عادل سمارة
قد يكون للوسطية مناخاً أو معنىً أو خطراً اقل في لحظات الهدوء أو تجاوزاً (السلام-إن وُجد) في عالم راس المال بتمفصلاته الغربية المتقدمة أو الريعية المتخلفة. ولكن وقوف الوسطيين أو طرحهم الحيادية أو الوعظ في لحظة أشد هجمات الثورة المضادة يطرح تساؤلات مُرَّة ويوجب الحذر منهم وتفنيد مواعظهم.
ربما كان “المنافقون” هم أقدم تيارات الوسطية في التاريخ الذي نعرفه نحن على الأقل. فهم الذين كانوا يقولون للرسول تبريرا لعدم المشاركة في الحرب” …إن بيوتنا عورة”، وترد الآية الكريمة: “…وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا”. وفي حقيقة الأمر هم كانوا ضد الرسول ورسالته أكثر مما أنهم يريدون فراراً، اي بمفهوم العصر هم مع الثورة المضادة.
في تاريخ البلاشفة كان هناك كذلك وسطيينCentrists . كانوا ضد لينين في “المركزية الديمقراطية”، وكانوا مع تروتسكي فقط لأنه ضد ستالين، كانوا يعشقون رفض العنف ويمكن وصفهم اليوم بجماعات حقوق الإنسان. ولا غرابة أن سليلهم اليوم هو حزب العمال البريطاني الذي يتلفح بالديمقراطية ويمارس إعادة الاستعمار باشد دموية.
هناك شريحة من اليسار الفلسطيني نموذجاً على الوسطية، وهي كذلك تلفيقية، أو ربما لذلك السبب تلفيقية تجمع بين بقايا خطاب ماركسي، وبين شوفينية فلسطينية تناقض العروبة، وحينما اتسع نطاق قوى الدين السياسي اضافت تطعيمات “إسلاموية” وحين بدأت إرهاصات الحراك العربي وقفت معها ضد الأنظمة قومية الاتجاه وتحديداً ضد سوريا إلى أن وصل وضوح الوضع السوري درجة أربكت تلطيها بالماركسية والفلسطنة والدين السياسي فأخذت تتلوى على غير اتجاه كأفعى ضُرب رأسها.
كي لا أُطيل، تقوُّلي هذا تولَّد بعد قراءة حديث ل د. حسين ابو النمل في مركز الزيتونة الذي يديره د. محسن صالح. وعنوان الحديث: البيئة الإستراتيجية الحاضنة للمصالحة الفلسطينية والمسارات المـُحتَملة. ونشره د. سمير أيوب. ووصلني من الصديق محمد قرِّش.
حديث أبو النمل هو محاولة لحصر واختزال كل ما يدور في المنطقة بحيث يبقى فقط ضمن خدمته لفلسطين. وهو كلام حق أُريد بل شديد الباطل لأن حديث الرجل يُفعِّل جدا ومطلقاً نقده لجميع القوى الثورية والمقاومة العسكرية والشعبية نافياً أو متجاوزاً عن ما تقوم به الثورة المضادة إلى درجة تخال معها أن لا عدوان على سوريا لا صهيوني ولا امريكي ولا أوروبي ولا خليجي/نفطي ولا من النظام الأردني أو التركي أو اللبناني ولا حتى من الشيشان والصومال.
إنني أعترف للرجل بقدرة على “تطعيج” اللغة وعلى عزل/انتزاع/تغييب/تغطية المؤثر الحقيقي في الحرب والعدوان اي الثورة المضادة وكأنها ليست موجودة، مما أظهر حديثه في إدانة حزب الله وإيران وسوريا والجبهة الشعبية (ايام عزها) والدولة السورية، أظهره كحديث صدق لا كحديث إفك!
بدوري سوف أتناول أربع مرتكزات قام عليها حديث ابو النمل:
الأول
كتب أبو النمل:
” الإخلال الإستراتيجي السلبي لم يتأت عن وصول الإسلاميين للحكم في مصر، وإستمروا فيه حتى منتصف 2013، بل على إخراجهم من الحُكم،بغض النظر عن توصيف ما تم، أو ذرائعه وأسبابه، وعما إذا كان إنقلاباً فظا على الشرعية الدستورية، وما قرَّرته الديموقراطية وصناديق الإقتراع، أو إعتُبر ثورة لها أسبابها ومبرراتها وجمهورها. يمكن إعتبار ما تم في 30 يونيه إنقلاباً غطى نفسه بشبه ثورة شعبية، أو شبه ثورة شعبية قطفها إنقلاب، وأن نصف قوة مصر صارت تواجه النصف الآخر، وأن خطأ هنا وخطيئة هناك، قادت إلى شبه حرب أهلية، من نتائجها أن مصر ستصبح مشلولة القوى، هذا إن إستطاعت حفظ وحدتها الدستورية والجغرافية. وإذا كنا نميِّز العهود السياسية بنمط المفاهيم التي تُدار بها البلاد، فأن ما جرى هو عودة لذهنية القوة العارية حلاً للمشاكل.”
طبعاً يوظف ابو النمل هذا النقد في التحليل الأخير في إطار أن ما حصل في مصر 30 حزيران أضر بالقضية الفلسطينية. في هذا الحديث تتضح وسطية الرجل في تركيزه على “الشرعية الدستورية”. دون أن يحاول قط الإشارة إلى الشرعية الشعبية، فقط الإشارة دون ان نطالبه بالاصطفاف إلى جانب الشرعية الشعبية. ألم يكن من باب الصدق الإشارة إلى أن 30 مليون مواطن خرجوا إلى الشوارع والميادين؟ صحيح أن الجيش وقف معهم وأزاح مرسي، ووصل إلى السلطة ما اسميه “الخليط”. ولكن، ألم يكن من قبيل الصدق ان يشير الكاتب إلى رسالة مرسي إلى بيرس؟ وإلى ان الانتخابات التي جلبت مرسي استخدمت الزيت والسكر وفتاوى التكفير؟ (حصل هذا في تشيلي ضد اليندي عام 1964 حين تم توزيع الأغذية على الفقرا مدعوما بفتوى الكنيسة. انظر كتاب ريجيس دوبريه Strategy of Revolution, p.p. 166-67) (وحصل هذا في انتخابات 1954 في الأردن حيث كان أحد مرشحي السلطة خلوصي الخيري يعد الناخبين ببطاقات إعاشة الأونروا عبر المخاتير). ألا تعني إزاحة مرسي إنقاذ المرأة المصرية من سيطرة ذكورية من الطراز القطري؟ ألا تعني أن مصر على الأقل تراجعت عن إعلان مرسي الجهاد ضد سوريا؟ طبعاً لا نقول للكاتب ان 30 يونية أوقفت مد انظمة وقوى الدين السياسي الذي كان يتهدد الأمة العربية، لأنه كما يبدو مع هذا المد. وليس هنا مجال التذكير بعلاقة الإخوان المسلمين بالولايات المتحدة والغرب ولا طبعاً بعقيدتهم الراسمالية وبالنيولبرالية الاقتصادية.
وربما يمكننا القول أن ما قام به الجيش هو الاستفادة من موقف الشعب كي لا يكون تدفق 30 مليون إلى الشوارع مجرد فقاعة. لنتذكر جميعاً التظاهرات في العديد من الدول الغربية ضد التجهيز للحرب على العراق. ولكن كل ذلك لم يثني “الشرعية الدستورية ل بوش وبلير و33 دولة” عن العدوان. فليست الشرعية الدستورية مقدسة دائماً، هذا إذا كانت الانتخابات وصناديقها تعبيرا حقيقياً وهو على اية حال ما طعن به إبن هذه الديمقراطية الغربية “صامويل هنتنجتون” الذي اعتبر ان الإمساك بمفاتيح ورموز المجتمع ونخبه أعلى أهمية من الانتخابات. وهذا ما تفعله السعودية في لبنان.
لسنا مع التعويل على أن السيسي سيكون سوار الذهب أو عبد الناصر، ولكن كما كان لمرسي ان امتطى الديمقراطية بالإعلان الدستوري (الديكتاتوري) يكون للسيسي الحق في استثمار الحراك الشعبي لخلع مرسي. اي لنذكر حق هذا وحق ذاك وخطأ هذا وخطأ ذاك.
الثاني
كتب أبو النمل:
“… حدثت على صعيد أداء حزب الله، ليس فقط لأنه ذهب في خيارات سياسية وقتالية ليست محل إجماع، في لبنان أو سوريا وغيرهما، على الرغم من كل الأسباب الموجبة التي يقدِّمها لتفسير وتبرير ما فعله، بل أيضاً من ظن حزب الله أن خسائره في سوريا مـُبرَّرة ومحمولة وقابلة للتعويض، حين حصرها بالرجال والعتاد، وعدم الإنتباه كفاية إلى خسارات فادحة أخرى لا تُعوَّض بسهولة البتة.”
هنا يقوم أبو النمل بتقزيم الحرب على سوريا ليحصرها في خانة صحة و عدم صحة قرار حزب الله. فهو يُخرج الصراع على سوريا من هدف الثورة المضادة اقتلاع سوريا من حيث دورها في رفض الاعتراف بالكيان الصهيوني الإشكنازي، ومن كونها ليست تابعة للمركز الرأسمالي الغربي، ومن كونها حليفا للشرق حتى في فترة تفكك الاتحاد السوفييتي، ومن كونها بلد أقرب إلى الاعتماد على الذات …الخ. والطريف أنه يغطي على الأهمية القومية لانتصار سوريا وهي المسألة التي بدونها تنتهي فلسطين التي يرطن في كل حديثه لصالحها!
هو ينظر إلى خطوة حزب الله بانها أفقدته جمهوراً كان لا يراه إلا كمقاومة ضد الكيان. هذا مع أنه يلسع حزب الله في أكثر من موقع في حديثه بقوله انه لم يحرر اي شبر من فلسطين! هذا وكأن حزب الله مقاول لم يفي بتعهده!!!أو كأنه الوحيد أو حتى الأول المطالب بتحرير ذلك الشبر. في حين أنه يتغاضى تماماً عن تقصير مختلف القوى الفلسطينة وخاصة التيار السائد في سلطة الحكم الذاتي بل حتى يتغاضى عن الاعتراف بالكيان!!!. وبهذا أظهر حزب الله وكأنه ترك المقاومة الفلسطينية في رام الله وهي تصارع الكيان بصدرها وليس ببنادقها!!! مرة أخرى، أعترف بقدرة هذا الرجل على لوي اعناق الأمور. يذكرني حصر تحرير الشبر كواجب على حزب الله وحده بلوم شخص لي ذات يوم: ” يا عادل من زمان ما انسجنت”!! طبعا هو لم يسجن قط!!
حزب الله ليس وحده المطالب بتحرير فلسطين، بل مليار ونصف مسلم أرسلوا إلى سوريا أكثر من مئة الف ولم يتوقفوا! هؤلاء لم يذكرهم ابو النمل. حزب الله لم يدافع فقط عن لبنان بتطوعه في سوريا، بل كذلك عن جلده. وهذا يفهمه طالب ابتدائي بأن انكسار سوريا هو تصفية لحزب الله اي مثلا: انتصار سعد الحريري بحرير حياته على نصر الله. والله عيب!!! وفي النهاية إحياء بشير الجميل وشارون ليحتفلا ب 17 ايار!!! فاين فلسطين حينها؟
يرى ابو النمل ان حزب الله خسر خسائر لا تعوض بأن انفك عن تأييده كثيرون بسبب سوريا. وهذا صحيح، ولكن حزب الله يعرف بان فريق “ما يطلبه المستمعون” ليس سوى غُثاءً وبأن صمود سوريا وحده الذي له معنى لفلسطين. وعليه، فإن قيام الرجل بفك العلاقة بين ما يُدار ضد سوريا عن فلسطين هو فك خبيث وخطير. ولينظر القارىء بان الذين انفكوا عن حزب الله، هذا إذا كانوا معه، بعد موقفه من سوريا هم مذهبيون من السنة. والمذهبي لا يُعوَّل عليه وطنيا ولا قوميا ولا إنسانياً.
قد يوافق حزب الله على رؤيتي، وقد لا، هذا أمر آخر، إلا أنني ارى ان ما قام به هو موقف قومي يجب تطويره كي تستعيد سوريا جزئها اللبناني، فهذا الكيان كمختلف الكيانات لا مبرر تاريخي له، وها هو يعلن النأي بالنفس إلى أن اصبح ل داعش قواعدها في لبنان. وهنا اخشى إن تصدى حزب الله لداعش أن يتعكر صفو السيد ابو النمل.
الثالث
ويقول ابو النمل:
“…يُقدِّم المثل السوري، على ما إنتهى إليه، تأكيداً لمقولة: الآتي أسوأ، التي تَعني تحريم حتى التفكير بالتغيير. ثمة من أوجز الوضع قائلاً: ليس المطلوب التحوُّل نحو الأفضل، بل الحفاظ على الوضع القائم!”
هنا يصطف الكاتب إلى جانب الثورة المضادة ولكن برقصة فيها مهارة عالية. فهو يخلع من المشهد السوري كل ما حصل فيه ويحصر المسألة في أن تكون مع التغيير أو ضد التغيير!
إن التغيير هو جوهر التاريخ وهو إن لم يختاره البعض يُفرض عليهم. ولكن حركة التغيير، وإن كانت في التحليل الأخير إلى الأمام، إلا أنها يمكن أن تأخذ حالة التطور او التراجع. وهذا منوط باصطفاف القوى وموازين القوى.
لكن ما حصل في سوريا ليس محض داخلي. وأمام (الإعماء الإعلامي) وحده التاريخ سيبين إن كانت بداية الحراك في سوريا سلمية وذاتية أم كانت موجهة ومسلحة من الخارج، بدءاً من الأردن عبورا إلى تل ابيب وانتهاء بالبنتاغون. ولنفترض أنها بدات بريئة وطبيعية، ولنفترض أن قوى الأمن في درعا بطشت كما يُقال، ولذا قامت السلطة بخلع المسؤولين عن البطش. ولكن يبقى السؤال بعد كل ما اتضح من عدوان بل حرب حقيقية على سوريا من القاعدة باشكال (السعودية والقطرية والأمريكية والأوروبية وحتى الصومالية) هل بعد كل هذا من المنطقي أن يناقش ابو النمل بأن الذين يدافعون عن سوريا هم ضد التغيير؟ كثيرة هي الأقلام المتلونة التي مثلا تقول: “لو كان جورج حبش حياً لوقف مع الشعب السوري”. اي لوقف مع داعش/واشنطن. رحمة بالناس ايها الناس!!!
والرابع
يقول ابو النمل:
“وإذا قادت حماس إنشقاقا؛ إنقساماً على فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية سنة 2007، فأن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قادت قبل ذلك بثلاثين عاماً أو يزيد إنشقاقاً؛ إنقساماً مـُدوِّياً ومـُشابِهاً. كان لفتح نصيبها في الإنقسام الفلسطيني التاريخي، حين مثَّلت طيلة عقد الستينات من القرن العشرين خروجاً على التيار السياسي المركزي في الساحة الفلسطينية، مـُمثَّلاً حينذاك بالتيار الناصري وخطابه القومي، وصولاً إلى تخوين إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية سنة 1964 بالمبدأ، ومن هنا كان تسريع “فتح” إعلان نشاطها المسلح مطلع 1965″
في مناخ نقده للانشقاقات يخلط ابو النمل الحابل بالنابل. فهو كما راينا أعلاه مع الانشقاق عن النظام السوري، ولكنه ينقد موقف الجبهة الشعبية حينما أعلنت جبهة الرفض ضد قيادة فتح. ولعل هذا كان أعلى موقف للجبهة الشعبية على الأقل لأن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية انتهت إلى “محادثات مدريد واتفاق أوسلو واليوم إطار كيري”. وربما يفيدنا الرجل: هل توجد الآن جبهة شعبية!
وهل حقا حماس مُدانة في كونها بدأت من خارج منظمة التحرير؟ ألم تكن حماس قبل تورطها ضد سوريا قوة مقاومة حقيقية؟ لماذا لا ننصف الناس؟ ولماذا لا تعود حماس لموقفها المقاوم وتعتذر عن كارثة وقفتها ضد سوريا!!
ربما الإدانة الحقيقية هي لجميع القوى الفلسطينية التي لم تتوحد في جبهة تحرير وطني كما كان حال الجزائر.
وهل منظمة التحرير بيت مقدس يكفر من لا يصلي فيه؟ هذا يذكرنا ببكائيات/تزلفات محمود درويش لما يسمى “الشرعية” حيث كتب: “من يخرج على الشرعية يخرج على الإنسانية”. ألا يتقاطع تكفير ابو النمل ل السيسي مع تكفير درويش لمن خرج على قيادة مظمة التحرير!!!
الانشقاق تاريخياً موجود في مختلف القوى السياسية. وهو نتيجة اجتهاد صحي أو خاطىء، فهذا امر آخر. وكثيرا ما كان الانشقاق إيجابياً بل ضرورة.
بعد رحلة تحليل طويلة للكاتب عن المصالحة، كان ما فعله هو الحديث عن تاريخ او تاريخية الانشقاق دون أن يصيب عنوان حديثه وهو الانقسام والمصالحة، وكأن للرجل حسابات لا يريد مسها كي لا يغضب من يحبهم ويحبونه!!
ملاحظة أخيرة خارج السياق: قبل ان يتحول أحد الكوادر القدامى من الجبهة الشعية إلى التطبيع ومجموعة كوبنهاجن اعطاني عام 1996 كتيباً من تأليف د. حسين ابو النمل مطبوع على (تايب رايتر)، عناونه: “فلسطينيو 1948 =شباط 1995”. والكتيب فيه انبهار هائل بالكيان الصهيوني لا زلت احتفظ به. لذا، حينما قرأت حديثه الذي نقدته أعلاه تذكرت الكراس المذكور.