البنى الاجتماعية العربية وأزمة السلطة

يزن حداد

تحدثنا في المادة السابقة حول المجتمع الآخر الممكن الذي نسعى إلى تحقيقه وآليات بنائه، ولكن انحصر ذلك الحديث حول المجتمعات التي يسودها نمط الإنتاج الرأسمالي في النصف الغربي من الكرة الأرضية بشكل خاص، حيث أن أنماط الرأسمالية المشوهة التي تسود المجتمعات العربية، والتي تمثّل جزءاً من المنظومة العالمية كذلك، تشكّل تعبيراً عن معادلة الهيمنة الجديدة التي تمخّض عنها على الصعيد العالمي مراكز، وأطراف بطبيعة الحال، مراكز رأس المال، والدول التي تدور في فلكها.

وبالتالي أصبح من الضروري التمييز بين البنى الإجتماعية العربية، بوصفها أطرافاً، وبين البنى الإجتماعية الغربية، بوصفها مراكز السيطرة، لكن ذلك لا يعني أبداً الفصل بين البنيتين وتحليل كلًّ منهما على حدا، فالرأسمالية الحديثة في منطقها الداخلي طفيليّة الطابع، لا يمكن أن تتواجد أو أن تستمر دون وجود طرف آخر يبقيها مستمرة وفاعلة في آليات الاستغلال الضامنة لبقائها، وذلك بحكم موقع هذه الأطراف كونها تمثّل الحديقة الخلفية لمراكز الأنظمة الرأسمالية (كما كان يطلق على فنزويلا قبل اعتلاء هوغو تشافيز للسلطة وبدئه بتنفيذ الثورة البوليفارية).. بمعنى أن البنيتين ليستا بنية اجتماعية واحدة، بل جزء من منظومة عالمية واحدة خلقت لنفسها مراكز وأطراف.

في طرح المشكلة

تتمظهر أزمة السلطة في المنطقة العربية، بوصفها سلطة الكومبرادور الطبقي، بفشلها في قيادة، أو حتى خلق مشروع وطني تحرري متكامل، وذلك بحكم طبيعة دورها الوظيفي كبرجوازيات تابعة لمراكز السيطرة في المنظومة العالمية، لكن ذلك لم يمنع هذه البرجوازيات التابعة من تمرير خطابات ذات طابع وطني تم توظيفها في سياق إخماد وعي التناقضات الإجتماعية لدى الجماهير التي تمّ إفقارها بفعل آليات إنتاج الفقر والتفاوت الطبقي والتي تحكم منطق السلطة القائمة، أي أن البرجوازيات المسيطرة عربياً فرضت نفسها، بعد أن تكوّنت في مرحلة ما بعد الإستعمار المباشر، من بوابة الوطنيات الزائفة التي تضمن تأبيد سيطرتها وديمومة حكمها الطبقي.

قام العديد من المنظرين العرب بصياغة أشكال مختلفة للأزمة وطبيعتها في توصيفهم بأنها أزمة “تخلف” فكري كان المسؤول عنها هو الشعوب العربية عامةً وذلك بسبب “التخلف” وحده، دون إرجاع التحليل إلى مستواه المادي التاريخي، وتارة أخرى بأنها أزمة سياسية بحتة يمكن حلّها في حدود إصلاحات شكلية وتغييرات صورية، لكن لم يتطرق معظمهم إلى شكل الصراع الطبقي في أزمة هذه السلطة البرجوازية التابعة التي تكمن أزمتها تحديداً في علاقات التبعية التي تربطها عضوياً بالامبريالية. فأصبحت الأزمة وفقاً لذلك المنطق، الذي أغفل التناقض الطبقي في الواقع العربي، سباق مسافات هدفه الوحيد هو لحاق البنى الإجتماعية العربية “المتخلفة” بالبنى الإجتماعية الغربية “المتقدمة”، وما هذا “التقدم” هنا سوى أوهام الصور الحضارية التي روّجت لها الامبريالية الرأسمالية من خلال نموذجها البرجوازي المفلس في المنطقة العربية.

وذلك يعني أن علاقات الإنتاج السائدة في البنى الإجتماعية العربية هي علاقات إنتاج رأسمالية تابعة نجمت عن التغلغل الامبريالي في المنطقة، وليست موروثاً يمكن إلغاءه عبر وضع هذه البنى على سكة اللحاق بالغرب بوصفه الأكثر “تقدماً” عن مجتمعاتنا، أي أن تكريس الخضوع لمعادلة الهيمنة الرأسمالية لا يمكن أن يكون بأي شكل من الأشكال رديفاً لمفهوم التطور على جميع الأصعدة، أو الانتقال إلى بنية إجتماعية جديدة هي بنية المجتمع الإشتراكي في إطار الحركة التصاعدية للصراع الطبقي، حيث أن التطور الوحيد في حركتها التاريخية يأتي في سياق تطور توسعي للطبقة المسيطرة ضمن إنخراطها في المنظومة الإقتصادية العالمية كطرف تابع، في ظل تفكك وإعادة إنتاج العلاقات السابقة عليها كذلك بفعل التطور التوسعي ذاته.

ولهذا تتحدد أزمة السلطة الطبقية في الفضاء العربي بأنها أزمة “برجوازيات” كومبرادورية تخضع كلياً لسيطرة قوى الإستعمار الرأسمالي وامبرياليتها، وذلك ما يحدد بدوره طبيعة الوعي الإجتماعي العربي في تفاعله المتبادل مع علاقات الإنتاج السائدة في البنى الإجتماعية بوصفها علاقات إنتاج تابعة للمنظومة الرأسمالية، وهي شكل تاريخي محدد من نمط الإنتاج الرأسمالي. بمعنى أنّ النظرة اللاتاريخية التي ترى الحاضر من خلال الماضي بأنه ليس سوى استمراراً له في حركة خطية متصاعدة، لا يمكن أن تدرك تعقيد وتشابك العلاقات الإقتصادية العالمية التي خلقت البرجوازيات العربية التابعة للمنظومة الرأسمالية في طورها الإمبريالي، وتنفي عن الصراع طابعه الطبقي، الذي أوصل السلطة بالتالي إلى أزمتها الطبقية التي ولّدت البنى الإجتماعية العربية في جدل النقائض الإجتماعية وصراعها القائم.

إذن، يُطرح في هذا السياق سؤال حول الآلية التي أوصلت البرجوازيات الغربية في تمرحل انتقالها إلى تطور القوة الإنتاجية الحالية من جهة، ومن جهة اخرى حرمان البرجوازيات العربية من ذلك الإنتقال. وتكمن الإجابة على ذلك السؤال في طبيعة هذه البرجوازيات المأزومة ومنطق تكوّنها التاريخي، حيث أن غياب البرجوازيات وتبلورها في إطار الصراع الطبقي على الرغم من توّفر الشروط المادية لنشوء هذه الطبقة، حال دون تطور القوى المنتجة في سياق الانتقال التاريخي إلى البنية الاجتماعية الاشتراكية والتي أرسينا ملامحها العامة في نقاشنا خلال المادة السابقة، وتعود بنا هذه التساؤلات إلى ضرورة التمييز بين البنى الإجتماعية المختلفة في طبيعتها الطبقية بأنها بنى إحتكارية تكرس امبريالية الدولة، أم تبعية تكرس كولونيالية الدولة، وذلك ما يدفعنا إلى طرح المشكلة وتوضيح ماهية أزمة السلطة، وتفكيك البنى الإجتماعية العربية فيما يمكّننا من تحديد شكل الصراع الطبقي الدائر بين السلطة الرجعية ونقيضها الثوري، بمعنى أن آليات النضال للوصول إلى المجتمع اللاطبقي قد تختلف ظاهرياً لكن مضمونها يبقى واحداً في طبيعة الصراع، وهو الصراع الطبقي.

وكما سبق وأن أشرنا، فإن الوجود الإجتماعي عموماً سابق على الوعي الإجتماعي، ففي فضاء العالم العربي، بوصفه جزءاً من سلسلة الأطراف الخاضعة لإمبريالية الغرب، تفرض البنى الإجتماعية الرجعية وعيها في إطار علاقات الإنتاج الرأسمالية التابعة، وهو ما يستلزم توظيف أدواتنا المفاهيمية لإدراك شكل الصراع – وليس جوهر الصراع، فهو كان وسيبقى صراع طبقات إلى أن تضمحلّ الدولة ويزول سبب وجودها ووجود الطبقات فيها – مما يعني أنّ “الطبقة الثورية، لأن صراعها الطبقي ليس مجرد رفض، تستخدم أدوات خاصة بممارستها الثورية، وهي أيضاً، في ممارسة سيطرتها الطبقية في المجتمع الإشتراكي، تستخدم سلطة الدولة البروليتارية وأجهزة القمع فيها ضد البرجوازية. بتعبير آخر، إنها تمارس العنف الثوري، من حيث هو عنف طبقي، بأدواتها هي وبمنطقها هي وبنظامها هي، من أجل القضاء على سبب وجود العنف الذي هو المجتمع الطبقي”. [1]

الصراع الطبقي والتحرر الوطني

في ضوء ما سبق من تحليل للبنى الاجتماعية العربية والسلطة المأزومة، تظهر طبيعة الصراع الطبقي في حركة التحرر الوطني من حيث أن آلية التحرر من الإمبريالية الرأسمالية تنعكس في آلية التحرر الوطني من الرأسمالية التابعة التي تجسدها السلطة في سيطرتها الطبقية، بمعنى أن حركة التحرر الوطني في البنى الإجتماعية بتبعيتها لمراكز السيطرة في المنظومة الرأسمالية العالمية تتمظهر في شكل الصراع ذاته مع قوى الإستعمار الرأسمالية، أو بلغة أخرى يمكننا القول أن التحرر الوطني في البنى الاجتماعية الكولونيالية الخاصة بمنطقتنا العربية التابعة لمراكز رأس المال، ليس مرحلة تاريخية قائمة بحد ذاتها أو أنها سابقة على مرحلة الانتقال إلى الإشتراكية والمجتمع الإشتراكي في سياق هذا الإنتقال، بل إن حركة التحرر الوطني هي هي حركة الصراع الطبقي في البنى الإجتماعية العربية وذلك بوصفها أطرافاً خاضعة لسيطرة المراكز في حدود القانون العام لمنطق البنى الرأسمالية.

ولا يمكن بأي حال من الأحوال إقامة علاقة من التماثل بين شكل الصراع في البنى الاجتماعية الرأسمالية والصراع في ظل البنى الإجتماعية العربية التابعة، حيث أن الحقل الطبقي للصراع فيها يحدد حركة هذا الصراع بأنه صراعاً طبقياً من خلال الحركة الوطنية التحررية في إطار الحركة الثورية العامة للطبقة النقيض، فالتمايز الذي أقمناه في تحليلنا بين البنيتين كونه ضروري بضرورة تحديد شكل الصراع يميّز الآلية والمنطق الداخلي الذي تتحرك وفقاً له الحركة الوطنية العربية في سياق الإنتقال الثوري إلى الإشتراكية كما سبق وأن أوضحنا، مما يعني أن “قراءة منطق الصراعات الطبقية في البنية الاجتماعية الكولونيالية، في ضوء منطق التماثل، تقود إلى نوع من عدم المعرفة، أي إلى فراغ من المعرفة يملؤه ظاهر منها هو في الحقيقة تكرار لقراءة أخرى خاصة بمنطق الصراعات الطبقية في البنية الإجتماعية الرأسمالية، فلا بد إذن، من اعتماد منطق الإختلاف في هذه القراءة. والظاهرات التي تشير في تطور البنية الإجتماعية الكولونيالية إلى واقع هذا الاختلاف كثيرة، وما الصيرورة الطبقية للطبقة المتوسطة سوى واحدة منها”.[2]. وبالتالي، تُطرح على جدول أعمالنا مسألة الانتقال إلى الإشتراكية والآلية الداخلية التي تتم بها، خاصة في ظل نمط إستثنائي من علاقات الإنتاج تتميز به الدول الناطقة بالعربية، وعلى الرغم من هذا التميّز، تبقى حركة التحرر الوطني واقفةً على أكتاف الصراع الطبقي والحركة الثورية فيه لا تنفك عنه، بمعنى أن الانتقال إلى الإشتراكية في البنى الإجتماعية العربية أصبح ضرورة تاريخية يفرضها علينا احتدام الصراع الطبقي في أعلى مراحله، في إرتباطه البنيوي بالبنى الإجتماعية الرأسمالية.. إنها مرحلة التحرر الوطني التي هي هي مرحلة الانتقال الثوري إلى الإشتراكية والمجتمع الإشتراكي في البنى الإجتماعية العربية، ولا بديل آخر عنها.. إمّا الإشتراكية، أو البربرية.

_____________________________________________________

[1] مهدي عامل / أزمة الحضارة العربية أم أزمة البرجوازيات العربية.

[2] مهدي عامل / مقدمات نظرية لدراسة أثر الفكر الإشتراكي في حركة التحرر الوطني، في نمط الإنتاج الكولونيالي.

المصدر: موقع “راديكال”