نهاية الورطة أم ورطة النهاية

احمد حسين

(إلى الرفيق عادل سمارة)

أخي عادل

ليس لدي ما أقوله لوعينا المشترك سوى سؤال واحد : هل تعتقد أن الوعي التاريخي بالذات، يمكن أن يتحول فى بعض المراحل المستقوية إلى معضلة وجود، بحيث أنه لا يعود خيارا ممكنا لحامله، سواء بالقناعة النظرية ومواصلة الإلتزام، أو بدونهما؟ في الحالة الأولى، القناعة النظرية لا يمكنها الصمود في وجه اليقين الواقعي إذا كان يخالفها، لأن التجرية هي مصددر الوعي وليس العكس. وبما أن الإلتزام الموضوعي بالتجربة، أي المعرفة العلمية، هي التي تحدد اتجاه الحركة نحو إلزام الحاجة ومصلحة الذات الفردية، فما معنى الإلتزام بالوعي التاريخي والتجربة العلمية تخالفه؟ يمكن إنكار التجربة العلمية، بمزاعم أو مغالطات مثالية، وعندها يصبح الوعي التاريخي ضد نفسه، وعليه أن يعترف بأنه في أزمة سياق مرحلية لا يمكن حلها وعيويا، أو أنه في أزمة بنيوية مع السياق تلزمه بإعادة النظر في قناعاته النظرية. المهم أن عليه تقديم الحل في الحالتين. وفي أثناء ذلك عليه أن يعترف بوجود الخلل، ويصمت إلى حين اكتشافه. أما في الورطة الثانية التي تخص الإلتزام، فإن الإلتزام في جوهره هو حتم الحركة وضرورتها لدى الكائن الحي. شرطه وحتمه يشكلان معا جدل حفظ الذات، أي غريزة البقاء. وتدخل الوعي هنا هو فقط لتحديد سلوك الحركة اجتماعيا وليس فرديا. أي أن الوعي في جوهر حركته، ليس أكثر من تحويل وعي المصلحة االفردي للإلتزام، إلى وعي اجتماعي. كل القضية التاريخية بتفاصيلها موجودة على حلبة هذا السياق في الصراع الأولي بين وعي الغريزة الفردي للمصلحة، ومحاولة ” الوعي ” التاريخي أنسنة البشر الإجتماعيين. هناك نشأ التاريخ، وهنا سيتوقف أليوم أو غدا كما يبدو. وهنا نقف الآن حائرين بين يقين الإلتزام المعرفي.

ما نعيه تعرفه، وما نراه يحدث، تعرفه أيضا. هناك مجافاة قاطعة بين الواقع الموضوعي والوعي التاريخي لما نمر به، تلزمني بالأعتراف بأنني أواجه مع وعيي التاريخي أزمة من الصعب التعرض لها بوعيها النظري. لماذا استطاع الوعي اللاتاريخي المتمثل في الصهيومريكية أن يحقق الثورة النوعية التي تمثل وعيه المريض، ويستولي على فضاء الحركة الكونية، في حين أن الوعي التاريخي لم يعد قائما في الفعل أو النظرية، وتلاشى من سياق الحركة بدون أية دواع مرئية؟ ليس الأمر انتكاسة موضعية مثل سقوط الإتحاد السوفييتي. إنها واقعة فشل نوعية بحجم إخلاء كل الساحات من ذاكرة الوعي التاريخي، بدون مقاومة. ألا يشبه هذا، الموت الطبيعي لشيخوخة لم تعد قادرة على الحياة؟ على الأقل ألا يشبه هذا الحدث الكوني العظيم، حادثة الموت الفلسطيني الصغيرة، حينما صحا الفلسطبنيون ذات صباح، فإذا ما كان لهم ليس لهم. البيوت ليست لهم والفراش ليس لهم والأرض ليست لهم وحتى آباؤهم وأسماؤهم ليست لهم. وفركوا عيونهم وخرجوا منها كأن لم يعرفوها من قبل. فبأي وعي نكتب مثلا عن فلسطين؟ بالوعي التاريخي أم بوعي السحر؟ وهل نكتب عن وعي التاريخ كحتم حركي، أم كظاهرة نظرية متلاشية، لم تستطع إثيات خطابها أمام الأسطورة؟

أخي ورفيقي :

إذا رأيت النار تشتعل في الماء، وشهد بذلك كل من رأى الواقعة مثلك، فلا يمكنكم أن تنكروا ما رأيتم، حتى لو خالف وعيكم، لأن الواقعة المادية يقين معرفي لا يمكن إنكاره بالوعي، بينما الوعي موقف معرفي انعكاسي للتجربة يحتمل الإنكار أو التنكر، لأنه عرضة لتدخل الظروف الموضوعية، التي لا بد أن تترك بصماتها عليه شكلا ومضمونا. إن توجيه المعرفة للوعي نحو الإلتزام، يعد بحد ذاته، سببا كافيا للتشكيك في مصداقية أي يقين علمي يفترض نزاهة الوعي بالموقف النظري وحده. لقد أثبت لنا المشروع الإقتحامي ذلك بالدليل الفعلي حينما سيطر وعيه على كل ساحات التلقي.

باختصار يبدو أن قانون الطبيعة يقدم لنا يقين التجربة والمعرفة، وأن الوعي هو الصياغة الإنسانية المعقدة لهما ( الوعي التاريخي ). وبالمقابل يقف وعي التلقي السهل لمنطق القانون الطبيعي ( الوعي اللاتاريخي) الذي يرفض تجاوز المعرفة إلى الوعي، بوصف الوعي حركة نوعية خاصة بالإنسان المدرك، المتجاوز لحرفية التجربة المعرفية. إنه قادر بالوعي على إنتاج التصورات غير اليقينية إذا دفعته الحاجة أو الغاية، فهو الكائن الوحيد القادر على فصل الشكل عن المضمون والتحرك على أساس ذلك. أي إنه نظريا الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يكذب ويخدع ويتآمر ويخون ويتدخل في وعي الآخر ويصنع التاريخ على هواه، وهو يختبئ خلف خلف التزامه ووعيه النظري الكاذبين. ولكن ليس هذا هو المهم رغم كونه من أهم أزمات العلاقة بين الإلتزام والوعي لدى العينة الإجتماعية. المهم أن الوعي التاريخي فشل من حيث نجح وعي مخاطبة الغريزة والمنفعة الفردية. ألا يؤكد هذا أن الوعي التاريخي مستحيل في التطبيق، لأن الإعتماد على الطبيعة الإنسانية حاملة الرسالة هو نوع من الغيبية الدينية، التي لم تستطع الإعتراف حتى بعصمة الأنبياء الذين لم يكن لهم ما يعطونه من متاع الدنيا، ولكنها اعترفت بعصمة القرضاوي وأمثاله من الدجالين لأنها عصمة تبادل المنفعة.

بالنسبة للوعي الثاني ( وعى القوة اللاتاريخي )، فإنه شديد الوضوح والمباشرة والتزمت العلمي. يستخدم المنطق العملى للمعرفة، ويعتبر الوعي التاريخي السبب الأول لكل مشاكل البشر الإضافية. قالوا : لقد فصل التاريخيون الحركة عن مضمونها بطائفة سخيفة من المفاهيم التي تريد أن تـحرم الأقوياء من حقهم الطبيعي وتعطيه للضعفاء، بحجة أن الأقوياء بسلبون حق الضعفاء، وكأن المنطق هو أن يقوم الضعفاء بسلب حقوق الأقوياء ! يتحدثون عن العدالة وتوزيع الثروة والحرية، لأنهم لا يدركون أن هذه الأشياء كلها متضمنة في الحق الطبيعي ولكن تراتبيا. حق صراع البقاء مكفول للجميع. التراتب حق، ولكن الإرتقاء حق أيضا. النظام منطق عملي ولكنه تصوري في وعي الناريخيين يتم خارجا عن دوافع الحركة وقوانينها الصارمة، بذريعة وضعية تنسب إلى حركة التطور سياقا تصوريا اسمه الأخلاق العلمية. قسموا البشر معسكرا للضعفاء وآخر للأقوياء ، ولكي يتحكموا في التصنبف، حشروا الأفراد في مجتمعات وشعوب، مخالفين التدفق الطبيعي الحر لحركة البشر.

 باختصار يقول هذا الوعي :

(لا قوانين خارج الأصلانية الطبيعية للوجود. وسوف يتسبب التاريخيون في دمار العالم باسم الكائن الأسطوري الذي يطلقون عليه اسم الإنسان. الإنسان مولود الطبيعة، وليس مولود الوعي التاريخي، بل على العكس هو الذي خلق هذ الوعي المتعدي للمعرفة، للإخلال بالتراتب الحتمي للبشر. النخب الطبيعية هي التي تحكم الشعوب، ” تحالف الصهيونية والمحافظين الجدد في أمريكا” يشكلون النخبة العالمية في عصرنا وعليهم تقع مسؤولية إقامة النظام العالمي الجديد. الطبيعة هي نظام حفظ الأنا البيولوجية للكائن الحي، على شكل مراوحة هرمية في الإنتاج والإستهلاك. حركة القوة في التراتبات داخل الهرم، هي التي تؤدي دور فرضية الجدل في العقل التاريخي. هي القانون الطبيعي لكل تجليات الحركة والتغيير. هي الحتم الوجودي المؤسس. هي الألوهية التلقائية للنظام النخبوي داخل الهرم. وهي متناهية لتتجدد. لذلك فالعالم أيضا متناه يغيب ويحضر. يموت ويحيا ليتجدد في طبيعة أخرى وصورة أخرى. ليس هناك تكوين مطلق في الطبيعة. إنها منطق ذاتها. ما دام كل شيء فيها يموت، فإنها أيضا تموت. تصورات الوعي التاريخي قد تكون الحركة ” الخاصة ” الغامضة التي تمهد لنهاية الدورة.)

 

السياق طويل جدا لا يمكن استيفاؤه نظريا.

أما الوعي الأول ( التاريخي ) فينطلق من وعي مختلف للحركة. فهو يرى أن قوانين الطبيعة هي آليات التطور المقننة للحركة، فقط. هذه الحركة هي جدلية صراع بين المتناقضات متغيرة باستمرار، قانونها حفظ التوازن الطبيعي داخلها بحركة النفي والإثبات اللانهائية، والمحكومة بلانهائية حركة التناقضات المتجددة بحركة التطور الصاعدة والأمامية. حركة التطور الطبيعية وقوانينها الداخلية هي حتميات وليست غايات إلا بوجود وعي البشر الإجتماعيين. الغاية هي وعي تحقيق الحاجة الإجتماعية للأفراد الإجتماعيين. الإنسان الإجتماعي يملك وعيا وغاية ودورا في تحديد مصيره. الناس وجدوا إجتماعيين ومصيرهم واحد هو مصيرالجماعة الإنسانية، وليس مصيرا فرديا. إخلال ( وعي القوة ) بتوازتات الحاجة هو السبب في تعاسة البشر. هو السبب في تقسم المجتمع البشري، وبالتالي الإنساني، إلى مجتمعات وطبقات متناحرة، وأغنياء وفقراء، وموفوربن ومحرومين. وهذا أدى إلى ظهور الظلم الإجتماعي لأن القوي يأخذ أكثر من حاجته، ويحرم غيره من حاجته أو جزء منها. التاريخ هوسياق الصراع بين الظالمين والمظلومين. ثورات الشعوب المضطهدة هي سلاح ” الوعي التاريخي “.

 (الإلتزام الوعيوي التاريخي هو محاربة الظلم وإعادة التوازن الطبيعي للحاجات، وتحقيق سعادة البشر. هو وقف أسباب المجاعات، والحروب العدوانية. والعمل على تحقيق سلام العالم. حركة التطور الإجتماعي عرضة للإنتكاس بسبب ظروف موضوعية وطبيعية، لا تزاال خارج التنبؤ العلمي والمعرفي. ولكنه انتكاس مرحلي فقط.

 

هناك حركات مركبة في التطور الأجتماعي تتحرك داخل الوعي فقط، وتشكل فضاءات نوعية للسلوك الإنساني، ولكنها جزء من تطور وعي الوعي وتؤثر في حركة التطور الإجتماعي، تأثيرا كبيرا، مثل الفنون والآداب وصناعة المفاهيم والقيم الجمالية والنفسية والروحية والإرتقاء بوعي الغريزة. وهي في نفس الوقت تميز وعي الدماثة في التاريخي، عن وعي القوة في الهمجي اللاتاريخي. البشر الواعون هم الذين يقودون حركة التاريخ، ويحققون العدالة بالثورة الإجتماعية، وإقامة نظام ديكتاتورية البروليتاريا.)

 

 تبين بعد ذلك أن النخب الوعيوية للحزب كانت هي الديكتاتورية، وأنها باعت الإتحاد السوفييتي ببعض الدولارات، وحق اللجوء السياسي قي الغرب، ليبيعوا معلوماتهم ويمتلكوا السيارات الفارهة ويأكلوا الهامبرغر.

أخي عادل !

بدأت بهذه النبذة الوعيوية، لا لأضبف إلى وعيك، ولكن لأقدم لأزمتي الوعيوية التي تقف الآن حائلا بيني وبين قناعاتي بالكتابة، لا لأنها فقدت مصداقيتها بالنسبة لالتزامي، ولكن ليقيني أن الإنسانية فشلت في حماية وعيها التاريخي، وأنني كواحد منها، لست مؤهلا ولا أملك الحق المنطقي للدفاع عن فشلنا نحن التاريخيين، أمام المشروع الآخر الذي انتصرت أطروحته الهمجية على وعينا بسهولة فائقة. التمجيد الذي كنا نمنحه لأنفسنا كمختلفين عنهم بوعينا الإنساني، أصبح خزيا يلاحق سريرتنا، ويلغي بدون تردد مزاعمنا عن كوننا محصنين بوعينا وإنسانبتنا، عن السقوط. لم نستطع الصمود بوعينا، حتى أمام الوعي المخصص لحيوانات الغابة، الذي عرضه علينا المشروع الصهيومريكي. لقد سقط وعينا الإنساني كثوب العاهرة أفرادا وشعوبا وأنبياء أمام مؤامرة رخيصة، مكونة من بعض المشاهد التلفزيونية البذيئة المدبرة، وكأننا لم نكن نعلم بوجود هذه المعروضات في الطبيعة من قبل. دهشنا أمام مؤامرة وضيعة واضحة المعالم، ليس على عقولنا، وإنما على غرائزنا، وكأنهم كانوا يعرفون سلفا أننا لا نملك غيرها. ذكرونا…. ذكرونا فقط بالنساء العاريات فسقطنا، ذكرونا بالسيارات الفاخرة، والموائد العامرة، وقدموها لنا بأسلوبهم الفاجر الجدير بتدريب الكلاب والقردة، فانفتحنا على همجيتنا وغرائزنا كأننا كنا على موعد مع حتمية السقوط. ألا يكفي هذا دليلا على أن الوعي الغريزي لا يزال يمثل الثقل النوعي الغالب على العينة البشرية، وأن الوعي والإلتزام الإجتماعي التاريخيين، لا يشكلان معادلة واحدة في السياق النوعي للإنسانية كما نزعم. لم نسقط أمام قناعات الوعي البديل أو قوته الفعلية، سقطنا أمام وجاهة الغريزة التي ما تزال تشكل جوهر الحركة في وجودنا. طالبونا أن نكون صادقين مع وعينا، ففعلنا، فإذا نحن لا نختلف عنهم في شيء من حيث الولاء لفرديتنا ، وامتثالنا لتلقائيات الغريزة. كان الفرق الوحيد بيننا وبينهم أنهم أقوى منا وأصدق وأنهم يعيشون على وفاق مع وعيهم.

أي شيء يبرر انقلابهم السهل على الحقيقة، واستيلائهم على ” الواقع كما هو” كما تقول إحدى الفضائيات الليبرالية، وعبثهم بدمنا وأوهامنا الجميلة الكاذبة عن أنفسنا، سوى أنهم عبروا إلينا بمشروعهم الإقتحامي الهمجي، وفوجئوا أنه لم يكن لنا مشروع غيره. وأن جهودهم في حشد القوة ووضع الخطط والتآمر لم يكن لها لزوم. وأخيرا انقلبوا إلى غرف التوجيه عن بعد، وتركوا الشعوب ” والنخب التاريخية ” والعجول المفترسة ” تقوم بالمهمة عنهم، وكل ذلك بقليل من العروض التيلفزيونية الخليعة، والقليل من الدولارات التي نهبوها منا، والطفيليات التي جندوها للتنكيل بكل شيء من تراث البشرية من الدم والوعي والعقل والحضارة. ونجحوا.

أتذكر بمن بدأوا عندنا يا عادل؟ طبعا تذكر ! بدأوا بعلية ” الوعي الثقافي “، فوجدوهم بانتظارهم، وسقطوا على أقدامهم كالمعاطف القديمة. ثم ثنوا بأشباه المثقفين فوقفوا بالدور ينافقون الخادمات والسعاة والبوابين. وبالطبع فعلوا ذلك في كل الساحات الني غصت بالوعي الجديد الذي بدأ يتدفق كالطوفان. لا تقل لي : هناك من لم يسقط. نعم ولكنهم مثلنا يكابرون ويتمنون لو استطاعوا السقوط. السقوط أرحم من مقاومته بوعي مهزوم.

من أين جاؤوا بالطواقم التلفيزيونبة التي توزع الأحلام الليلية، والمثقفبن الذين يرتدون عظمة السقوط، والمجرمين الذين يأكلون لحوم البشر، والفقهاء الذين يفتون بالقتل الجماعي للعابرين على أرصفة الشوارع، والمجاهدات بالأنوثة، والدول والأنظمة والمؤسسات الوطنية الخائنة؟ هل جاءوا بالجميع إلا من مواقع الوعي التاريخي المستباحة؟ لماذا أيدت البروليتاريا سقوط الوعي التاريخي، وأيد تلاميذ ماركس ولينين الديموقراطية والليبرالية الصهيومريكية. لماذا؟ لماذا سقطت شعوب كاملة لو كان الوعي قادرا على حمايتها من السقوط؟

هل تريد أمثلة يا عادل !

أين فلسطين يا رفيق؟ لم يبق فلسطينيا سوى المسجد الأقصى ! لماذا؟ لأن المشروع الصهيومريكي يريده كذلك مؤقتا. ألصهيونية أخذت كل التراب الفلسطيني بموافقة الشعب الفلسطيني، ولكنها تريد توقيعه على ذلك. وسوف يوقع بحجة إنقاذ الأقصى من التهويد الكامل. الشعب الفلسطيني يدرك يا عادل أنه من الأفضل أن يصبح أسطورة من أن تروى سيرته في كتب التاريخ. فماذا نكتب عنه وهو شعبنا؟ ماذا نكتب عن خلاعتنا التاريخية؟ ألستر أفضل إن كان يسعنا. من نكل بنا أكثر في حيفا ورام الله، السلطة أم المتعاقدون والساقطون من أبناء شعبنا؟ بمن ظلت السلطات تطاردنا وتقمعنا وتلاحق خبزنا ودواءنا أكثر، برجال الأمن أم بأولئك المتعاقدين والبؤساء؟ لقد قدم الفلسطبنبون كثيرا من شهداء الغضب، ولكن من قتلهم أو ساهم في قتلهم؟ من ولد أولا في فلسطين الشهداء أم العملاء؟ المطبعون والمتعاقدون أم الرافضون؟ من أين جاء هؤلاء؟ من بين الجائعين والأميين، أم من بين النخب الثرية والمثقفة والتقدمية، والماركسية؟ ما الفرق بين النازيين والإخوان المسلمين وأولئك الشيوعيين التبشيريين الذي أقاموا أحزابا في الوطن العربي كبعثات للتمهيد للوطن اليهودي على انقاض الفلسطينيين، بحجة فاضلة، هي أن الفلسطينيين والعرب عموما بحاجة لخبرة وتقدمية الحركة الصهيونية للخروج من تخلفها ورجعيتها. هل كان لحركة الإستعمار سوى هذه الحجة التقدمية التي اعترف بها ماركس نفسه؟ أنا كما تعلم ماركسي الوعي مثلك، ولكني لم اصبح كذلك، لتعلم التطبيع والتقدمية على الطريقة العنصرية، التي تبيح لشعب أن يقلب العالم على رأس شعب آخر لأنه متخلف وغير تقدمي. النازية قالت بذلك باسم العرق، والإخوان قالوا بذلك باسم الدين، والشيوعية قالت بذلك باسم الوعي التاربخي. ثم جاءت الصهيومريكية فقالت بكل ما قالوا، باسم عولمة الإستبداد. يبدو أن هناك ثغرة في الوعي التاريخي تعبر منها كل أشكال الوعي ، يا أخي، وأن الوعي مهمته توجيه حركة الفعل نحو الحاجة، والوعي الذي يملك القوة الأكبر هو الذي ينتصر. لو كان لدى الفلسطينيين وعي القوة، الذي انشغلوا عنه بوعي فقه المؤامرة الممتدة، لكان وعي الدفاع عن الوطن الترابي كضرورة وجود، يكفيهم للصمود والمواجهة وإمكانية الإنتصار، وبدون الحاجة إلى الوعي التاريخي. وهل يمكن أن نتذكر فلسطين اليوم، دون أن نتذكر أن مؤسسات الوعي التاريخي وقفت إلى جانب الأسطورة ضد الشعب الفلسطبني؟ وأن أشهر” راسبوتينات ” فلسطين كانوا من الماركسيين؟ نحن، أنت وأنا، كنا وما نزال، ماركسيين، إلى جانب ( المثلبة القومية العربية )، فهل عانينا من أحد كما عانينا منهم؟

هل تريد مثلا بحجم شعوب العالم؟ أعني…بحجم الإنسانية؟

أخي عادل

 

أرضى أن تفكر عني. فنحن، كما تعرف، طينة حقل واحد، ونتاج سياق ومعاناة واحدة. سرنا معا وعلى حدة، تتبادلنا الأماكن على هواها، لأنها لم تعد لنا، دون أن نستطيع الإفتراق، أو نحس اختلاف الأمكنة. ما الفرق الموضوعي في تحديد هوية المكان حينما تكون غريبا؟ لذلك كنا تفترق ونلتقي دون أن يتغير فينا شيء سوى حزننا وغضبنا. وقد نمر بنفس التجربة ونخرج منها بنفس اليقين العقلي والوعيوي إذا تطابقت آلية المنهج والوعي ، وتوفرت الأمانة العلمية والموضوعية. ولكننا في الأزمات النوعية، وحينما يصبح وعينا، تحت طائلة المرحلة الإقتحامية التي لم تألفها التجربة، عا جزا عن وعي نفسه، وتفسير الظواهر الإعجازية للواقع، يصبح مطالبا علميا، بواقع ما يسمى أزمة الوعي الملتزم، بالبحث عن وعيه الملتزم داخل حركة وعي الوعي، ومراودة قناعاته في حدود قوانينه المتيسرة للمعرفة ودستور وعي التجربة. لقد فشلت أرقى النظريات الإجتماعية العلمية، المادية والمثالية في حماية التاريخ والإنسان من عودة الهمجية إلى العالم. وفشل الإنسان ووعيه الأنيق، أمام وعي المحافظين الجدد القادمبن من رحم الوعي الجديد للجريمة الإيديولوجية، ومن كهوف نظرية هيمنة الغريزة على كل قابليات الإنسجام مع نظام القوة والفوضى البناءة.

لم يعد ممكنا بالموضوعية، وقف اندفاع القوة الرأسمالية المتجاوزة للتجربة، وإبقاءها في دائرة التطور المحتجز. وهذا يعني في وعي أصحابها الذين امتهنوا السيطرة آنفا، حتمية طرح واقع القوة الكمي، كمشروع مكافيء لواقع أدائها الوظيفي، كما تعاملوا معه دائما. لم يعد واقع القوة الموضوعي، بالنسبة لوعيهم، يسمح، منطقيا، بتعدد الإرادات. كل نظم العلاقة السائدة وعلى رأسها النظام الإقتصادي فقدت فسيفسائها التركيبية الملونة في النظام القديم كآليات لتحديد خطوط التفوق النسبي للإرادات والعلاقات، لصالح تحولها النوعي واختفائها في المساحة الرمادية الموحدة، التي أصبح اسمها الأخير هو الهيمنة. والهيمنة اسم فلسفي للوحدانية، يجاور فكرة الربوبية في الدين، ولكن في مطلق كوني صغير كالأرض، مستغن بحركته الداخلية المدومة في عقل الهيمنة، تصبح الهيمنة لدبهم ربوبية فعلية. أي أن المهيمن المطلق سياديا، فقد وعيه بمفهوم العلاقة بتاتا، فأدركته حالة اللاعلاقة، فانفصل نوعيا بدوره عن رعاياه النسبيين، فتحول إلى المعبودية، وفقد ترابيته المتواضعة، وأصبح فكرة تسكن كائنا مجهول الهوية.

 كان فائض القوة المتوفر للمشروع الصهبومريكي، يفوق الحاجة المطلوبة للهيمنة الأرضية المطلقة. واقع مؤكد كهذا، من المحتم أن بثير قلق العقل والوجدان لدى أصحابه، ويدفع بهم إلى أحضان التجربة المتهورة. فالمعادل الكوني لهذا التحدي غير قائم في التجريب أو المعرفة. لذلك كان هذا المشىروع الصهيومريكي كما رأينا، وحدده وعي أصحابه، ليس مشروع نهب أو حملة تأديبية عابرة، أو احتلالا جزئيا، كما اعتادت التجربة الأمبريالية أن تفعل. كان المعادل الوحيد له في عقلهم، هو مشروع لتأسيس كون جديد بحركة ووعي وعلاقات جديدة، بهيمنة نخبوية كاملة تكرس مبدأ العبودية وعيا عاما للبشر يتسع لهيمنتهم. ولكن قضية الكم السيادي وحدها، لا تكفي لتحقبق التحولات النوعية الكبيرة في نظام الوعي المعتمد منذ الإنسان، ولا في تبني النصوص والكيفيات ومرجعيات الوعي الأنقلابية الجديدة للعلاقة، إلا بمساندة الإستبناء بالهدم. فقضية استبناء وعي جديد قضية مركبة، ولا بد من مواكبة مشروع بناء النظام العولمي القسري بمشروع تحويلي واستبنائي يعتمد على الغوة. مشروع بهذا المستوى من التعقيد والصرامة،هو فقط، الذي يمكن أن يساعد البشر التاريخيين، على التخلص من هيمنة ثوابتهم الوعيوية المتأصلة، التي تحولت مع الوقت إلى روح وقناعات وجدانية. يجب مساعدة أولئك المخدوعين، على استبدال وعيهم بالقوة، وعلى كل المواقع التي يتكون منها التواجد الإجتماعي العالمي القائم. بالتبني القسري والتبشيري المنظم للمشروع، وباستخدام كل آليات الضغط المتاحة في عملية الهدم والإستبناء سيولد الإنسان من جديد، ليتلاءم مع وعي ومتطلبات مسلمة الوجود الجديدة. لذلك على القوة أن تدعم مشروع التحويل بنفس المدى الذي تدعم فيه مشروع السيطرة المباشرة. ويجب على مشروع القوة أن يقدم نموذجا واضحا لما يريده بالتبني من ناحية، وما هو مستعد لاقترافه في حالة التمنع عن التبني من ناحية أخرى. إن إحلال مشروع الإستعباد كنظام كوني لا يمكن أن يتحقق بدون إزاحة أي وعي قائم، يحول بينه وبين الأستقرار على بداهة الإستدخال. تحويل الوعي نحو استدخال نقيضه لا يهم أن يتم كخيار أو كتسليم بالإكراه. لذلك يقتضي طرح المشروع كخيار وحيد لاستمرار الوجود. من هنا جاءت فكرة طرح نموذج الهدم البنيوي والإلغاء كبديل للإمتثال. لذلك ينبغي أن يكون النموذج فظا ومخيفا إلى أبعد الحدود، لتسريع التحول. يجب أن يكون النموذج بمقاييس ” نبوءة الغضب ” أو ” اللعنة السحرية “.

 من هنا تبدأ قراءة النوايا والأهداف وراء اختيارالعدوان التصفوي ابتداء على سوريا بالتحدبد، والشكل الفوق تصوري لهمجية هذا العدون الشاملة، التي تحمل رسالة الرعب التنويرية إلى كل شعوب العالم المترددة في تبني رسالة الوعي الجديد بحذافيرها. فسوريا هي النموذج العالمي المثالي ليفصح المشروع الصهيومريكي للوعي البشري العام عن صورة الوعي التي يريدها، وحتمية الإمتثال لها.

لقد جمعت سوريا العزيزة، في قدرها الوجودي، بين عدة جنايات تحريضية عظيمة في نظر أقانيم التآمر الصهيومريكي ومتذيليها الغربيين من أصحاب ثقافة الجنوح العنصرية الثابتة تجاه العنصرالعربي. أولى تلك الجنايات السورية التحريضية على مشروعهم الضد – حضاري، هو كون سوريا، واحدة من أيقونات العالم الحضارية التي يحرض نموذجها الإجتماعي ضد السلاسة في تمرير المشروع التحويلي، بشكل مباشر وغير مباشر. مباشر في التمسك بوعي الحرية، وغير مباشر بتأثير وسامتها الحضارية في وعي الناس وفي الذاكرة التاريخية. هذا بالإضافة إلى سحرها الجيوسياسي الإستراتيجي، الذي ِشغف به الشر والخير خلال كل عصور التاريخ. في سوريا أيضا خاصية اجتماعية نادرة من التماسك بين مكوناتها البنيوية المتعددة والمتآلفة، يشكل نقيضا مباشرا لفكفكة جميع البنى والثقافات والمجتمعات والظواهر الحضارية التي تشكل هيكلية معادية للهدف الصهيومريكي في استبدال وعي البشر. فكفكة تلك البنى الـتحريضية هو الذي سيتيح تحويل الشعوب إلى قطعان بشرية وخامات عبودية للعمالة في النظام العالمي الإستعبادي للصهيومريكية. كما أن سوريا هي سلفا أحد أنظمة الرفض والممانعة التي تقف في وجه المشروع الصهيومريكي. وسقوط سوريا هو الذي سيسقط المشروع العربي القومي المجمع غربيا على وجوب إسقاطه كعدو استراتيجي احتمالي يهدد كل مشاريع السياق الجاري حاليا، على المستوى الصهيومريكي والصهيوروبي. أما قضية العولمة النموذجبة الصغيرة في الشرق الأوسط، فهي ما دفع المحافظين الإستشراقيين الصهيونيين الجدد إلى إعلان الثورة الربيعية نيابة عن العرب والتي لولا سوريا لكان كل العرب الآن يشترون القات من اليمن ويمضغونه في مجالسهم كالعجول.

إذن استهداف سوريا كان خيارا سوريا، بحكم معاداتها للمشروع الصهيومريكي من ناحية، وضرورة المشروع لاستهدافها، بحكم كل الميزات السورية التحريضية ضده من ناحية أخرى. فلا يستطيع أحد، أخي عادل، أن يزعم أن دفاع سوريا عن نفسها أو دفاع السوريين عن وطنهم، لا يتقاطع بالضرورة، وبكل مرجعياته المسببة، مع دفاعهم عن العالم وشعوبه. فأين العالم وأين شعوبه؟ إن الصهيومريكية، يا رفيق، أصبحت تملك من وعي البشرية، عن طريق البرامج المرئية والمسموعة والمقروءة المتدنية ذوقا ومضمونا، مساحة من التأثير لو ملك الوعي التاريخي في أوجه الثوري 10% منها لكانت الصورة الآن مختلفة تماما في سوريا ولدى معظم شعوب العالم. إن أقوى عقل نوعي في تاريخ الوعي، لم يستطع منافسة الهمبورغر، أو غنج المذيعات الشهاقات، في التأثير على خيارات الإنسان في الوعي. هذا هو الواقع الفعلى لصورة عالمنا اليوم. صورة فاقعة لانهزام الإنسان التاريخي أمام وعي القوة والغريزة والتمدن الهمجي الذي فرضته الصهيومريكية. فماذا يمكن أن نفعل بوعينا أمام هذه المعضلة التي تضعنا في مكان ووعينا في مكان آخر. ماذا نقول أو نكتب ولمن؟

لا تذهبوا بعيدا ! (يقول لسان حال المشروع في سوريا للعالم) : لعبة الدم لا تهمنا لذاتها، ولكننا لن نتردد في استعمالها، لنساعدكم على الفهم فقط. لو استطعنا مواصلة خدعة القيم وتركيب المفاهيم والأفكار الإيديولوجية، لما اضطررنا إلى لعبة استبدال الوعي بالقوة. ولو كان يإمكاننا أن نتعاون، نحن وأنتم، على الوصول الى التزام مشترك معكم حول الحاجة المشتركة للتحول السلمي إلى الوعي الجديد لفعلنا. ولكن هناك من لا يمكنه منكم التخلي عن ضلالات وعيه المزمن الذي أصبح يهدد خلاص البشر. نحن الذين نملك القدرة على قيادة التحول النوعي الذي سيخلق كونا ونظاما واحدا خاليا من التناقضات. خذوا العبرة مما فعلناه بالعراق وما نفعله الآن في سوريا !

ولكن ما يحدث في سوريا، ليس لعبة دم ! لأنه ليس حربا عادية، يقوم بها جيش يخدم فيه ناس عاديون، فيهم عمال وتجار وموظفون صغار وكتاب وشعراء ورسامون ومغنون ومدرسون وبعض المجرمين. إنه جيش من كلاب مسعورة على هيئة البشر نسبيا. مجانين ومنحرفين وساقطين وقتلة وحشاشين وقوادين ولقطاء وسجناء ولصوص. هؤلاء يقتلون كل من يتحرك بأسلحة تمتد من عصر العصا والساطور حتى عصر بندقية الليزر والقنابل الذكية. لو سألت أحدهم لماذا تقاتل؟ لأجابك : لأقتل ! فأين الشعوب التي يهددها ذات المصير لاحقا؟ ألم تع على الأقل أن المشروع أقام مشروعا عالميا لتجارة القتل سوف يصل حتما إلى بلادهم؟ هل تظن شعوب العالم المتحضرة أن الصهيومريكية ستتورع في المراحل التنفيذية المتقدمة لمشروعها عن تطبيق ذلك عليها. أين وعيها؟ لماذا لا تأتي نخب الوعي التاريخي لتحارب في سوريا دفاعا عن المصير المشترك؟ لا أتساءل هكذا سذاجة، ولكن لأثبت لك أن الوعي التاريخي لم يعد يخطر ببال أحد. حتى الذين كانوا في مركز ذلك الوعي عالميا هم الذين باعوا أول تجربة لنظام الوعي التاريخي بدون معارضة من البروليتاريا. وكان أول الساقطين في الإتحاد السوفييتي هم من نخب الوعي العالي من المفكرين والأدباء والفنانين. صدقني يا أخي أن معجزة الصمود السورية، تحققت بالوعي القومي وشهامة الإنسان السوري النابعة من أخلاقيته الوطنية والإجتماعية. وأن معظم وعيويى التاريخ هناك أصبحوا الآن من المتسكعين في سوق الليبرالية انتهازا للفرص. هؤلاء هم أشد من يخشى منهم على سوريا. ويبدو أن أمريكا اليوم بسبيل لبرلة العدوان على سوريا. وسوف يكون لبارلة الماركسية والحداثة والإخوان، هم الذين سيحاربون سياسيا مع أمريكا بحجة إسقاط النظام السوري. وكأن سقوط النظام السوري ليس أقرب الطرق لإسقاط سوريا نهائيا، لعضوية دوره في ملحمة الصمود السوري والعالمي حتى الآن.

لست، رفيقي وأخي العزيز، في معرض إثبات أي شيء، وإنما في معرض مواجهة ما يحدث لنا ويجري من حولنا بالإدراك المعرفي البسيط. والإدراك، أي المعرفة، هو كما تعلم الحلقة الي تربط بين التجربة والوعي.. وحتى لو تشبثنا الآن بوعينا في مواجهة الواقعة الصهيومريكية التي تلغيه، فأين سنبحث عن عالم لهذا الوعي؟ الناس لم يعودوا بروليتاريا ثورية، كلهم اليوم برجوازية رثة من الشحاذ وحتى رئيس الوزراء، لا يمكن انتظار شيء منهم أو من وعيهم سوى التزاحم على أبواب الصهيومريكية. هذا واقع قائم بالدليل المعرفي المادي. مفاده أن التاريخ ووعيه ليسا محميان بقوانين الحركة التطورية. وأنهما خيار نظري لتصور العالم الأفضل فقط، ولكنه لا يساوي شيئا بدون القوة. وأن المؤامرة تملك نظريا نفس فرصة النجاح بشرط توفر القوة. وهذا ما حدث تماما في عالمنا اليوم. لقد انهزم الوعي التاريخي لأنه لا يملك القوة، وانتصرت المؤامرة لأنها تملك القوة. لقد اعتدنا على المكابرة بحجة الحق ووضوح الرؤية وقوة الشعوب. واليوم أصبح الوعي لا يستطيع أن يوفر لنا حتى منطق المكابرة. فماذا نفعل؟ نحن في ورطة وعي حقيقية هذه المرة. فماذا يمكننا أن نكتب مرة أخرى؟

لم تنجح لعبة الدم والتدمير المادي والمعنوي في سوريا، رغم حيوية التنفيذ الدموي والتدميري المبتكر. كان تمسك الإنسان السىوري بإنسانيته القومية المفعمة يالإستدخال وتعلقه بوعي الحرية وبالمعنى الحضاري لقضية الوجود، أكثر من تمسكه بدمه. لماذا؟ لا أدري السر يقينا. ولكن ربما لأن ملابساته التطورية الخاصة جعلت منه عينة نادرة، فهذه الظاهرة موجودة في التجربة. ومع أنها ليست سلسلة قدرية، إلا أنها حاصل سياق خاص من التجارب ينتج الثقافة المميزة، سلبا أو إيجابا. أليست أمريكا عينة نادرة ومميزة بسبب سياقها النشوئي الشاذ الذي جعلها معجزة في النجاح والقوة والشذوذ المناهض للسوية؟ وسوريا هي بكر الحضارة الإنسانية، ومركز لتعاقب الحضارات والتجارب المميزة، فلماذا لا تكون أيقونة حضارية متميزة بثقافتها ووعيها الخاص؟؟ هل امتاز أي بلد في العالم بالإنسجام التعددي الإجتماعي والوجداني كسوريا؟ هل العناد السوري وتشدده التحرري في مواجهة كل أشكال الهيمنة منذ الخلافة التركية مرورا بالإستعمار الأوروبي وحتى اليوم، هو تميمة غيبية معلقة على صدور السوريين أم أنهم جذر حضاري حقيقي ومبدع له جذوره المعرفية الوطنية والقومية المفعمة بأنفة الوجدان وبالقيمة؟ وبالمقابل، هل ثورة العجول في الربيع الصهيومريكي كانت لتحدث لولا السلح الغريزي للهجريين؟ ولو تركت العنان لتصورات الإجتهاد لقلت أن السوري قد انتصر حتى الآن لأن الإلتزام القيمي لديه هو وعيه في نفس الوقت. إنه لا يتعامل مع الوعي كنبوءة سحرية لها أية قيمة حقيقية بذاتها. إنه يعرف أن الوعي هو ثقافة الإلتزام وليس العكس. وأن الموت حتم للحياة الكربمة، ليس له وجود فعلي إلا في خيار السقوط وخيانة الناس لحريتهم ولمعاني السمو في وجودهم الإتساتي. لولا ذلك، يقول السوريون بفذاذة حضارية نادرة : لولا ذلك، لكانت البشرية قد ماتت منذ زمن بعيد. رأيتهم يقولون ذلك ! هذا هو سبب صمود سوريا في اعتقادي. لأن الوعي الذي يحارب في سوريا، هو الوعي الأصلاني العفوي، لمفاهيم الوطني والقومي والحضاري. الإلتزام العفوي الذي يتضمن شرطه في الوعي. هذا الوعي المتأصل فوق كل الفلسفات الإجتماعية، هو المؤهل للإنتصارعلى لوثة العقل الإمبريالي الحديث، المنفصل عن أي وعي سوى وعيه المريض والهمجي. فماذا سنكتب بالحبر عن سوريا التي تكتب عن العالم والإنسان بدمها. كل من يحارب المشروع الصهيومريكي يا أخي، يحارب عن الدنيا بكل شىء جميل فيها. وكل من يريد التصدي للقبح والهمجية والجنون، عليه بهذا المشروع الذي هو كارثة الوجود الشاملة. ولكن هل كان على سوريا أن تحمل عبء الشر العالمي كله؟ نعم بالطبع ! هذا هو قانون ” الوعي الملتزم ” بوطنه أولا، ولكن من نفس حزمة القيم التي يمليها عليه النزامه الإنساني. مرة أخرى أخي عادل، لو كان للإلتزام دور حاسم في سلوك البشر، لانتفت إمكانية قيام المشروع المسخ من أساسها أو لتوقفت عند هذا الحد. فمهما بلغت قوته فلن تعادل قوة شعوب الأرض، التي أصبح يكدسها كالسلع الفائضة في مشاريع العولمة الإستعبادية. إذا كان الوعي التاريخي وحده، يغني عن الوعي الأصلاني، فمعنى ذلك أن ما بين ايدينا من هذا الوعي ناقص ينبغي التفتيش عن ثغراته التي جعلته ينهزم أمام وعي الغريزة. لقد تجاوز ماركس الإنسان في أكثر من موضع. تجاوز كل ديناميات الأصلانية فيه فتركه وجودا بدون وجودبة في حركة الدفاع عن نفسه. ولولا التزام سوريا بشخصيتها الأصلانية التي قهرت جموح الهمجية بمعادلة الموت من أجل الوجود القومي والحضاري الحي، لما صمدت سوريا بأي حساب وعيوي مجرد، يترك الإنسان عاريا من كل سلاح أمام غيلان فائض القيمة.

رحم الله ماركس. لم يستطع، أو لم يرد الخروج من ثياب العالم الإقتصادي الأوروبي لبرجوازية النهضة، إلى شيء من الفلسفة. دعا إلى الأممية التي ستجمع الناس في كل بقاع الأرض حول معاداة البورجوازية القومية الأوروبية بالذات التي كانت تسرق إنسانية العمال والأطفال من الجنسين في المدن الأوروبية. تحدث عن كل اشكال التطور غير المكافيء بين العامل ومنتجاته السلعية وبين الشغيلة وصاحب العمل وبينهم وبين أساليب العمل وطرق الإستغلال، معتبرا أن مفهوم الإستغلال وفلسفته الإقتصادية قد أصبح منهجا واضحا للجميع، بما فيهم اولئك الذين كانوا يعيشون أوعاشوا في نظام الخلافة، واعتبر نظام الحسبة الضرائبي والنهبوي، هو ذات نظام فائض القيمة الصناعي في المحصلة. إن الدول التي ظهرت فيها الماركسية، رفضت الماركسية لأنها فهمتها وأدركت خطرها على مصالحها. أما بقية الشعوب فقد اعتنقتها لأنها لم تفهمها. أعتنقت القيمة النظرية لخطابها الفاضل فقط. ولكنها في الممارسة ظلت سوقا لماركسيي البرجوازية وعملائها.

أخي عادل :

حتى لو كانت الماركسية أطروحة العقل الإقتصادي الأوروبي البرجوازي. حتى ولو لم يمنح ماركس لشعوب الشرق من الإهتمام ما منحه للمركز الصناعي الأوروبي، حتى ولو حاسبنا كالمستشرقين، ولكن بعجلة وحسن نية،على ما اعتقد أنه تخلف مزمن تراجعيا، لمجرد أننا لم ندخل المرحلة الصناعية. حتى ولو لم يول أية أهمية لكون الشرق هو العالم الحضاري المؤسس، وأن فلاحي الشرق كانوا نخبا حضارية عريقة بالنسبة لبرابرة الشمال الصناعيين. ربما لم يكن يهمه هذا الجانب بالذات لأنه أعطى كل اهتمامه لعلاقات العمل وأدوات الإنتاج. وحتى ولو كان يؤمن اننا سنبقى متخلفين إلى أن تدوسنا القدم الأوروبية المتقدمة. فإن الماركسية ستبقى نظرية المستقبل، ونافذة الأمل لكل الأناسي وليس ( البشر ). كان ماركس يدرك أكثر من أي إنسان آخر أن التطور مخاض موجع، وأن العلم كالطبيعة والحضارة والآلة هي تحديات تضغط على إنسانية الإنسان، وهي اليوم ليست وليدة الحاجة والضرورة بمدى ما هي آليات استغلال واغتراب اجتماعي. وأن تطور البشر معرفيا وحرفيا وعلميا أسهل بكثير من تأنسنهم. كان ماركس يدرك كل ذلك ، ويدرك أن حياة الفرد والبنى الفردية للانواع الأخرى هي توقيتات حركية وليست دهورا. هذه التوقيتات الحركية موصولة بموت الأفراد واستمرار حركة النوع تطوريا. فاعتمد على فرضيات اعتبرها حتميات نوعية بالتلقائية. وفشل النوع في عصرنا حينما نسي أن الحتمية الماركسية هي حتمية اجتماعية تاريخية،وليست مطلقا تطوريا غير تاريخي. وكانت النتيجة عجزا عن مواجهة القوة التي تقدم كل لوجستيات الغريزة الهمجية الجاهزة. لم يكن للوعي التاريخي بالمقابل ما يقدمه سوى النظرية العاطلة من أية لوجستيات مادية تدعم صمود الوعي، أمام سيطرة المشروع الصهيومريكي على جميع الضرورات والحاجات الحيوية. وحصل ما حصل من تعطيل محتم للحركة التاريخية على مستوى الوعي والممارسة. ولكن هذا الواقع متغير في مدى قادم لا نعرف أمده أو حيثياته. ولكن أجندة التجربة القومية حاليا هي التي استطاعت أن تتصدى عمليا وبنجاح شبه إعجازي لمشروع العقل المختل. لقد استطاع الوجدان التاريخي أن يحقق ما كان مفروضا أن يحققه العقل التاريخي بكفاءة مقنعة. الدليل هو في الموقف والفعل السوري المباشر إلى جانب قوى الرفض والممانعة، والموقف الروسي القومي الذي ارتقى به بوتن إلى موازاة الفعل التاريخي، في مواجهة الإنقلاب النوعي الذي اقترفته القوة الهمجية. إن قراءة التاريخ العلمية هي الماركسية، ولكن التاريخ هو كتاب القراءة المطلقة. نحن كبشر على طريق الإنسانية نواجه ورطة وجود وورطة تواجد فعلى على تاريخنا النوعي. وما دام مطلق المعرفة أو التجربة غير متوفر ولن يتوفر، فإن مطلق المرحلة هو تسخير حكمة التاريخ التي نملكها في إنقاذ عالمنا من خيار الفناء الفعلي، أو التسليم بالإستعباد. هذه الحكمة تقول الآن أننا مطالبون بما تبقى لنا من قناعات التجربة، تبني السياق القومي كدينامية موضوعية مرحلية بالقطع، بشهادة التجربة الميدانية السورية والروسية. إن القومية مفصل اجتماعي ودينامية تحضرية ووعيوية هامة في التجربة المعرفية. والقومية لم تصبح آلية عنصرية وعدوان على الآخر، أي لم تصبح نازية وفاشية وعولمة للإستعباد إلا في انحرافات الصراع على النهب في العقل الغربي الملتاث بالهيمنة. لذلك على الوعي العالمي السوي، أن يوظف ديناميات القومية ووعي المرحلة الخطرة في سياق مشروع عالمي لاستئصال مشروع النخبة الصهيومريكية الهمجي والإستعبادي. والحديث عن مشروع ميداني تناحري يستقطب كل إمكانات القوة المرحلية للحكمة التاريخية، في سياق واحد نخبوي وشعبوي، منظم وملتزم إداريا، تحت مظلة وعيوية مرحلية، توازي الفعل بالفعل والكلمة بالكلمة والمكر بالمكر. إنها قضية مصير من جانب، وقضية همجية من جانب، ولا يجوز موضوعيا أن تكون الهمجية الغريزية، أكثر إصرارا من المصيرية القيمية للبشر الماشين نحو إنسانيتهم.

أخي

لم أكتب في المدة الأخيرة، بسبب وعيي المتورط. هل سأزاود على ماركس فـأتورط أكثر. أم أبدو كأنني أزاود على الموقف السوري من خلال خوفي عليه؟ سأكون خاسرا في الحالتين. فاخترت التزام حدودي. ولولا أنه لا يمكنني ألا اجيب على شيء كتبته أنت، لفضلت الصمت. ولكن هيهات، فكم فارس تبقى على ساحة الإلتزام؟