عبد الفتاح بن حمودة*
لا شيء هنا سوى الموت. لا شيء سوى بزوغ شمس فاشيّة بفمٍ أدردَ وعين عوراء وقرنيْ ثور هائج! صار صوت الرصاص والمتفجرات والكمائن أقوى من المهرجانات الثقافية والفنية والأدبية (معرض كتاب بائس لأجنحة فارغة وكتب صفراء، أيام قرطاج مسرحية عجفاء سيئة التنظيم، تظاهرات فنية من هنا وهناك لذرّ الرماد على العيون، حيث الارتجال والتسرع والارتباك وإعادة ملتقيات قديمة بأثواب جديدة. (
انزلقت البلاد إلى هوّة سحيقة وإلى ضرْب من المجهول حيث لطمة العدم والعقم!
لكُمْ أن تقرأوا شيئا عن سوسيولوجيا الثورات وصعود الحركات الدينية الفاشية من خلال المعجم الجديد المتداول يوميا في كل وسائل الإعلام (سحْل، اغتيال، ذبح، تفجير، كفر، إلحاد، سلفيّة، طواغيت، تدافع، تمكين، خلافة سادسة، شرعية، المال السياسي، الشيوخ، الأمراء، السنة، الشيعة، العلمانيون، الملحدون، التهريب، غسل الأموال، قطع الأيدي والأرجل من خلاف، قطر، تركيا، تنظيم القاعدة، الجهاد، جهاد النكاح، الزواج بأربع نساء، حركة الإخوان المسلمين، الحجاب، النِّقاب، المدارس القرآنية، العمل السياسي في المساجد، فتنة، خلايا نائمة، أمراء، كتائب)… كتائبُ من كل نوع تتلفّع بالسواد.
ووُلدت الحركة الشعرية التونسية الجديدة التي تضمّ عشرين شاعرا تقريبا قدّموا بحسب تقديري شاعرا وقارئا البديلَ الجماليَّ، متجاوزين شعراء القرن الماضي بآلاف السنوات الضوئية.. لم يشدّني في هذا البلد، في هذه الرقعة التي يتكالب حولها الجميع، سوى هذه الحركة الشعرية الجديدة التي تتوسع دائرتها كل يوم و«حركة نصّ» التي قطعت نهائيا مع الرداءة والانتهازية والثورجية الكاذبة المقيتة، هذه الحركة الوحيدة التي أعول عليها في المستقبل وهي تضم دون شك شعراء حاملين فوانيسهم في ليل الأرامل والذئاب، هم دون شك الشعراء: صابر العبسي، أمامة الزاير، خالد الهدّاجي، نزار الحميدي، محمد العربي، شفيق طارقي، صلاح بن عياد، صبري الرحموني، سفيان رجب، أنور اليزيدي، زياد عبد القادر، أشرف القرقني، محمد الناصر المولهي، وليد تليلي، عبد العزيز الهاشمي، فريد سعيداني، مهدي غانمي، جميل عمامي، سحر الغريبي، روضة عبد ربه… وأصوات أخرى قادمة لا ريب فيها.. كل هذه الأصوات الشعرية (الشعراء التروبادور) هي صنعت ربيع الشعر التونسي مواصِلةً المشروعَ الحداثي الذي بدأه الشعراء السابقون: خالد النجار، عزوز الجملي، فضيلة الشابي، يوسف خديم الله، محمد علي اليوسفي، منصف الوهايبي، رضا العبيدي، ميلاد فايزة، فتحي قمري… وغيرهم من شعراء رابطة الكتاب الأحرار ونقابة كتاب تونس. وستولد حركة قصصية وروائية ومسرحية وسينمائية وغنائية مختلفة عن السائد والمألوف ضد ثقافة الظلام والولاء والانتهازية والنقاب وفتاوى شرب بول البعير والإرضاع…
ربع قرن والحداثيون والتنويرين يحاربون دكتاتورية 7نوفمبر، حيث لم نعثر على واحد من هؤلاء الذين كانوا مختبئين في جحورهم، إلى أن عاد سيدهم وشيخهم رضي الله عنه! بعد ثلاثة أشهر من اندلاع ثورة الجياع والفقراء والمهمشين والمعدمين والطلبة الأحرار وأصحاب الشهائد المعطلين عن العمل، فاستقبلوه في مطار تونس قرطاج ب«أقبل البدر علينا» ولكنّ الشعب التونسي وقُواه الحية خرجت أكثر من مرة بـ«أقبل الموت علينا». سحقا سحقا سحقا للسلاحف وعبدة الموت والخلايا النائمة والمجد لأبناء الحياة.
من العبث الحديث عن ثقافة في تونس. ثلاثة أعوام مرّت حيث ثقافة القتل التي بشّر بها الحكام الجدد وسَدَنتهم من الأحزاب المتزلفة الخانعة، فمنذ حصولهم على تأشيرة النشاط في أحزاب علنيّة في مارس 2011 ركبوا القطار وهو يسير وبدأوا مخطّطاتهم الإرهابية. لم يدخلوا من باب واحد بل من أبواب مختلفة، منها باب الثقافة فأحرقوا قرابة خمسين مقاما للأولياء الصالحين وهاجموا كل التظاهرات الفنية والأدبية والمسرحية والسينمائية والموسيقية لأنهم لا يحبون الرقص والغناء. اعتدوا على رجال المسرح والسينما والمبدعين والمثقفين والإعلاميين وهرسلوهم في كل مكان.ما مرّ عام وتونس ليس فيها قتل واغتيال وموت.
وبعد أن حاولوا بشتى الطرق نجحوا في خلق ثقافة جديدة اسمها ثقافة الموت والقتل والاغتيال والتكفير والتحريم. اعتدوا على مقرات أهم منظمة مناضلة (الاتحاد العام التونسي للشغل) وعلى النّقابيين الأحرار، ضربوا أهالي مدينة سليانة(الشمال) الأحرار بالغاز والرصاص والرشّ (سلاح جُلب من تركيا!)، سحلوا الشهيد «لطفي نقّض» حتى الموت في تطاوين (الجنوب)، اغتالوا الشهيد «شكري بلعيد» يوم 6 فيفري بدعوى أنه علماني وكافر (بينما هم الكفار والملحدون). إن صدمة 6 فيفري أيقظت الشعب التونسي من السُّبات حيث أفاق الشعب صبيحتها على أن هؤلاء هم الإخوان المجرمون. ثم بدأت لغة المتفجّرات في جبل الشعانبي (القصرين/الوسط الغربي) وبدأ الجنود يتساقطون ويُذبّحون، ولقد اختتموا توقيعهم بالدم باغتيال الشهيد «محمد البراهمي» يوم 25 جويلية 2013 وبعدها بثلاثة أيام اغتالوا تسعة جنود ذبْحا.. واغتالوا الشهيد «محمد بالمفتي» (قفصة/الجنوب) وصولا إلى اغتيال الشّهيد سقراط الشارني(من أعوان الحرس الوطني/الكاف/ الشمال).
لقد مرّ صُنّاع ثقافة الموت والاغتيال والحقد الأعمى إلى مشاريعهم التي أتوا من أجلها، ففي كل أسبوع صرنا نسمع انفجارا في الجبال والغابات أو الضواحي، وبدأ الناس يتعوّدون على الموت والسواد والظلام ولكنهم كلّما أمعنوا في القتل والكذب والافتراء ابتعد عنهم الشعب ولفظهم.
ما مرّ عام وتونس ليس فيها قتل واغتيال.
:::::
“السفير”