مصر: أسئلة المثقف الحائر

محمد شعير*


كان صلاح جاهين يحلم بأوبرا في كل قرية مصرية.. لكن حلمه أو حلم سنوات الستينيات لم يتحقق، ربما لأن السلطة لم تكن مؤهله لتحقيق الأحلام، وربما لأن المثقف نفسه لم يخض المعارك الكافية، ولم يدفع ثمن تمرده أو خروجه على السرب.. ربما أشياء أخرى كثيرة، جعلت المثقف خارج «المشهد» السياسي، بل خارج المشهد الثقافي تماما..

العام الماضي، كانت بداية سؤال المثقف وعلاقته بالسياسة، بالجمهور، بالشارع… فجأة خرج المثقفون إلى الشارع في حدث نادر، واحتلوا وزارة الثقافة، مطالبين بتغير الوزير الإخواني الذي جاء يحمل أجندة ثقافية «رجعية» تقريبا.. فيما اعتبروه «نكسة ثقافية ثانية لمصر». هكذا دخل بهاء طاهر وصنع الله إبراهيم، وسيد حجاب، وخالد يوسف، واحمد ماهر، ومحمد هاشم، ومحمد عبلة، وآخرين… أعلنوا احتلال مكتب وزير الثقافة والاعتصام حتى رحيله… وكان بيان الاعتصام الأول أكد فيها المعتصمون « رفضهم للوزير الذي «فرضته الفاشية الدينية الحاكمة، والذي بدأ خطة تجريف الثقافة الوطنية»… وأكدوا أنهم لن يقبلوا إلا بوجود وزير يلبي طموح المثقفين.. ويؤمن بالحفاظ على قيم التنوع والمواطنة والثراء الذي كان سمة الثقافة المصرية على مر العصور». وفي الاعتصام خرجت الثقافة إلى الشارع، غناء وندوات ومناقشات وقراءات وفنونا شعبية…. وخرجت فرقة باليه القاهرة إلى الشوارع ليقدم لأول مرة ربما «أوبرا» في الشارع.. ليتحقق حلم صلاح جاهين. واستمر الاعتصام حتى رحيل ليس فقط الوزير، وإنما « الرئيس الإخواني». وربما كان هذا الفعل الثقافي أبرز أحداث العام، رغم أنه بحسب تعبير الفنان عادل السيوي كان «رد فعل» إيجابيا. لأن المثقفين «عاشوا لسنوات طويلة علي ابتزاز الجهاز البيروقراطي للدولة، وفي انتظار ثمرات بائسة منه، بل وأحيانا علي نقد هذا الجهاز لتبرير فشلهم.. ثمة حالة مرضية من التساكن بين حركة المثقفين والمؤسسات الرسمية. وبالتالي فليست هناك حركة واسعة وسط المثقفين تستطيع أن تتفق علي هدف محدد يمكن إنجازه». يضع السيوي يده هنا على أحد أمراض الثقافة المصرية التي برزت في هذا العام… وإذ لم يتم البناء الجاد على «الاعتصام» فلم تكن هناك رؤية واضحة يمكن فرضها على وزارة الثقافة…

اعتصام المثقفين طرح أسئلة هامة بعد أن تحررت مصر من حكم الإخوان، أسئلة حول استقلالية المثقف وحول دوره، وحول الرقابة أيضا… لم يكن السؤال حول منع جماعة «إرهابية» من الوصول إلى السلطة، ولكن أيضا عن تجفيف المنابع لاستئصالها من المجتمع. لا خلاف بين المثقفين على ضرورة اجتثاث الجماعة من الحياة السياسية، لكن الخلاف عن وسائل المواجهة. يرى البعض أن الحل الأمني وحده كاف لاستئصالها من المجتمع، وهي رؤية تبدو قاصرة إلى حد كبير.. قامت السلطة بتجريبها لأكثر منذ 60 عاما، ووصلت بنا إلى استلامهم السلطة لمدة عام.. الحل الأمني وحده لا يكفي، وإنما الحل الثقافي هو الضرورة، وتحديدا ما طرحه عدد من الأدباء في أقاليم مصر المختلفة في مؤتمر «المثقفين» الذي أقيم في إحدى قاعات المجلس الأعلى للثقافة، وكانت رؤية المثقفين أن تجفيف منابع الإرهاب تستلزم تخفيف القبضة الأمنية على العمل الثقافي، تحديدا في الأقاليم…. حكى عدد من أدباء الأقاليم شهاداتهم في المؤتمر، كانت الشهادات تفيض بالألم، ففي أعقاب حل جهاز أمن الدولة، توقف النشاط الثقافي في عدد من قصور الثقافة، لأن مسؤولي القصر اعتادوا الاتصال بالضابط المسؤول يعرضون عليه ما سيقيمونه من ندوات، وضيوفها. وعندما تم حل الجهاز، احتار المسؤولون إلى من يتحدثون.. وكان الحل إلغاء الندوات. ربما تكون هذه هي الخطوة الأولى التي يمكن التصدي من خلالها للأفكار الظلامية: الحرية.. ومناقشة كل الأفكار بلا حساسيات. ثم تمتد المواجهات الثقافية في كل قرية.. عبر دعم وزارة الثقافة للأنشطة المهمة لا محاربتها. ربما كان أهم انجازات الثورة مشروع «الفن ميدان» الذي ترفض الوزارة دعمه رغم أنه يخرج بالفن إلى الشارع، بعيدا عن القاعات المكيفة، وبعيدا عن الجاليرهات التي يزورها قليلون. ولا أعرف لماذا لا يمتد المشروع إلى كل محافظات مصر، وكل ميادينها، وبدعم من الوزارة التي حاولت ان تسطو عليه مقابل الدعم، وعندما رفض القائمون رفضت الوزارة دعم المشروع. أفكار كثيرة لتجفيف المنابع، لا بطريقة السلطة الثقافية السابقة، تحت شعار التنوير السلطوي الذي استدعى «الموتى» للمواجهة، ولكنها كانت مواجهة في القاعات المكيفة لا في الشارع.

سؤال الحرية

يبدو سؤال حرية التعبير.. سؤالا قدريا في مجتمعات مثل المجتمع العربي، «مساحة الحرية فيه لا تكفي كاتبا واحدا كي يبدع» كما قال يوسف إدريس ذات مرة. لكن في العام الماضي اتسع السؤال ليصبح متعلقا ليس فقط بمنع أعمال إبداعية أو فكرية من النشر أو العرض (السينمائي والمسرحي) كما جرى مع طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس.. وعشرات بل مئات آخرين في قائمة لا تنتهي.. تجاوزه إلى طرح أسئلة أخرى غير تقليدية.. مثل: أين تنتهي حرية القول… وأين يبدأ خطاب الكراهية والتحريض؟ ما هي رموز الدولة وثوابت الأمة؟ ومن يحددها؟ هل العلم والنشيد القومي رمزا الدولة؟ لكن كم مرة تم تغيير العلم والنشيد؟ هل يجوز لمؤسسات الدولة نشر أعمال «صادمة» أخلاقيا ودينيا؟ من الذي يحدد أنها صادمة أساسا؟ هل ينبغي أن يكون للأقليات (الدينية والعرقية) داخل المجتمع حصانة ضد النقد أكثر من الأغلبية؟ وهل يجوز للأقلية نقد او تفكيك مفاهيم دينية او مجتمية خاصة بالأغلبية…؟ أسئلة كثيرة لم تناقشها الثقافة العربية حتى الآن أو تتعامى عنها عمدا باسم «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»..؟ أسئلة الرقابة فجرها منع عدد من المسرحيات والأفلام، وبرنامج باسم يوسف الشهير «البرنامج».. وخاصة، لكن الأهم من ذلك كله، أن الشعار الآن: «لا رقابة»… الأفكار والخيال في الهواء.. كيف ستمنعه؟!

استعادت العديد من دور النشر عافيتها هذا العام، كان معدل إنتاج الكتب في عام 2010-2011 ما يقرب من 4300 كتاب تقريبا بحسب دراسة أجراها المركز المركزي للتعبئة والإحصاء عن النشر في مصر، وأن مجمل نسخ هذه العناوين 8.701 ملايين وبحسبة بسيطة، يصبح لكل عشرة مواطنين كتاب واحد (على افتراض ان عدد سكان مصر 85 مليونا).. هذا العام صدر ما يقرب من 17700 كتاب أي بزيادة 14 ألف كتاب عن عامين سابقين.. رغم شكوى الناشرين تقريبا من قلة النشر وغلاء أسعار الأحبار، وتوقف ناشرين مشهورين عن الإنتاج.. المفارقة أنه لأول مرة تقريبا تصبح كتب الأدب (الرواية والشعر والقصة) في المرتبة الأولى.. ثم يليها الكتب الفلسفية وعلوم الاجتماع.. وتتراجع كتب الديانات إلى المرتبة الثالثة بعد عشرات من السنوات كانت تتصدر الكتب الدينية المشهد.. بل تباع بأسعار هزيلة في اغلب الأحيان… وهو أمر لم يكن متوقعا وخاصة مع وصول جماعة الإخوان إلى الحكم في مصر. الفرق صنعه عدد من دور النشر الصغيرة التي تكاثرت في السنوات الأخيرة، ولم يعد يتحدث أحد عن مشكلة نشر، بل مشكلة جودة.

الأدب يتسيد.. إذاً، الأفكار اليقينية تتراجع ويبدأ الشك، وفي هذا دلالة كبيرة. بالتأكيد ثمة أسباب كثيرة للتفاؤل «ثقافيا».. لكن أيضا للحزن أسبابا.. إذ انتهى العام برحيل شاعر العامية الشهير أحمد فؤاد نجم أحد ابرز المدافعين في أشعاره ومواقفه الحياتية عن الحرية….

*كاتب مصري

:::::

“السفير”