جمال محمد تقي
التحرر والوطن والوطنية اصبحت مفردات شاذة ومجتثة من خطاب القوى السياسية المتسيدة على المشهد القائم في العراق، لدرجة صارت معها المواسم الانتخابية حلبات منافسة للتخلي عنها لفظا ومعنى واستبدالها بتمترسات ومهيجات للمشاعر والضغائن الطائفية والاثنية المقرونة بممارسات انعزالية وفوضى امنية، وكل هذا لتصفير حساب الجوامع الوطنية التي تزكيها عوامل التاريخ والجغرافية والمصالح المتداخلة في العقل الباطن والظاهر للضمير الجمعي العراقي!
على قاعدة فرق تسد يحكم العراق، وعلى نفس القاعدة تخاض انتخاباته، ولا استثناء عن هذه القاعدة التي بذرها المحتل الامريكي بعد هندستها فعليا منذ نهاية حرب الخليج الاولى مرورا بالثانية التي توجت بالحرب الاحتلالية عام 2003، فبعد ان تكاملت ابعاد النهج التقسيمي والانعزالي المفروضة على الشعب العراقي من قبل الطبقة السياسية الحاكمة، وعلى كافة المستويات الفوقية والتحتية، اي منذ ان اعتبرت هوية المكون الطائفي والاثني والمناطقي هي الحجر الاساس لبناء كيان الدولة، بديلا عن المواطنة، وما تمخض عن هذا النهج الهدام من تشريعات وسياسات قلبت احوال العراقيين رئسا على عقب، وجعلتهم في صراعات وازمات مستدامة، وحولتهم الى مجموعات متناقضة تتعايش على توافقات هشة، تفرق اكثر مما تجمع، اخذت الامور منحا اخر يتجلى في دفع العراقيين الى الاعتقاد بان لا خلاص لهم من هذا الجحيم الا بتحصين جدار العزلة بين المكونات ذاتها وبالتالي تطبيع فكرة التقسيم الاداري والسياسي، وتجميل قبح التشظي بجعل الحواجز المفروضة على الاختلاط الفعال بين سكان اقليم كردستان وسكان الوسط والجنوب مثلا سببا لتحسن اوضاع الاقليم وزيادة استقراره الامني والنفسي والاقتصادي والسياسي، واصبح واقع الحال يشي بان انتقال العراقي بين وسطه وجنوبه وشماله محكوم بأجراءات شبيهة عند تنقل الاشخاص بين الدول!
ما يجري في المناطق المختلطة في البصرة والناصرية وبعقوبة وكركوك وصلاح الدين وبغداد ذاتها يكمل مسيرة التقطيع التي سار عليها حكام اقليم كردستان، حيث عمليات الفرز والتطهير، فالاقلية الشيعية في صلاح الدين، الدجيل وبلد، معرضة للتهديد والتهجير ومثلها مناطق في محافظة بعقوبة، والاقلية السنية في البصرة والناصرية معرضة لنفس التهديد كما حصل مؤخرا مع بيوتات من عشائر السعدون، وفعلا حصل ما يشبه التطهير على طول الفترة الممتدة من عام 2003 وحتى الان، اما في بغداد فالامر كان اكثر صعوبة لشدة التداخل ومع ذلك فهناك استقطاب وتطهير واعادة لرسم خريطتها السكانية على اساس طائفي ليسهل تقسيمها لاحقا اداريا ومن ثم سياسيا وبعمق متصل مع الامتدادات الاكبر، ومن هذا المنطلق يجري التعامل القهري مع سكان مناطق حزام بغداد انطلاقا من مرتكزات القسمة في المركز، فالاعظمية محاصرة من جهاتها الاربعة كما ان الكاظمية محاصرة من الغرب والجنوب والدورة منقسمة وتشهد عمليات تشذيب طائفي ويتسرب التشذيب من الاكبر للاصغر استنادا على قاعدة، ضرب الاكبر يهرب الاصغر، ونفس الشيء ينطبق على مناطق الاطراف في ابو غريب، والراشدية، والمحمودية، واليوسفية، وعرب جبور، والمدائن!
قرار تقسيم دائرة الاوقاف الاسلامية بين اوقاف سنية واخرى شيعية، بعد ان كانت موحدة بوزارة تجمع كل شؤون الاوقاف الاسلامية وغير الاسلامية، كان مدخلا لاثارة موجة عنف بين المستثمرين من كلا المذهبين، مازالت متعلقاتها سارية المفعول، حتى ان الوقف السني اعلن عن غلق كل حصته من الجوامع والمقامات في محافظة البصرة كنتيجة لتعرضها وزوارها لاعمال شغب واعتداءات وارهاب، ومازال هناك اخذ ورد على مرجعية ادارة مرقد الامامين العسكريين في سامراء ذات المذهب السني!
القرار اعلاه يتعايش مع روح مقترح لقانونين جديدين تقدم بهما وزير العدل المنتدب من حزب الفضيلة المنتمي للتحالف الشيعي الحاكم، السيد حسن الشمري، الاول يقضي بتشكيل مجلس اعلى للقضاء الجعفري اعتمادا على فقه الشيعة الامامية الاثنى عشرية، والثاني تشريع قانون بالاحوال الشخصية خاص بالمذهب الجعفري، يعني بشؤون الزواج والطلاق والحضانة والارث وما لف لفها!
يتخذ سيادة وزير العدل من النصوص الدستورية منطلقا للدفاع عن قانونه الجديد الذي لقي استغرابا وتهكما من الكثير من الفعاليات المستقلة ومن وسائل الاعلام المناهضة للحس الطائفي، بل وحتى شجب ومعارضة معلنة من اعضاء ووجهاء في التحالف الشيعي، كما هو الحال في موقف السيد امير الكناني نائب رئيس اللجنة القانونية في البرلمان العراقي عن التيار الصدري، ناهيك عن موقف القائمة العراقية التي عبرت عنه ميسون الدملوجي قائلة : نحن نرفض تمرير قانون ينتقص مكاسب الحياة المدنية للاسرة والمرأة العراقية المجسد بالقانون الساري الصادر عام 1959 والذي يعزز لحمة الاسرة ويضمن الحد الادنى من حقوق المرأة العامة والخاصة بعيدا عن اي محددات طائفية واثنية، انه قانون وطني يمكن تعديله وتطويره وليس التخلي عن ايجابياته لمصلحة قانون طائفي وبشبهة انتخابية تقهقرية!
يقول احد العراقيين الشيعة معلقا على خبر هذا القانون الجديد : ان القانون المسن عام 1959 كان يتيح للعراقي ان يتزوج وفقا لاي مذهب يشاء، ولا يوجد قاض قد اجبر زوجين على تسجيل عقد زواجهما على مذهب غير ما يريدان، وطوال تلك السنين في دولتنا المدنية، التي اتضح انها كافرة بحسب اجتهادات الاحزاب الحاكمة، وما يعنيه هذا القانون اخطر من مجرد ضياع حقوق المرأة في دهاليز فقه الطوائف والاثنيات، حول شروط التزويج والتطليق والحضانة والتوريث وضمانات عدالة الاحكام المستحقة بشأنها، الاخطر هو ما سيتبعه من تشكيل مجلسين للقضاء سني وشيعي، وربما وزارتين للعدل سنية وشيعية، ومن ثم تقسيم القضاء طائفيا بعد ان قسم قوميا، فالقوانين والقضاء في اقليم كردستان مستقلة، والدليل ان قانون الاحوال الشخصية السارية المفعول في الاقليم مختلفة ومتجاوزة بمدنيتها لقانون الاحوال الشخصية الساري حاليا في بغداد!
قائمة دولة القانون التي يقودها نوري المالكي تدافع عن فكرة المقترح وهي لا تريد الظهور بمظهر المعرقل لتحقيق اي مكاسب شيعية مفترضة من وراء تمرير هذا القانون، خاصة وانها تدفع باتجاه اثارة غبار الاصطفافات الطائفية والاثنية في مرحلة ماقبل الانتخابات العامة والمقرر اجرائها في نيسان القادم، لالهاء الرأي العام بامور اخرى، للتغطية على الانتكاسات الامنية المتلاحقة وغض الطرف عن الشلل الصارخ في جسد العملية السياسية القائمة برمتها، حكومة وبرلمانا ورئاسة، وتحميل الاطراف الاخرى مسؤولية الفشل الشامل في التصدي للفساد وفي التردي المزمن للخدمات العامة، فهذا حسن الياسري عضو مجلس النواب عن دولة القانون لا يجد في مقترح القانون غير تطبيق كامل لبنود دستورية واجب تفعيلها!
بمبادرة من خضير الخزاعي نائب رئيس الجمهورية وحليف نوري المالكي المعتمد وقع قبل فترة ممثلي زعماء المحاصصات الطائفية والاثنية في العراق على وثيقة شرف للسير في طريق السلم الاجتماعي وحل الخلافات السياسية بالحوار الديمقراطي، والتمسك بالتداول السلمي للسلطة عبر توفير الاجواء المناسبة لتنفيذ الاستحقاقات الانتخابية المقبلة،، لم يجف حبر ما وقعوا عليه حتى تصاعدت موجة التصعيدات الطائفية والاثنية، امنيا واعلاميا وسياسيا، ومن شخوص من مثلوا في هذا الاجتماع ذاته، فالمالكي يشدد من قبضته الامنية على المناطق السنية بذريعة التحوط الامني والبرزاني يرفض التوافق على القانون الانتخابي الحالي داعيا لزيادة اعداد المقاعد المخصصة للمحافظات الكردية، والقائمة العراقية تشكك بنوايا المالكي وتعتبر حكمه عبارة عن سلسلة متصلة من الاخفاقات، وتحمله المسؤولية الكاملة عن التردي السائد، وزير العدل يفجر ازمة جديدة من خلال تقديمه مشاريع لقوانين طائفية لا تغذي الا منطلقات اعداء السلم الاجتماعي في العراق.
المالكي يؤكد بمجمل تحركاته بما فيها تفاهماته المنجزة في زيارتيه الاخيرتين لواشنطن وطهران، على اهمية كسب رضى ايران وامريكا لاستمرار حكمه كحل وسط، فهو يخشى من اي تغيير في وجة التوافق على حكمه، وهاجس القلق من عدم حصول قائمته على الاغلبية التي تتيح له مواصلة الحكم لفترة ثالثة يسيطر على تلك التحركات، ويبدو انه عازم على الدفع بأختلاق مبررات جديدة لاطالة فترة حكمه بالانتخابات او بغيرها، بدعم ايران التي تجد فيه ورقة قادرة على لعب دور البديل في حالة سقوط سوريا بايدي الجماعات السنية المتشددة، وبتجاوب امريكي لغياب البديل، وعليه سنجد بينه وبين النجيفي والبرزاني تناغما مشحونا بالازمات، وتوافقا على التحاصص المتبادل، ومعنى هذا ان العراق سيشهد المزيد من التوترات التي لا يدفع ثمنها سوى المواطن العراقي، حتى موعد الانتخابات القادمة التي ان حصلت وبالمعطيات الحالية فانها ستشكل جرعة جديدة للتهتك المجتمعي والانحدار المدني!