خليل نخلة
(23 شباط 2014)
أتنقل بين الإفتراضي والتاريخي برتابة عالية، شبه متوقعة. مرة في الشهر يتحكم بي ويحتضنني غور الأردن وينقلني من وجودي الفلسطيني الإفتراضي في رام الله، ويقذفني بعد ثلاث ساعات من السير شمالا إلى وجودي الفلسطيني التاريخي في الجليل. المؤشر الوحيد الفاصل بين هذين الوجودين هو الحاجز الإحتلالي-الإقتصادي-الجغرافي المهيمن على المكان بعد قرية بردلة، والذي يمثل وفق مخططاته الحالية والمستقبلية محطة عبور تجارية بين ميناء حيفا والأردن …
متسلحا بوثائقي “الجليلية”، أعبر الحاجز بسهولة، عادة، بعد الإجابة على سؤال: “من أين قادم؟”، “من القدس”؛ و”لأين متجه؟”، ” إلى قريتي الرامة في الجليل”. بعد العبور، أجد نفسي على مشارف بيسان، ولم يتغير شيئ! الأرض هي هي؛ والطقس هو هو، مع بعض الإنخفاض بدرجات الحرارة؛ ولكن اللغة تشهد تحولا إلى العبرية. الإمتداد الفيزيائي الجغرافي هو نفسه، وقد يتغير بمدى التحول في طبيعة إستخدامات الأراضي المزروعة والوحدات السكنية … فمثلا، القديم في بيسان—أي الجزء الأصلاني الفلسطيني التاريخي—تحول إلى أهداف أثرية تستجلب السياح الأجانب واليهود بالتحديد). ولماذا لا تصبح هذه هدفا لأولئك من شعبي الذين سكنوا وأقاموا في بيسان قبل إحتلال العام 1948 وطردوا منها؟
وينقلني هذا المسار إلى طبرية وبحيرتها التاريخية المتغيرة حسب مستوى الأمطار في الموسم، وإرتفاع أو إنخفاض منسوب المياه المتبدل وفق ما يضخ منها. ولا ترى البحيرة فعلا دون أن تدرك وتفقه هضاب الجولان العربي السوري المشرفة عليها، والحامية لها. لكن التاريخ الملحوظ يسكن في ما تبقى من الحجارة السوداء البركانية في بعض المنازل الفلسطينية التاريخية، والتي تم تحويلها إلى مطاعم أو متاحف أو دكاكين. التاريخ هنا مستور وليس مغيبا؛ عليك أن تستنبطه من خلال الحفر الجاد والملتزم … التاريخ الفلسطيني هنا ليس مجرد فكرة “متحجرة”، كما يدعي البعض، بل إنه حي؛ إنه حقيقة قد تبدلت؛ إنه وعي يقفز إلى السطح بقوة كلما أقرأ مذكرات الإخوة “الصياغ” (أنيس ويوسف وفايز).
أقذف بعدها إلى تلال وجبال الجليل الفلسطيني (الإسرائيلي) حيث أجد دفئا بذكريات ظاهر العمر الزيداني، وبجليل يناضل من أجل كينونته العربية الفلسطينية كجزء عضوي من سورية الجنوبية. وتعشعش ذكريات إحتلالنا وطردنا من بيوتنا من قبل العصابات الصهيونية—واليهودية الإسرائيلية فيما بعد، عميقا في داخلي، إذ عشتها. وألهث في النهاية للوصول إلى حيثما ولدت وترعرعت، بشوق وتلهف لفلسطينيتي التاريخية. ولكني، للأسف، أجدها هي الأخرى إفتراضية ومتخيلة، بالرغم من أحلامي بعكس ذلك.
أجد التحول المدمي والمروع هنا لا يختلف جوهريا عن وجودي الفلسطيني الإفتراضي في رام الله. فهنا في الجليل يتأقلم السكان الأصليون الفلسطينيون مع الثقافة العبرية-الإسرائيلية، المغيبة لفلسطينيتنا، من خلال اللغة وإستبدال القيم، ويجيدونها ببراعة، لكي يعيشوا. وهناك—حيث الوجود الفلسطيني الإفتراضي—يتأقلم (إقرأ، يطبع) السكان الفلسطينيون مع هياكل الإحتلال الإقتصادية والعسكرية، ويجيدونها بإبداع، لكي يعيشوا.
فلسطين التاريخية الحقيقية ليست شعارا؛ إنما هي إدراك وجودي ووعووي، وهدف يجب أن نسعى جميعنا لتحقيقه بشتى الوسائل، وإلا فسنبقى تأئهين في عالمنا الإفتراضي المتخيل!
[1] بالمناسبة تجدر الملاحظة أننا لسنا الوحيدين في عدم القدرة على مواجهة جبهة الأعداء الشرسة بمقدراتها الهائلة، بل تشاركنا شعوب العالم الثالث، مع فارق هام هو أن هذه الأخيرة ليست مستهدفة بذات القدر والشراسة مثل الشعوب العربية.