عن الذي جمَعَني ونوال السَّعداوي في كتاب

عايدة الجوهري

توغَّلت نوال السّعداوي في أدغال اللا مُباح والمحظور، المسكوت عنهما، وفكَّرت في ما لا يُفكَّر فيه، واضعة نصوصها الجريئة، على تماس مع ثالوث المحرَّمات العربية الشهير: الدِّين والسياسة والجنسانية، من دون تردد أو وجل.

أنا من اللواتي لا يتنكَّرْنَ للأثرِ العميقِ، الذي تركتْهُ نوال السّعداوي في عقولهنَّ ووجدانهنَّ، للصَّدمةِ الإيجابيةِ التي أحدثَتْها، خلافًا للَّواتي يخفنَ لسعَ جرأتِها، وجسارتِها على التوغُّلِ في المناطقِ الممنوعةِ من التَّفكيرِ، فما بالُكَ، بالمناقشةِ والتحليلِ والنَّقضِ، والعلانيةِ، وخلافًا كذلك للَّواتي يَحرصنَ على صورتهنَّ التَّسوويةِ، المهادنة.
قرأتُها في عُمرٍ مبكرٍ، اختلسْتُ كتبَها من مكتبةِ العائلةِ، عزَّزَتْ فيَّ، بالإضافة إلى مرجعيَّاتٍ ثقافيةٍ أُخرى، جذورَ التّمرُّدِ، بلورتُها وسوَّغتُها.

فثمَّةَ حَبلٌ سريٌّ، غيرُ مرئيٍّ، يشدُّكَ إلى الذي يُدرِّبُكَ على بناء تمرُّدِكَ، على أسسٍ معرفيَّةٍ، فالتَّمرُّدُ يُطلِقُ سِراجَ العقلِ والوجدانِ والخيالِ، ومِن حريَّةِ العقلِ والوجدانِ والخيالِ الإبداعيِّ طبعًا تتناسلُ سائرُ الحريَّاتِ. علَّ هذا الحبلَ السريَّ، هو فرحُ التمرُّدِ الذي يزرعُه فينا المتمرِّدونَ في التاريخ البشريِّ عمومًا.
فالتَّمرُّدُ كأسلوبٍ للتفكير والحُكمِ والشُّعورِ والتَّخييلِ، ينطلقُ من فكرةِ أنَّ الطَّاعةَ المطلَقةَ للسَّائدِ، هو إنكارٌ للعقلِ، كأداةٍ للفهمِ والتَّمييزِ والتَّحليلِ والاستنباطِ، وإغفالٌ للإرادةِ البشريَّةِ الحُرَّةِ، وللأنا الفريدةِ المستقلَّةِ، فالإنسانُ يجدُ نفسَهُ أمام خِيارَينِ لا ثالثَ لهما: إمَّا العبوديَّةُ وإمَّا الحريَّة.
في ستِّينياتِ القرنِ الماضي، جاءَت نوال السّعداوي بلُغةٍ جديدةٍ، وكلامٍ جديدٍ، وموضوعاتٍ جديدةٍ شائكةٍ، تُدمي أصابعَ مَن يكتبُ فيها، خاضَتْ في دلالاتِ عادةِ الختانِ وفظاعتِها، في أصلِ البَغاءِ وفصلِهِ، في مفهومِ العُذريَّةِ، وإشكاليَّاتِهِ، في مظلوميَّةِ الأطفالِ اللُّقطاءِ، في تداعياتِ مؤسَّسةِ الحجابِ، في مسألةِ تنظيمِ النَّسْلِ، في مفهومِ الزَّواجِ التَّقليديِّ، في قضيَّةِ تَعدُّدِ الزَّوجاتِ، في قوانينِ الأحوالِ الشخصيَّةِ عُمومًا، في حيثيَّاتِ خطِّ النَّسَبِ الأبويِّ، وإنكارِ خطِّ النَّسَبِ الأموميِّ، في مفاهيم الأنوثةِ والذكورةِ، وتعقيداتِها، في مقولاتِ الرُّجولةِ الحقَّةِ وعَلاقتِها بمفهومِ الشَّرفِ، في صحَّةِ المرأةِ العربيَّةِ، البدنيَّةِ والعقليَّةِ والنفسيَّةِ، وغيرِها من الموضوعاتِ الجوهريَّةِ التي عالجتْها في نصوصِها البحثيَّةِ والأدبيَّةِ.
هذا التَّنوُّعُ في الوحدةِ، وهذه الغزارةُ الفكريَّةُ والإنتاجيَّةُ، حوَّلا نوال السّعداوي إلى مرجعيَّةٍ متعدِّدةِ الأبعادِ. إلى مؤسَّسةٍ ثقافيَّةٍ، وفي حفريَّاتِها المعرفيَّةِ اعتمدَتْ مصادرَ ومناهجَ متنوِّعةً. استثمرتْ في علومِ الطبِّ والنّفسِ والاجتماعِ والإنتربولوجيَةِ وعرَّجَت في مسارِها على الفلسفةِ، ولتجسيدِ مشروعِها الفكريِّ الإبداعيِّ، زاوجَت بين الدِّراساتِ العلميَّةِ والأنواعِ الأدبيَّةِ المختلفةِ، كتبَتِ القصَّةَ القصيرةَ، والرِّوايةَ، والمسرحيَّةَ، والمذكِّراتِ، وأدبَ الرَّحلاتِ، والمقالةَ، حتَّى ناهزَتْ كتبُها الخمسينَ.
بهذه الخِياراتِ، خرجَتْ نوال السّعداوي عن منهجِ التَّوفيقِ بين الأفكارِ الموروثةِ والأفكارِ المُعاصرةِ، أي أنَّها لم تسْعَ إلى إعطاءِ مشروعيَّةٍ معاصرةٍ لأفكارٍ قديمةٍ، كما فَعَلَ معظمُ من سَبَقَها، من المفكِّراتِ والمفكِّرينَ النسويِّينَ، اضطلعَتْ بما تجوزُ تسميتُه بالقطيعةِ المعرفيَّةِ معَ الموروثِ، وانحازَتْ بكتاباتِها إلى مبادئ الملاحظةِ والمشاهدةِ والتَّجريبِ والسَّببيَّةِ، أي للواقعِ، وقاربَت هذا الواقعَ على ضوءِ القيمِ التنويريَّةِ الإنسانويَّةِ، التي تقولُ بأنَّ الإنسانَ، ذكرًا أم أنثى، هو غايةٌ بحدِّ ذاتِه، وبأنّه ذاتٌ مستقلَّةٌ، وحرَّةٌ، وقيمتُه مطلقةٌ، وكرامتُه كذلك، وبما أنّه كذلك، يُفترَضُ أن تتساوى حقوقُه وفُرصُه، بحقوقِ وفُرصِ أيِّ إنسانٍ آخَر، ولكنَّها توجَّسَت منَ النّهجِ الذي يُبالغُ في التَّأكيدِ على مركزيَّةِ الإنسانِ الفردِ، فاختارَتِ النَّهجَ السياسيَّ الذي يُخفِّفُ من غطرسةِ الفردِ وغيِّهِ، لمصلحة الجماعة.
لذا، ناصرَتِ الفقراءَ والمهمَّشينَ والمضطهَدينَ، فتحوَّلَت إلى “ثورةٍ دائمةٍ” سبقت ثورةَ “25 يناير” بعقودٍ، بل بنصفِ قرنٍ.
وفي جميعِ الأحوالِ لم تُعالجْ نوال السّعداوي قضايا المرأةِ العربيَّةِ كقضايا منفصلةٍ عن قضايا الرَّجلِ، أو المجتمعِ بأكملِه، فقضاياها تقعُ في صميمِ سؤالِ الدِّيموقراطيةِ، وسؤالِ التَّنميةِ، وسؤالِ العدالةِ الاجتماعيةِ، وسؤالِ التَّناقضاتِ، فانتفضَتْ ضدَّ كلِّ العهودِ السياسيةِ المِصريَّةِ، بدءًا من حُكمِ الملكِ فاروق حتَّى حُكم «الإخوانِ المسلمينَ» الخاطفِ، ولا أستبعدُ أن تكونَ متحفِّظةً على حُكم العسكرِ، وعلى الدُّستورِ الجديدِ، الذي لا يُشبهُ في مطارحَ عديدةٍ، الرُّوحَ التَّجديديَّةَ للثَّوراتِ، ولروحِ “ثورة 25 يناير” العميقة بالذات.
… نعم، انتفضَت نوال السّعداوي ضدَّ الاستبداد السِّياسيِّ، واعتقالِ الأفكارِ والطُّموحاتِ والمشاعرِ، وضدَّ الفسادِ على أنواعِه، وضدَّ قهر الفقراءِ، والكادحينَ، والضُّعفاءِ، وقليلي الحيلةِ، وكلَّفَها تمرُّدُها أثمانًا باهظةً، سُجِنَت وهُدِّدَت بالقتل، وضعها «الإخوانُ المسلمونَ» على لوائحهم السَّوداءِ، وقوطعَت وحوصرَت ثقافيًّا، وتواطأت على عقابِها الأجهزةُ السِّياسيَّةُ والدِّينيَّةُ والثَّقافيَّةُ، على حدٍّ سواء.
في المحصِّلة، توغَّلَت نوال السّعداوي في أدغالِ اللامُباحِ والمحظورِ، المسكوتِ عنهما، وفكَّرَت في ما لا يُفكَّرُ فيه، واضعةً نصوصَها الجريئةَ، على تماسٍ معَ ثالوثِ المحرَّماتِ العربيَّةِ الشهير: الدِّين والسِّياسة والجنسانيَّة ـ أُفضِّلُ استعمالَ مصطلحِ “جنسانية” لأنَّ دلالتَه أشدُّ تركيبًا وشموليَّةً من الأوَّلِ المعهودِ ـ توغَّلَتْ في هذه المناطقِ المحرَّمةِ، من دونَ تردُّدٍ أو وجلٍ، لأنّها تفترضُ ضمنًا، كما نفترضُ نحنُ أيضًا، أنّ مَن يملكُ أفكارًا تغييريَّةً، لا يجرؤُ على الإفصاحِ عنها، خوفًا من ردودِ الفعلِ السَّلبيَّةِ، يُساهمُ في ديمومةِ الأمرِ الواقعِ، ولا يتميَّزُ بشيء عن أولئكَ الممتثلينَ لهُ، أو المتواطئينَ معَه، فالكتاباتُ التي من طينةِ كتاباتِ نوال السّعداوي تحرِّضُ على الاستنتاجِ أنّ كلَّ كتابةٍ، لا تتسلَّلُ إلى المسكوتِ عَنهُ، واللامُفكَّرِ فيه، هي بمثابةِ تمارين على التَّقليد والطَّاعةِ.
ومن جهةٍ أخرى، غاصَت نوال السّعداوي في مواجع المرأةِ المِصريَّةِ خصوصًا، سردَت وقائعَ عذاباتِها، وأشكالَ انتهاكِ جسدِها وعقلِها وروحِها، غير أنَّ وراءَ هذا السَّردِ، المُشبَعِ بالتَّحليلِ، تراءَتْ وقائعُ عَيشِ معظمِ النِّساءِ العربيَّاتِ، لأنّ البُنى المؤسِّسةَ للتَّمييزِ، هي عينُها، وإن اختلفَت الإستراتيجيَّاتُ والآليَّاتُ، لذا تماهتْ معَها ملايينُ النِّساءِ العربيَّاتِ، وأضحَتْ رَمزَهنَّ.

بعدَ هذا العرضِ البانوراميِّ لمسيرةِ نوال السَّعداوي الفكريَّةِ والنِّضاليَّةِ، حان الوقتُ، كي أنتقلَ إلى كتابِنا المشترَكِ، “نوال السَعداوي وعايدة الجوهري في حوارٍ حولَ الذُّكورةِ والأنوثةِ والدِّينِ والإبداع”*.
سواء كانت فكرةُ هذا الكتابِ، مختلفةً أم لا، جديدةً أم لا، هي وُلدَتْ ذاتَ ليلةِ صيفٍ لبنانيَّةٍ، من رَحِمِ أحاديثَ ثنائيَّةٍ، وجدناها جديرةً بالتَّوثيقِ، فاتَّخذْنا قرارَ استئنافِها وتحويلِها إلى كتابٍ حواريٍّ. ولأنَّ نوالَ السّعداوي كانت على سَفَرٍ، قصدْنا في اليومِ التَّالي شركةَ المطبوعات للتَّوزيع والنَّشر، ناشرةَ هذا الكتاب، التي تبنَّتِ المشروعَ وواكبَته حتَّى النِّهاية.
كانتِ الغايةُ الأولى من حواراتِنا هي التَّفكيرَ معًا والتساؤلَ معًا، في قضايا لا تزالُ قيدَ النِّقاشِ والأخذِ والردِّ، والحيرةِ، فوظائفُ الحوارِ، لا تنحصرُ في “حلِّ النِّزاعاتِ”، كما عهدناها في لبنانَ، غير أنَّنا، وإن اتَّفقنا على توصيفِ المشاكلِ والإشكاليَّاتِ، معظمَ الوقتِ، اختلفنا على نوعيَّةِ المقارباتِ والافتراضاتِ بعضَ الوقتِ. ففيما بَدَت لي مثلاً بعضُ الافتراضاتِ غيرَ محسومةٍ ولا صالحةٍ للاختبارِ والشَّكِّ، لم تبدُ كذلكَ لنوال السَّعداوي، أو العكس، وفيما بدَت لي بعض طُرُوحاتِ نوال السَّعداوي متطرِّفةً ومغاليةً، بدَت لها هذه الطُّروحاتُ بديهيَّةً ومنطقيَّةً.
وشئنا أن تكونَ حواراتُنا منظَّمةً، محدَّدةَ البنيةِ، غيرَ مبعثرةٍ، ولكن طليقةً، صريحةً، تلقائيَّةً، فأدرجناها تحتَ عناوينَ شكَّلَت مفاصلَ أساسيَّةً في مشروعِ نوال السّعداوي، وهي عناوينُ، تنهضُ عليها عادةً معظمُ المشاريعِ النسويَّةِ، وأعني مفاهيمَ الذُّكورةِ والأنوثةِ وما تُمليهِ هذه المفاهيمُ من أدوارٍ جندريَّةٍ وجنسانيَّةٍ مخصوصةٍ، وعَلاقةَ هذه المفاهيمِ والأدوارِ بالدِّينِ والإبداعِ.
هكذا بدأَ كِتابُنا المشتركُ، الذي أُنجزَ بشغفٍ كبيرٍ، هو شغفُ الأسئلةِ التي يُفترَضُ ألاّ تستكين.

*صادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر 2013.

:::::

“السفير”