أمريكا جيش أصغر . . قوة أكبر

أنتوني جورجي


هل جاء إعلان وزير الدفاع الأمريكي تشاك هاغل، الخاص بتقليص حجم الجيش الأمريكي إلى أصغر مدى له منذ عام 1940 ليحقق نبوءة المؤرخ البريطاني الأصل “بول كيندي” الخاصة بعدم قدرة واشنطن على دفع أكلاف امتدادها الإمبراطوري حول العالم، وليؤكد بالفعل أن مرحلة الانعزال والتراجع التاريخية التي عادة ما تصيب الإمبراطوريات الكبرى، قد بدأت بالفعل؟ أم أن الأمر برمته ليس إلا مناورة لتأكيد أمريكية القرن الحادي والعشرين؟
في مؤتمر صحفي أشار هاغل إلى التوصيات التي ستقدمها وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاغون” إلى الكونغرس في الأيام القليلة المقبلة، التي تركز على قوة جيش أقل عدداً لكن أكثر قدرة وفاعلية . . هل إذن الأمر يمضي في اتجاه معاكس لتنبؤات بول كيندي، ويؤكد رجاحة رأي المحافظين الأمريكيين الذين لا يزالون يتطلعون لسيادة وريادة أمريكية حول العالم لمئة عام مقبلة؟
قبل الجواب ربما يتحتم علينا مراجعة بعض الأرقام الصادرة عن معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” في تقريره السنوي الذي يتابع من خلاله الإنفاق العسكري لمعظم دول العالم، وفي التقرير الأخير تبين لنا أنها المرة الأولى منذ العام 1998 التي يتراجع فيها الإنفاق العسكري لمعظم دول العالم، وقد ربط تقرير المعهد ذلك بانخفاض كبير في الإنفاق العسكري للولايات المتحدة الذي تراجع بأكثر من 40 مليار دولار بين عامي 2011 و2012 .
لكن رغم ذلك ظل الإنفاق على الجيش الأمريكي هو الأكبر عالمياً خلال العام الماضي ووازى 4 أضعاف إنفاق الصين، فقد أنفقت واشنطن 8 .668 مليار دولار بما يعادل 4 .4% من ناتجها الإجمالي، وهو ما يمثل حوالي 40% من إنفاق العالم العسكري، في الوقت الذي تراجع فيه هذا الإنفاق بعد بلوغه 72 مليار دولار عام ،2010 وهو ما عزاه المعهد إلى تراجع وجودها في العراق وأفغانستان، وجاءت الولايات المتحدة كأكبر مصدر عالمي للسلاح بقيمة 2 .6 مليار دولار بينما استوردت ما قيمته 670 مليون دولار .
ما الذي ينتويه هاغل على وجه الدقة وما الداعي لهذا النهج؟
كانت “نيويورك تايمز” قد أشارت بالفعل إلى بعض الملامح الأولية لخطة هاغل التي تتعلق بتقليص حجم القوات البرية من 570 ألفاً، وهو الرقم الذي وصلت إليه بعد اعتداءات واشنطن ونيويورك في سبتمبر/أيلول ،2001 إلى 490 ألف جندي، كما أن هذا الرقم مرشح للتقليص في الأعوام القادمة ليصل إلى 440 ألف جندي .
على أن الملاحظة الأولية لخطة هاغل تعكس اتجاهاً للتخلص من الأسلحة التي كانت معدة للصدام مع الاتحاد السوفييتي، وفي الوقت ذاته الاستمرار في تمويل مشروعات قتالية حديثة باهظة التكلفة مثل طائرات F35 والاستغناء عن طائرة التجسس التاريخية U2 واستبدال طائرات “غلوبال هوك” من دون طيار بها . . ماذا يعني ذلك؟
باختصار غير مخلٍ لا يعني تراجعاً في تسخير القوة العسكرية لخدمة الأهداف الإمبراطورية الأمريكية، بل تعديل ظاهري للآليات والأساليب اللازمة لتحقيق هذا الهدف .
في المؤتمر الصحفي الذي أعلن فيه هاغل تلك الأنباء أشار إلى أن التحليلات التي أجراها البنتاغون تظهر حقيقتين جديدتين بوضوح: الأولى هي تطوير وتوسيع نطاق التكنولوجيا العسكرية المتقدمة في دول أخرى لاسيما الصين وروسيا، الأمر الذي يعني أن بلاده تدخل عهداً، لم تعد فيه الهيمنة الأمريكية في البحر والسماء والفضاء أمراً مفروغاً منه .
والحقيقة الثانية هي أن النفقات العسكرية لن تبلغ المستويات التي كانت متوقعة في ميزانية الأعوام الخمسة التي قدمت للرئيس العام الماضي . . هل كانت التداعيات المالية والأزمة الاقتصادية التي ضربت البلاد منذ أن وصلت في حروبها الخارجية، بخاصة أفغانستان والعراق، وما بينهما من حروب سرية، السبب المباشر وراء السعي نحو هذا التخفيض؟
حديث هاغل ولا شك حمل شكلاً من أشكال المراوغة الأمريكية والازدواجية المعتادة، ففي حين نراه يتحدث عن ظهور بعض الأخطار الإضافية التي ستواجهها القوات المسلحة الأمريكية جراء تقليص النفقات العسكرية، نراه يتحدث كذلك عن حتمية بحث أمريكا وجيوشها عن ابتكارات وحلول من أجل ضمان جاهزية الجيش وقدراته إضافة إلى حفاظه على تفوقه التكنولوجي على جميع الخصوم المحتملين .
القضية إذاً، ليست تقليص النفقات بل ترشيدها، بمعنى: إنفاق أقل وكفاءة قتالية أعلى وتكنولوجيا عسكرية غير مسبوقة، واكتشافات حربية تجعل العالم في أسر القبضة الحديدية الأمريكية، وإن بدا المشهد العام غير ذلك . . هل من أمثلة على هذا التوجه العسكري الاستراتيجي الأمريكي الجديد؟
بالقطع لن نتحدث هذه المرة عن أسلحة واشنطن السرية التي أشار إليها كل من هنري كيسنجر، وزبغينيو بريجنسكي من قبل، وهي أسلحة تتعلق بالطبيعة والكون، والمقدرة على إحداث زلازل صناعية، وبراكين وأعاصير ومنها البرنامج الجهنمي المعروف ب”هارب”، بل نشير إلى نموذجين من نماذج تلك الأسلحة التي بدأت واشنطن بالفعل في إنتاجها، والخطط العسكرية الماهرة التي تعمل بالمبدأ الأمريكي الشهير Don’t work hard work smart .
في أواخر شهر أكتوبر المنصرم أماطت البحرية الأمريكية اللثام عن أحدث القطع التي خلقتها العقول العسكرية، واعتبرتها افتتاحاً لحقبة جديدة في التاريخ العسكري البحري .
الحديث كان عن المدمرة “زومولت” الشبح فائقة التطور، التي يصعب على أجهزة الرادار رصدها، والتي تمتاز بامتلاكها منظومة أسلحة فائقة التطور وكذلك بشكلها الطويل والنحيف . تعد “زومولت” باكورة جيل جديد من السفن الأمريكية من طراز يطلق عليه DDG-1000، وهي ثورة بالفعل مقارنة بسائر المدمرات الأمريكية العاملة في الأسطول الأمريكي، وطولها وعرضها غير مسبوقين، ومع ذلك تعد أقل وزناً من سائر المدمرات بفضل هيكلها الذي يعتمد بدرجة كبيرة على ألياف الكربون شديدة الصلابة، ويبدو أنها أول تطبيق كذلك لعلوم “النانو تكنولوجي” على صعيد العسكرة الأمريكية، وإن لم يعلن ذلك بشكل رسمي .
وكان من المقرر أن تنفق البحرية الأمريكية تسعة مليارات دولار على تطوير هذا الجيل من المدمرات، على أن تنتج سبعاً منها بكلفة 20 مليار دولار، غير أن تقليص الميزانية دفعها إلى الاكتفاء بثلاثٍ فقط، وستعتبر تلك المدمرة أضخم قطعة بحرية أمريكية قادرة على التخفي ضمن الأسطول الأمريكي . . والسؤال كم ستوفر مثل هذه المدمرة للبحرية الأمريكية من إنفاق؟ بالقطع الملايين وربما المليارات، إذ تمتاز مدافعها العملاقة بقدرة التلقيم الذاتي، ما يعني أنها لن تحتاج إلى مئات البحارة . ومن المميزات الهائلة لهذه المدمرة قدرتها على إطلاق صواريخ توماهوك، وكروز، وحمل مروحيتين أو أربع طائرات عاملة من دون طيار، اختصاراً إنها جيش صغير متنقل قادر على القيام بعمليات أكثر خطورة وأخف حركة وأقل تكلفة .
خطط هاغل العسكرية كذلك، تستعيض عن الآلاف من الجنود الأمريكيين بوحدات صغيرة أكثر فاعلية، وأقدر على الإنجاز وإتمام المهمات الطارئة، ما يعني أيضاً نفقات أقل .
خذ إليك ما تسرب من أنباء في أواخر شهر يناير/كانون الثاني المنصرم، إذ ترددت أنباء عن تأسيس واشنطن قوة طوارئ أمريكية خاصة قاعدتها في الشرق الأوسط وقادرة على الانتشار السريع في عموم المنطقة وشمال إفريقيا .
هذه الأخبار نشرتها مجلة “نايفي تايمز” الأسبوعية الأمريكية التي أوضحت أن القوة مصممة للقيام بمهمات عسكرية تتطلب تدخلاً واستجابة سريعة مثل إخلاء السفارات والمصالح الأمريكية، ومؤهلة أيضاً لتنفيذ عمليات إجلاء، وأن الجيش الأمريكي سيقود القوة انطلاقاً من معسكر “ليموتير” في دولة جيبوتي، هل هذا تحول نوعي وكمي في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية، يضمن للخزانة الأمريكية عدم طلب ميزانية كبيرة في ظروف اقتصادية متردية؟
خطة هاغل تأتي في إطار الاعتماد على بدائل القوة التي تحفظ لواشنطن الكلمة العليا الاستراتيجية حول العالم، مهما كانت ردود المنافسين العالميين الآنيين أو المحتملين، وليس أدل على ذلك من أن خطتها للدرع الصاروخية، قد بدأت بالفعل تجد طريقها على الأرض، ففي أوائل فبراير/شباط الماضي استقبلت القاعدة الأمريكية الإسبانية “روتا” أقصى جنوب إسبانيا السفينة الأولى ضمن منظومة الدرع الصاروخية، وسينشر البنتاغون في قاعدة روتا البحرية أربع سفن حربية من نوع المدمرات التي ستحتضن الصواريخ التي بدورها ستعمل على اعتراض صواريخ تهدد أمن أوروبا الغربية، وباقي أعضاء حلف الأطلسي والأهم “فضاء الولايات المتحدة الأمريكية” .
وعملياً وصلت بالفعل إلى ميناء قاعدة روتا المدمرة USS Donald Cook وخلال شهر يونيو القادم، سيتم نشر سفينة أخرى وهي US Ross وخلال السنة المقبلة سيتم نشر سفينتين أخريين، وهما US Carney وUS Porter لتكتمل منظومة الدرع الصاروخية، ما حاجة أمريكا إذاً، إلى أسلحة تقليدية ومئات الآلاف من الجنود طالما أنها ضمنت ولو نسبياً فضاءً عصياً على الاختراق إذا وجهت إليه صواريخ الأعداء؟
يبدو كذلك أن مراجعة التوجهات الأمريكية التي يقوم عليها وزير الدفاع هاغل، تتجاوز الأسلحة التقليدية، إلى النووية حيث أمر في أواخر شهر يناير المنصرم بمراجعة عمليات القوة النووية الأمريكية الحديثة في القرن الحادي والعشرين .
خطط هاغل للقوة العسكرية الأمريكية، تتفق سراً مع توجهات باراك أوباما المعروفة بالقيادة من الخلف، إنه ليس جورج بوش الذي يعلن حربا صليبية على العرب والمسلمين، أو في مواجهة الصين، إنه يحاول أن يكون نسخة عصرانية للقوة الأمريكية الريغانية في ثمانينات القرن المنصرم، قوة عسكرية مسيطرة، لكن شرط أن يتحول جيشها كماً وكيفاً، ليجعل من أمريكا محور ومحرك عالم متحول أعيد توازنه .

*كاتب وباحث مصري

:::::

“الخليج”