توفيق المديني
بعد أن تمت مناقشة قانون المالية في المجلس الوطني التأسيسي في الفترة الأخيرة، الذي أثار موجة من الاستياء العام لدى كافة الطبقات و الفئات الاجتماعية، انفجرت الأوضاع في مختلف المدن التونسية، لا سيما في الولايات الفقيرة و المهمشة تاريخياً، تنديدا ً و احتجاجاً على قانون ميزانية الدولة للعام الحالي و بسبب غلاء المعيشة وانهيار القدرة الشرائية للمواطن. فقد اجتاحت موجة من العنف والمواجهات بين المحتجين وقوات أمن غالبية المدن التونسية يوم الإربعاء 8يناير الجاري ، خلال احتجاجات شعبية على ضرائب جديدة فرضتها الحكومة التي تقودها حركة “النهضة” الإسلامية.
لقد انطلقت حركة الاحتجاجات الشعبية ، خلال الأسبوع الماضي، من مدينة القطار في ولاية قفصة في جنوب غربي تونس، حيث أقدم عدد من شبان المنطقة على إحراق العجلات وإغلاق مداخل الجهة احتجاجا على غلاء المعيشة وعلى التعيينات الأخيرة في “شركة فسفاط قفصة”، وهي أكبر شركات استخراج الفسفاط في شمال أفريقيا.ثم عمت الاحتجاجات بقية المدن التونسية، من الشمال الغربي ، إلى الأحياء الشعبية و الفقيرة المتاخمة لتونس العاصمة ، مرورا بمدينة القصرين في الوسط التونسي ، التي انطلقت منها شرارة الثورة التونسية قبل ثلاث سنوات ، حيث خرج المحتجون في مسيرات غاضبة، حاصروا مقر حركة “النهضة” الإسلامية، ثم تمكنوا من إقتحامه وحرقه بالكامل.ورغم أن قوات الأمن كانت تحمي هذا المقر، واستخدمت القنابل المسيلة للدموع والرصاص المطاطي إبعاد المتظاهرين ، فإنها لم تتمكن من الصمود أمام الحشود الغاضبة، حيث انسحبت من المكان قبل أن يتم اقتحام المقر وحرقه.ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن حرق مقرات حركة” النهضة “الإسلامية تكرر خلال الأشهر الماضية في عدد من المدن التونسية، وذلك تعبيراً على غضب المواطنيين من أداء هذه الحركة التي تقود الإئتلاف الحاكم في البلاد.
ففي معظم المدن التونسية المنتفضة ، كان المتظاهرون يشتكون من تواصل تهميش الولايات الفقيرة وعدم تخصيص اعتمادات في ميزانية التنمية للعام 2014 لبعث مشاريع تنموية تشغل الناس العاطلين عن العمل ، إضافة إلى مطالبتهم بإلغاء الضرائب المقررة والتخفيض في الأسعار، وتوجيههم الاتهام لحركة “النهضة”، بإقرار ضرائب تعجيزية للمواطنين في إطار إيجاد موارد لـ”صندوق الكرامة”، الذي استحدثته حركة “النهضة” لتعويض مساجينها السياسيين.
وكان الاتحاد العام التونسي للشغل القائد للرباعي الراعي للحوار الوطني ،والحاضن الاجتماعي تاريخيا ً لكل أطياف المعارضة التونسية من أقصى اليسار إلى الإسلاميين مرورا بالقوميين، قد وضع كل ثقله في هذه الاحتجاجات ، عندما أصدر بياناً يوم الإربعاء 8يناير الجاري، أكد فيه رفضه لميزانية العام الحالي، معتبراً أنها لا تستجيب لمطالب الشرائح الضعيفة والمتوسطةمن الشعب التونسي . كما عبر “اتحاد الفلاحين” أيضا عن رفضه لهذه الإجراءات التي أقرتها الدولة بحق الفلاحين، فارضة ضرائب عالية على صغار الفلاحين، ما أثقل كاهلهم خاصة بعد سنة شحيحة في الإنتاج.أما “حركة النهضة” فقد ردّت على احتجاج المواطنين ببيان أصدره زعيمها الشيخ راشد الغنوشي، يوم الإربعاء الماضي ، حيث عبر عن تفهمه لهذه الاحتجاجات، مشددا على أنها رفض للإتاوات والضرائب.بدوره، عقد وزير المالية إلياس فخفاخ، المنتمي لـ”حزب التكتل” شريك “النهضة” في الحكم، ندوة صحافية طارئة، يوم الإربعاء الماضي ، عبّر فيها عن استيائه من هذه التحركات، معتبراً أنّ ما يروج عن قانون المالية محض مغالطات.
المتابع للأوضاع التونسية، يلمس بوضوح أن هذا البلد العربي الذي فجر ربيع الثورات العربية في شهر يناير 2011، لا يزال يعيش حالة من الغليان الثوري على الصعيد الاجتماعي ، و السبب في ذلك أن حكومة حركة “النهضة” التي استلمت السلطة في شهر نوفمبر 2011،استمرت في اتباع نهج الليبرالية الاقتصادية الذي كان سائداً في مرحلة ما قبل الثورة. فإلى جانب الثروات التي جلبتها العولمة الليبرالية، التي انخرطت فيها تونس منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي، والتي استفادت منها الطبقة المتوسطة الاستهلاكية بسبب التوسّع في سياسة الإقراض لشراء السيارة والمنزل، حلّ في المقابل الفقر والبطالة ليهمّشا محافظات تونسية بأكملها من جراء انتهاج سياسات تعمق حجم الاختلال التنموي بين الجهات والمناطق.
و كان نظام بن علي البوليسي يفاخردائماً بأن الطبقة المتوسطة تبلغ 80في المئة من مجموع الشعب التونسي، لكن دراسة للبنك الدولي تحدثت عن 47 الى 48 بالمئة باعتبارها نسبة الطبقة المتوسطة من مجموع الشعب.وهذا الرقم (47 – 48 بالمئة) ليس رقماً سلبياً على أي حال.ويأتي توسع و تضخم هذه الطبقة المتوسطة الاستهلاكية التي تمثل نصف البيئة الاجتماعية التونسية، في سياق انخراط تونس في إطار العولمة الليبرالية ، و الدعم الغربي القوي للتجربة التونسية من خلال تدفق القروض على تونس من بنك الاتحاد الأوروبي ،وكذلك تسارع رؤوس الأموال الغربية والخليجية على الاستثمار في تونس،الأمر الذي أسهم في زيادة معدلات التنمية في تونس أعلى نسبيا مما هي عليه في البلدان العربية المجاورة.
و إذا كانت فترة الليبراليّة في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي ، قد خلقت بضعاً من طبقة متوسّطة استهلاكيّة، فإنها فشلت في تحقيق قفزة في النموّ الاقتصاديّ، لدرجة أنّ معدّلات النموّ كانت وسطيّاً أعلى في الفترة التي سبقتها. وإن كانت هذه الفترة قد فاقمت البطالة والفقر في الولايات المهمشة في الشمال الغربي، و الوسط ، و الجنوب التونسي ، وعمقت الفورق الاجتماعيّة، لدرجة أنّ هناك ناسٌ يموتون في قورابٍ أو شاحنات بحثاً عن هجرةٍ إلى الشمال. ليس فقط فلاّحون قحلت أرضهم، بل أيضاً جامعيّون. وإذا كان أهمّ إيراد للطبقات الفقيرة هو تحويلات العمّال المهاجرين. فماذا يمكن أن تقدّمه حكومة حركة النهضة الإسلامية الحاكمة إلى الشعب التونسي عامة ، و الولايات الفقيرة خاصة ، في زمن أزمة تشتدّ استعاراً؟
في زمن الثورة ،الحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة لها الأولويّة، وهذه الحقوق لا تُعطى، بل تؤخذ عبر النضالات على الأرض، من قبل من تردّت كثيراً أوضاعهم الاجتماعيّة، وأيضاً ذلك الجزء من الطبقة المتوسّطة الذي يخسر اليوم ما أكسبه أيّاه زمن الانفتاح. وهذه النضالات تتطلّب إمكانيّة، بل حريّة التظاهر والإضراب والاحتجاج. ولكن كذلك هذه الحريّات لا تمنح، بل تؤخذ.
تونس تعيش بوادر انتفاضة اجتماعية جديدة تنخرط فيها معظم الطبقات و الفئات الاجتماعية الشعبية على خلفية مناهضة قانون الميزانية الجديد، و تدهورالقدرة الشرائية للمواطن.فهاهو البعد الاجتماعي الذي كان المفجر الرئيس للثورة التونسية ، يعود من جديد في زمن حكم الإسلاميين.فقد أبصرت الثورة قبل ثلاث سنوات النور من الريف التونسي، وتحديداً من المحافظات المحرومة والمهمشة تاريخياً التي تقع في الوسط الغربي (سيدي بوزيد والقصرين) باعتبارها كانت تمثل تاريخياً مركز القبائل العربية (الهمامة والفراشيش وماجر)، التي أطاحت البربر في القرن الحادي عشر، وفجرت ثورة شعبية قادها علي بن غذاهم ضد نظام «الباي» المتسلط في سنة 1864.وعندما أدرك الباي قرب انتهاء سلطته أعلن رضوخه للمطالب. ولم تكد الحركة الشعبية تتراجع حتى أرسل الباي الجنرال زروق لتصفية الثائرين، وأعدم القيادي علي بن غذاهم.
وتنسج سلطة القبائل هذه الموروثة من تاريخ تونس الطويل، حتّى قبل الوجود الفرنسي في البلاد (1881-1956)، شبكةً من العلاقات الاجتماعية في مناطقٍ مختلفة. وقد كان لهذه الشبكة القبلية فعلها في الثورة التونسية الحديثة التي انطلقت من محافظتي سيدي بوزيد والقصرَين وتالة.
هذا الأمر مفهوم، لأن النخبة السياسية – الإدارية المسيطرة على مجموع الدولة- الحزب الواحد بقيادة الحبيب بورقيبه، والتي نقلت تونس من حكم القبائل إلى الدولة الحديثة، لم تكن نخبة ثورية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولم تتحرر هي أيضا من منبت “عصبيتها” الساحلية، إذ ركزت التنمية في المناطق الساحلية الشرقية مثل (المنستير وسوسة والمهدية،وصفاقس) ،كما في الشمال (بنزرت) ، أي في المناطق ذات التقليد التجاري الكبير،حيث تترجم في المقابل أسماء العائلات والانتماءات الاجتماعية الدور الرئيسي للروابط المهنيّة القديمة.وأهملت السلطة التونسية العديد من المحافظات الداخلية الواقعة في الوسط الغربي ، و الجنوب.
إنها الخاصية التي تتميز بها تونس المنقسمة مناطقيا(جهوياً)ً، والخاضعة لقانون التطور اللامتكافىء على صعيد التنمية، وعلى صعيد التوزيع غير العادل لفوائد النمو والتنمية، بين المناطق الشرقية، الواقعة على الشريط الساحلي، والمناطق الداخلية، إذ ظل هذا التفاوت الموروث من فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1956 – 1987) يتعمق طيلة العقدين الماضيين. وبهذا المعنى نفهم لماذا انطلقت هذه الثورة الاجتماعية غير المسبوقة من الوسط الغربي، وانتشرت أساسا في المناطق المحرومة التي تُعاني من التهميش. وفي أجواء الشعور بالحيف الجهوي والغبن الساري بين أبناء تلك المحافظات المنسية، ترعرعت مُسوغات التمرد الجماعي، الذي لم يكن ينتظر أكثر من عود ثقاب، سرعان ما قدحه الشاب بوعزيزي بإقدامه على فعل تراجيدي شديد الرمزية، مكثف الدلالة، بعيد الصدى.
الولايات الفقيرة و المحرومة التي انطلقت منها الثورة ، هي نفسها التي انطلقت منها الجماهير الشعبية الغاضبة في عهد حكم “النهضة”، لا سيما جماهيرالفلاحين الفقراء المستائين من عدم تشريكهم في حلحلة الوضع السياسي في البلاد في أكثر من مناسبة والذين يتهمون حكومة “النهضة”بممارسة سياسة الإقصاء ضدهم رغم أنهم كانوا وقودا للثورة بالجهات المحرومة وحرصوا على تزويد البلاد بالمواد الغذائية في أصعب فترات الثورة ولازالوا .وتتمثل مطالب الفلاحين من الحكومة بالزيادة في الأجور لأن رزقهم على الله ولم يطلبوا امتيازات جبائية اعترافا بمجهوداتهم الجبارة قبل الثورة وأيام الثورة كما أنهم حريصون على المطالبة بحقوقهم بطرق سلمية لاسيما منها تسوية ملف المديونية.
صحيفة الشرق، تيارات، السبت 11 جانفي 2014