السلفية من السلمية إلى «عولمة الجهاد» وسوريا

رانية الجعبري

بدأت الجماعات السلفية بعقيدة سلمية، ترفض الخروج على الحاكم، وانتهت اليوم إلى جماعات تحمل لواء «الثورة» والخروج على الحاكم بحجة الدفاع عن الأعراض التي تنتهك، والدماء التي تسيل. فهل هذا وفاء لإطارها النظري، الذي يطالبها بأن تكون بعيدة عن السياسة وقريبة من دعوة الناس للإيمان والأخلاق؟ أليست قناعتها الرافضة لتأسيس الأحزاب تلخص عدم جواز الانخراط في السياسة؟
ثمة أسئلة حقيقية تبحث عن إجاباتها حول طبيعة الظرف الذي نقل هذه الجماعات من خانة الدعوة السلمية إلى خانة «الثوريين» المنتفضين.
وثمة سؤال يخيف الأنظمة العربية أكثر من غيرها، فمن هو الشيطان الآتي من وجهة نظر هذه الجماعات؟ ففي السبعينيات كانت هذه الجماعات المتطرفة ترى في الاتحاد السوفياتي الشيطان الأكبر، وقبل أكثر من 10 سنوات أصبحت الولايات المتحدة هي ذلك الشيطان، واليوم اصبح النظام السوري هو الشيطان.

من الدعوة إلى السلطة

إن تتبع السلفية في الكتب والوثائق لا يقل صعوبة عن تتبعهم على أرض الواقع، فالتناقضات التي قد يلمسها الصحافي في تصريحات بعضهم، إنما هي موجودة في مراحل تطورهم. إذ بدأت السلفية كحركة سلمية. ويقول الكاتب والباحث في مركز الدراسات الإستراتيجية في الجامعة الأردنية إبراهيم الغرايبة، لـ«السفير»، «تاريخيا لم تكن السلفية إلا حركة تشدد اجتماعي وديني واعتدال سياسي، وعادة تكون حليفة للنظام وتتبنى طاعة ولي الأمر»، مؤكدا أن مصطلح السلفية «الجهادية» غير دقيق، فلا جامع بين السلفية والقتال والسياسة، «برأيي يمكن تسميتها بالجماعات الإسلامية القتالية».
«التزمت الدعوة السلفية، منذ البداية، بالابتعاد عن الشأن السياسي، والتركيز على الحقل الديني والوعظي والفقهي» يقول الباحث المتخصص بالجماعات الإسلامية محمد أبو رمان. ويضيف، في بحثه بعنوان «السلفية في المشرق العربي»، أن «معارك السلفية الأولى مع الإسلاميين الآخرين كانت حول قضايا فقهية ودينية، مثل الصلاة على النبي بعد الأذان، وكيفية الصلاة، والموقف من الصوفية».
من تلك البوابة بدأ السلفيون ينافسون الجماعات الإسلامية الأخرى، تحديداً جماعة «الإخوان المسلمين»، على النفوذ في المساجد والجامعات، فأخذت تظهر المجموعات السلفية في مساحات مختلفة من المشهد الاجتماعي الأردني، من دون أن يكون لها أي دور سياسي فاعل، حسب أبو رمان.
هنا نلمس التناقض الأول، وهو تبني هذه الجماعات في بداياتها للدعوة وعدم الانخراط في السياسة، ومخالفتها لذلك في ما بعد، والأمر الثاني، وهو الأهم، التزامها بعدم الخروج على الحاكم، وهي اليوم ومنذ ثلاث سنوات تقاتل في سوريا بهدف الخروج عن الحاكم، ما يشير إلى أن هذه الجماعات غير المنظمة، والتي لا تؤمن بالتنظيم الحزبي، دخلت في مراحل تطور تنافي قناعاتها الأولى، فمن السلمية إلى الحرب، ومن الدعوة إلى محاولة الوصول إلى السلطة كما في أفغانستان وكما تسعى اليوم في سوريا.
فما الغريب أن نسمع في الأيام المقبلة أنها تسير نحو التنظيم الحزبي الذي تراه أقرب لـ«الكفار» وديموقراطيتهم، فمنظرو التيار السلفي في الأردن لم ينفوا إمكانية تأسيس مجلس شورى، وقد أوضح القيادي في التيار السلفي الأردني محمد الشلبي، في لقاء سابق نشرته «السفير»، أن انتخاباتهم تختلف عن انتخابات الآخرين، «فالمرشحون فيها ثقات، ومن يصوتون ثقات أيضا، وليس كما يجري بين عامة الناس».
ويبدو أن هذه الجماعات تبدأ بطابعها الدعوي المسالم، حتى إذا تغيرت الظروف، سعت الى تغيير القناعات وفق الظروف، فحكاية «الجهاد» المسلح لم تبدأ، وفق الغرايبة، إلا في مصر على يد «التيار المتشدد من جماعة الاخوان المسلمين» إذ نمت بقوة كردٍ على صراعها مع الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، وبسبب التضييق والملاحقة انتقلوا إلى أفغانستان، وهناك بدأ فصل جديد لم يكن في السابق اسمه «السلفية القتالية»، وللمرة الأولى في التاريخ نسمع بفكرة «الجهاد العالمي» في أفغانستان. يصمت الغرايبة قليلا، يتأمل الفكرة، ويقول «عولمة الجهاد، جهاد غير مرتبط بمكان معين».
وهذا «الجهاد» الذي تم إعلانه في أفغانستان، صاغ خطابه على هذا النحو، الطريق إلى فلسطين تبدأ من أفغانستان، رغم أن القتال الجاري ليس ضد أميركا، حاضنة إسرائيل، بل ضد عدوها اللدود الاتحاد السوفياتي.

السلفية تأتينا من أبواب «النفط والهزيمة» الواسعة

يقول الغرايبة، في كتابه «جماعة الاخوان المسلمين في الاردن (1946-1996)»، ان العالم العربي شهد مدا اسلاميا بعد هزيمة حزيران في العام 1967، كما بدأت الحركات القومية واليسارية بالتراجع والانحسار.
ويضيف إلى ما سبق، خلال حواره مع «السفير»، الحضور الاجتماعي والاقتصادي السعودي الذي صحبه تغير بأنماط التدين، إذ اختار كثير من أبناء البلد السفر إلى السعودية والخليج العربي للعمل، فاعتنقوا التدين السلفي.
لكن من المحتّم أن الهزيمة كانت الباب الأوسع للتدين السلفي، يقول الغرايبة، مضيفا إن «التطرف رد نفسي على الهزيمة، ويمكننا تتبع المراحل كلها التي نحت فيها الشعوب إلى التطرف. كلها كانت بعد الهزائم، فقد ردت ألمانيا على هزيمتها بالحرب العالمية الأولى بالنازية، وإن اللجوء للتطرف يحميك من الشعور بالضعف».

استثمار «روح الهزيمة» في مواجهة السوفيات

شقّت أميركا طريقها لاستغلال الجماعات الدينية الإسلامية لتحقيق مطامعها في النفط، وقد أقنعت شركتا «كاليفورنيا» و«تكساس» للنفط وزير الداخلية والنفط الأميركي هارولد إيكز الذي كان يعتبر الذراع الايمن للرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت، بعدم ترك السعودية للنفوذ البريطاني، وذلك وفق ما ورد في كتاب «لعبة الشيطان.. دور الولايات المتحدة في نشأة التطرف الإسلامي» لمؤلفه روبرت دريفوس.
وبالفعل فإن السعودية، التي تتبنى الفكر الوهابي، لم تكن مصدر النفط وحسب، بل مصدر الفكرة التي يمكنها الشيوع والتأثير على وعي جماهير عربية واسعة تتوق للوحدة والقومية العربية، والتي تتخذ من الاقتصاد الاشتراكي عقيدة اقتصادية تمكنها من التحرر وفك الارتباط مع القوى الاستعمارية. ويخلص دريفوس، في كتابه للنتيجة التالية، «لذلك ومن أجل مناهضة الشيوعية والقومية العربية شجعت السعودية على نمو الإخوان في مصر والشرق الأوسط قاطبة»، مضيفا «شعر عدد من ملوك السعودية بتهديد من الشيوعية ورأوا في الإخوان المسلمين وغيرهم من اليمين الإسلامي حركة مناهضة للشيوعية، وكان عبد الناصر في مصر يشكل تهديدا لا يقل أهمية».
وهكذا بدأت رحلة التصدي لـ «كفار» يسكنون الاتحاد السوفياتي ولهم أتباع في أرجاء الوطن العربي!
سوريا لم تكن بعيدة عن كل هذا، فيشير أبو رمان إلى أن سوريا عرفت السلفية في مرحلة مبكرة من تاريخها الحديث بعد تأثر جمع من الإصلاحيين الإسلاميين فيها بالحركة الوهابية، لكنه يشير إلى أن التدين في سوريا بقي أقرب إلى الإسلام الصوفي والإسلام الشعبي، ما ساهم في ترسيخ هذا التيار تبني الدولة السورية للإسلام الصوفي واستخدامه في أجهزتها الأيديولوجية، كمؤسسة الإفتاء والقضاء الشرعي.
ولعل الطلاق البائن بين النظام السوري وبين الجماعات السلفية كان في العام 1980 عند إقرار القانون 49 الذي ينص بالإعدام على من ينتسب إلى «الإخوان المسلمين». وهذا ما يصفه أبو رمان في بحثه قائلا «تم التعامل مع قوى الإسلام السياسي الحركي والجهادي بشكل عنيف، وتوج ذلك في بداية الثمانينات في عهد (الرئيس الراحل) حافظ الأسد بتدميره مدينة حماه، وتشتيت جماعة الإخوان المسلمين وغياب تأثيرهم في الداخل».
الأردن لم يكن بعيدا عن كل هذا، ففي منتصف القرن الماضي تقريبا ساهم المسؤول العسكري والأيديولوجي في «الإخوان» سعيد رمضان بتحويل الحركة الإسلامية في الأردن من السرية إلى العلنية. ويشير دريفوس إلى أن الذي سهّل لرمضان مهمته هو التاجر الأردني الثري عبد اللطيف أبو قورة الذي كانت تربطه علاقة وثيقة مع الملك عبد الله الأول. وراح رمضان وأبو قورة يطرحان قضية مواجهة مصر وبقية العالم الإسلامي في القرن العشرين للشيوعية والقومية اللتين تنكران تطبيق الشريعة الإسلامية في المجتمع.

:::::

“السفير”