أوكرانيا على مفترق طرق

د. نورهان الشيخ*


تصاعدت الأزمة الأوكرانية وازدادت تعقيداً منذ نهاية الأسبوع الماضي بفعل مجموعة من العوامل، أولها العنف غير المسبوق من جانب أطراف الأزمة، ففي مشهد غير مألوف وصادم للداخل والخارج قام “المحتجون” بإضرام النار في مساكن خاصة ومحاكم، والاستيلاء على مبانٍ حكومية ومراكز أمن ووحدات عسكرية ومخازن أسلحة، وظهرت ميليشيات ومجموعات شبه عسكرية اشتبكت مع قوات الأمن على الرغم من اتفاق الهدنة الذي توصل إليه زعماء المعارضة مع الرئيس، مستخدمين الأسلحة النارية والمولوتوف والحجارة . الأمر الذي أودى بحياة 80 قتيلاً منهم 16 من رجال الأمن، إلى جانب 565 مصاباً، منهم 130 شرطياً بطلقات نارية.

ثانيها، الانتقال من الحوار والتوافق بين السلطة والمعارضة إلى إزاحة من في السلطة بالكامل في محاولة من جانب المعارضة للانفراد بإدارة البلاد . فقد نجحت وساطة روسيا ووزراء خارجية بولندا وألمانيا وفرنسا في التوصل إلى اتفاق بين الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش وزعماء المعارضة يوم الجمعة 21 فبراير/شباط، نص على العودة إلى دستور عام ،2004 وتشكيل حكومة وحدة وطنية خلال عشرة أيام، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وفي المقابل ضرورة تسليم أسلحة المعارضة لوزارة الداخلية الأوكرانية خلال 24 ساعة ومعاقبة كل من يحمل السلاح بشكل غير شرعي وفقاً للقانون . وقد عكس الاتفاق توافقاً روسياً أوروبياً حول احتواء الأزمة الأوكرانية التي تهدد الأمن الروسي والأوروبي معاً .

إلا أنه بعد يوم واحد من الاتفاق وفي خطوة تصعيدية أعادت الاحتقان والتوتر لأوكرانيا ترك حزب الأقاليم رئاسة البرلمان وتم انتخاب المعارض فلاديمير تورتشتينوف رئيساً له . وقام البرلمان يوم الأحد 23 فبراير/شباط بنقل صلاحيات رئيس الدولة إلى رئيس البرلمان المعارض وتعيين أربعة معارضين في المناصب السيادية والأمنية المهمة: وزير الداخلية ورئيس جهاز الأمن الأوكراني ووزير الدفاع ورئيس النيابة العامة، وحدد 25 من مايو/أيار المقبل موعداً لإجراء انتخابات رئاسية مبكرة في البلاد . كما أقر البرلمان تعديلات على التشريعات الأوكرانية الخاصة بالفساد أدت إلى إطلاق سراح رئيسة الوزراء السابقة المعارضة يوليا تيموشينكو . هذا في حين أعلن الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش أنه لن يقدم استقالته ويعتبر ما يجرى في البلاد انقلاباً، وما يحدث في البرلمان “جريمة” .
يدعم هذا الاستقطاب الداخلي الحاد استقطاباً دولياً بين روسيا والولايات المتحدة التي بدت فاعلاً رئيسياً في الأزمة غير راضٍ عن الموقف الأوروبي الذي بدا مؤخراً متوافقاً نسبياً مع روسيا بشأن ضرورة احتواء الأزمة ودفعها إلى مسار سلمي، حيث يدرك الطرفان خطورة تفاقم النزاع في دولة بحجم أوكرانيا يقطنها أكثر من 44 مليون نسمة، وبها قدرات نووية سلمية ومحطات كهروذرية قد تسبب كارثة للطرفين في حالة فقدان السلطة المركزية السيطرة عليها . فمن الواضح أن واشنطن قررت إدارة الصراع وحسمه لمصلحتها لتبدأ الجولة الثالثة من المواجهة مع موسكو حول أوكرانيا . فالأزمة الأوكرانية التي بدأت في ليل الحادي والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني الماضي احتجاجاً على قرار تجميد المفاوضات بشأن اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي لم تكن وليدة الحدث، وإنما تعود بجذورها إلى عام ،2004 عندما اختمر الانقسام السياسي بتحالفاته الخارجية ليشعل أزمة سياسية ويجذر لانقسام مجتمعي وسياسي لم تعرفه أوكرانيا من قبل .

فعقب تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 أعلنت أوكرانيا وغيرها من الجمهوريات المكونة له استقلالها، وعمل الرؤساء الأُول لأوكرانيا المستقلة، ليونيد كرافتشوك وليونيد كوتشما، على تأكيد هوية أوكرانيا الأوروبية وتميزها الثقافي واللغوي . ساعدهم على ذلك اختلال موازين القوى لمصلحة أوروبا في ظل الضعف الذي اكتنف روسيا طوال حقبة التسعينات وتدهور أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، وعدم الاستقرار السياسي الحاد الذي كان يعصف بها آنذاك .

ولكن ما إن نهضت روسيا من كبوتها في ظل قيادة الرئيس بوتين واستعادت عافيتها حتى بدأت في محاولة استرداد أوكرانيا واستقطابها إلى وضع أكثر توازناً في سياستها الخارجية يتسق وكونها امتداداً طبيعياً لروسيا ودولة تماس بين موسكو من جانب وأوروبا وحلف الأطلسي من جانب آخر . وكانت المواجهة الأولى بين الطرفين نهاية عام 2004 مع الانتخابات الرئاسية حين بدأت ما يسمى “الثورة البرتقالية” عندما تم الإعلان عن فوز رئيس الوزراء آنذاك والرئيس الحالي فيكتور يانوكوفيتش المقرب من موسكو في الانتخابات . ورفض منافسه الرئيسي، زعيم المعارضة آنذاك فيكتور يوشينكو صاحب التوجه الغربي والمدعوم من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، الاعتراف بهذه النتيجة وتمسك بفوزه في الانتخابات . واندفع عشرات الآلاف من الأوكرانيين حاملين الأعلام البرتقالية إلى ميدان الاستقلال في العاصمة كييف لتأييد يوشينكو ليتحول احتجاجهم إلى عصيان مدني شل مؤسسات الدولة، وثورة استقطبت تأييد الغرب ودعم وسائل الإعلام المختلفة .

واستسلمت روسيا ومعها يانوكوفيتش وتولى يوشينكو السلطة، فلم تكن روسيا آنذاك في وضع يسمح لها بمواجهة حادة مع الغرب . وكانت فيما يشبه فترة “نقاهة” سياسياً واقتصادياً واجتماعياً بعد عقد من الوهن الشديد داخلياً وخارجياً .

ومع الجولة الثانية من المواجهة بين روسيا والغرب خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في أوكرانيا عام 2010 كانت روسيا أكثر قوة واستعداداً، وفاز يانوكوفيتش بأعلى الأصوات في الجولتين الأولى والثانية ليصبح رئيساً لأوكرانيا . في حين انعدمت شعبية يوشينكو تقريباً بعد خمس سنوات في الرئاسة ومني بهزيمة ساحقة حيث حصل على أقل من 5% من الأصوات في سابقة هي الأولى من نوعها .

ولم ينه وصول يانوكوفيتش إلى السلطة “المشروع البرتقالي” في أوكرانيا . فالأزمة التي تعتصر أوكرانيا الآن تؤكد استمرار الاستقطاب الداخلي بها، يدعمه استقطاب وتنافس دولي على واحدة من أكثر البقاع أهمية بالنسبة لروسيا والغرب . لتقف أوكرانيا على شفا حرب أهلية ومشروع تقسيم بين الغرب الأوكراني حيث أنصار المعارضة، والشرق حيث القواعد الشعبية لحزب الأقاليم ومعظم الروس الذين يشكلون 24% من سكان أوكرانيا، في صورة تعكس الاستقطاب الحاد الذي يمزق البلاد .

ورغم الخطوات التي اتخذتها المعارضة وانتصارها الحالي على يانوكوفيتش، فإنه من المبكر جداً الجزم بشأن انتهاء الأزمة . فالتهديدات التي أطلقها قادة المعارضة ضد من تمت إزاحتهم من السلطة وضرورة محاسبتهم وفي مقدمتهم يانوكوفيتش، والإجراءات التي تم اتخاذها ضد الأقلية الروسية في أوكرانيا ومنها إلغاء اللغة الروسية كلغة محلية في نصف مقاطعات أوكرانيا، وتظاهر الآلاف من أنصار السلطة الجديدة والمعارضين لها في مختلف المدن الأوكرانية تؤكد أن الأزمة وتداعياتها لم تنته بعد وأن المستقبل مازال غامضاً، كما لا يمكن تصور أن تقف روسيا مكتوفة الأيدي وهي تفقد منطقة نفوذ رئيسية، بها واحد من أهم أساطيلها بمدينة سيفاستوبيل في إقليم شبه جزيرة القرم على البحر الأسود جنوب أوكرانيا، الذي طالما طالبت المعارضة بخروجه ورحيله عن الأراضي الأوكرانية .

إن أوكرانيا معركة مصير بالنسبة لروسيا، التي أصبحت قادرة على حماية أمنها ومصالحها، ولديها العزم والتصميم على ذلك . وقد اعتبرت العقيدة العسكرية الروسية (2010-2020) أن توسيع حلف شمال الأطلسي، واقتراب بنيته العسكرية من حدود روسيا الاتحادية أحد التهديدات الرئيسية للأمن القومي الروسي وعملاً عدائياً ضدها يهدف إلى تطويق روسيا وعزلها عن أوروبا لا يمكن السماح به أو التهاون معه . ولا يعني هذا بالضرورة تدخلها عسكرياً في الأزمة كما تتخوف وتحذر واشنطن ولندن، فالقيادة الروسية أذكى من أن تقع في هذا الخطأ .
إن التغير الواضح في توازنات القوى ونجاح روسيا خلال العقد الأخير في تصحيح الخلل الذي انتاب ميزان القوى العالمي عقب تفكك الاتحاد السوفييتي سيؤثر حتماً في مسار الأزمة الأوكرانية، التي إن امتدت وطال أمدها لبعض الوقت فإن حسمها سيكون من خلال تسوية سياسية تجدد الشرعية لتيار يحترم خصوصية العلاقة مع موسكو، ويحقق أكبر قدر ممكن من التوازن في سياسة أوكرانيا الخارجية وعلاقاتها بكل من روسيا والغرب .

*أستاذ العلوم السياسية – كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

المصدر: “الخليج”