذي ينشط في الأطراف، ويقوم بأعمال إرهابية من وقت لآخر. ولولا الإصلاحات التي قام بها بوتفليقة وشخصيته القوية في بداية حكمه، ومحاولة استيعاب معارضيه، وفتح قنوات اتصال مع القوى الدينية للحفاظ على السلم الأهلي، لضاعت الجزائر إلى الأبد.
ومن ثم، فإن إعلان الإخوان ‘منظمة إرهابية’ ليس كافيا، ولا يكفي الحل الأمني وحده لمواجهة الأزمة الراهنة في المجتمع، وهذا القرار الذي أعلنته حكومة الببلاوي لا يعدو كونه شعارا ضمن شعارات ترفعها سلطة فاسدة مستبدة تابعة تتصارع على الثروة والسلطة مع الإخوان، وليس له علاقة بمصالح الناس ولا أمنهم، ولن يكون له اثر في الواقع، لأنه جزء من لعبة دعائية وصراعات سياسية انتهازية، لأن الأمر أكبر من هذا، حيث أن إنقاذ مصر وإعادة الأمن والاستقرار لها يحتاج الى توجهات صحيحة للسلطة نحو تحقيق العدالة بكافة أبعادها وعملية تنمية اقتصادية بوتيرة متسارعة، وتطهير وهيكلة لكل المؤسسات، خاصة الداخلية والدفاع والإعلام والقضاء، وتوجه إصلاحي تنويري، إن لم يكن ثوريا، وإعمال دولة القانون والمواطنة بشكل جدي، والسير الحقيقي في طريق الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة.
:::::
‘ كاتب صحافي مصري
المصدر:جريدة”القدس العربي” اللندنية