التقرير الأسبوعي لمراكز الأبحاث الاميركية

رئيس التحرير: د. منذر سليمان

نائب رئيس التحرير: جعفر الجعفري

 

مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

واشنطن، 6 حزيران (يونيو) 2014

المقدمة:       

 

          بذلت مراكز الابحاث المختلفة جهودا مكثفة للاهتمام بزيارة الرئيس اوباما لاوروبا، اذ جمعه لقاء قمة حلف الناتو في بروكسل وحضور احتفالات ذكرى انزال قوات الحلفاء على شواطي نورماندي الفرنسية الى جانب رؤساء دول متعددة، من بينها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

تمت زيارة الرئيس اوباما على خلفية تنامي دعوات معسكر صقور الحرب “لاستدارة” الحلف بكامل اعضائه ومواجهته “التهديد الروسي” المتخيل. سيستعرض قسم التحليل تلك المسألة وتبيان العوامل المرافقة التي شهدت تعقيدات تختلف عن ظروف الحرب العالمية الثانية، وصعوبة مهمة حلف الناتو لأقلمة دول اوروبا الشرقية واعضاء حلف وارسو سابقا خاصة لتواضع امكانياتها العسكرية وبُناها المؤسساتية، مما يضعها في مرتبة متدنية عن نظيراتها اعضاء الحلف من الدول الغربية، وما سيترتب على الحلف القيام به من خطوات واجراءات وتدابير.

 

ملخص دراسات ونشاطات مراكز الابحاث

جولة اوباما الاوروبية

 

          روسيا كانت الشاغل الاساس لمؤسسة هاريتاج حول زيارة اوباما الاخيرة، اذ حثته على “ابلاغ روسيا بكل وضوح ان اي عدوان عسكري موجه ضد دولة عضو في حلف الناتو سيحتم عليه استدعاء الحلف للانعقاد على الفور والعمل بموجب المادة الخامسة من اتفاقية شمال الاطلسي لعام 1949 .. والتأكيد للحلفاء الاوروبيين بأن مستقبل الحلف مرهون بزيادة معدلات الانفاق على القدرات الدفاعية، وجاهزية كافة اعضاء الحلف الوقوف بوجه مساعي روسيا لاستعادة منطقة نفوذ في دول اوروبا الشرقية المستقلة والقوقاز.” وطالبت المؤسسة دول الحلف ابطال الاتفاقية المعقودة مع روسيا عام 1997″ التي تحد من التواجد العسكري للحلف في اوروبا الشرقية.

          تراجع عديد القوات المسلحة لحلف الناتو اعتبره معهد المشروع الاميركي تطوير لمهامه المستحدثة في انشاء “قوات برية صغيرة وسريعة الحركة مكلفة اساسا بالتعاطي مع عدد واسع من حالات الطواريء خارج نطاق انتشارها.” واضافت ان تلك القوات “اكتسبت خبرة قتالية في ساحات البلقان وافريقيا والعراق وافغانستان،” ملفتة النظر الى ان تخفيض اعدادها ربما “ناتج عن قيود الميزانيات العسكرية، وافتقادها للمعدات المطلوبة لنشرها سريعا،” اذ ان “التخفيضات المقررة للقوات البرية الاميركية .. ستؤدي الى قرب فقدان حلف الناتو دعم عضو اساسي يمتلك قدرات استراتيجية – اي القدرة على التحكم بالاراضي والسكان معا.”

          اعرب معهد واشنطن عن انزعاجه من محاولات تركيا “النأي بالنفس عن الحلف .. والقاء نظرة فاحصة على توجهاتها المستقبلية طويلة الامد تثير القلق.” واوضح ان “التغيرات الجارية في النبض الشعبي الداخلي، وانماط الاتجار، والتفكير الجيوستراتيجي” كلها مؤشرات اساسية على تحولات في توجه تركيا نحو الغرب لعقود مقبلة.” وطالب صناع القرار بالعمل على “دراسة تلك التحولات والسعي لتخفيف التداعيات السلبية كلما كان ذلك ممكنا.”

          اعرب معهد كاتو عن اعتقاده ان نصيب الولايات المتحدة من ميزانية الانفاق العسكري هي الاعلى من بين دول حلف الناتو مما حفز اعضائه “الاتكال على الانفاقات الاميركية لتعزيز اوضاعهم الدفاعية . . الناجمة عن ثقافة الاعتماد والتبعية التي اوجدناها لديهم.” واضاف ان اقلاع الدول الاوروبية عن تخصيص مزيد من الموارد للشؤون الدفاعية ادى الى “وضع اضحى فيه حلفاءنا الاثرياء بينهم اجنحة تابعة” لاميركا وسيبقى الوضع على ما هو عليه “والوضع العسكري للحلف مهمش وغير ذات صلة.”

سورية

          اعتبر معهد كارنيغي ان الانتخابات الرئاسية في سورية “وطدت توجه القيادة السورية في حملة مكافحة الارهاب،” اتساقا مع الحملة الشبيهة” للرئيس المصري المنتخب، عبد الفتاح السيسي. وزعم المعهد ان الحكومة السورية “ستستمر في السماح للمجموعات المسلحة العاملة داخل سورية مثل الدولة الاسلامية في العراق والشام بممارسة نشاطاتها من اجل تركيز الانظار على تقاطع مصالح سورية والدول الغربية في مكافحة الارهاب .. وسيسوق الرئيس الاسد نفسه كشريك موثوق به للجهود العالمية لمكافحة الارهاب.” وحذر المعهد الدول الغربية من “عدم تكرار الخطأ الماثل في المشهد المصري .. ويتعين على الغرب العمل بشكل حاسم للخروج من دوامة النفاق التي مهدت لعدد من الديكتاتوريات العربية .. التموضع كحلفاء أمنيين للغرب.”

مصر

          حث معهد واشنطن الحكومة الاميركية المضي قدما في علاقتها مع مصر “ورفعها الى المستوى الاستراتيجي .. مما يتطلب (اميركيا) تعزيز التحالفات الثنائية التي تضعضعت، والتركيز على أهمية التعاون الأمني .. وتشجيع الاصلاحات الاقتصادية والديموقراطية.” واستدرك بالقول انه تبغي بالولايات المتحدة “ادراك حدود تأثيرها ونفوذها .. وتبني نظرة بعيدة المدى وترتيب الاولويات للفوز بدعم متعدد الاطراف لأي مبادرة سياسية.”

العراق

          اشارت مؤسسة هاريتاج الى أهمية التصدي “لارهاب الدولة الاسلامية في العراق والشام،” متهما ادارة الرئيس اوباما بالتقصير “لاخفاقها في التعاطي مع تفشي تهديدات تنظيم القاعدة في العراق .. وينبغي عليها العمل بشكل وثيق مع الحكومة العراقية الجديدة لمحاربة داعش وتطبيق استراتيجية شاملة وللمصالحة الوطنية بغية تجفيف منابع الدعم للمتمردين ..”

          جدد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية نظرته الى مصدر التحديات التي يواجهها العراق “وهي تراكم سلسلة اخطاء ارتكبت قبل وبعد الغزو بقيادة اميركا .. والركض المستمر لترميم جراح ناجمة عن افعال ذاتية ..” وحث الحكومة العراقية على عدم التطلع للخارج لحل مشاكلها “وليس باستطاعة اي قوة خارجية تغيير الاوضاع.”

“مفاوضات السلام”

          حث معهد كارنيغي دول الاتحاد الاوروبي التحرك لاعادة احياء جولة المفاوضات الثنائية بين السلطة الفلسطينية و”اسرائيل،” نظرة يعززها “عقود عدة متواصلة كانت اوروبا حاضنة لاقتراحات حلول متعددة؛” ملفتا النظر الى ان المجموعة الاوروبية سبقت الولايات المتحدة في تبنيها لاقتراح وزير خارجيتها حل الدولتين عام 1971.

تنامي قوة التنظيمات الجهادية والسلفية

اوضحت دراسة اصدرها معهد “راند” ان اعداد “السلفيين والمجموعات الجهادية والمقاتلين” قد تضخمت بشكل مقلق “منذ عام 2010،” وتشعبت رقعة انتشارها، مما يتعين على الولايات المتحدة “ادامة التركيز على هدف مكافحة انتشار المجموعات الجهادية، التي استعادت قواها في شمالي افريقيا والشرق الاوسط.”

        وجاء في الدراسة ان هيكلية المجموعات الجهادية قد تطورت وابتعدت عن النمط المركزي، اذ “توزع قرار القيادة والتحكم على اربع مستويات: 1 – مجموعة النواة المركزية للقاعدة بزعامة ايمن الظواهري ومقرها الاراضي الباكستانية؛ 2 – مجموعتان في ساحات سورية والصومال واليمن وشمال افريقيا اعلنتا الولاء للنواة المركزية ؛ 3 – مجموعات متنوعة من جهاديي السلفيين معلنة ولاءها للقاعدة بيد انها عازمة على اقامة امارة اسلامية؛ 4 – شبكات وافراد معجبين” برسالة القاعدة.

        واضافت ان تهديد تلك المجموعات متباين ومتشعب سيما وانها “ابدت اهتماما ضعيفا في مهاجمة الاهداف الغربية، بينما تشكل مجموعات اخرى، مثل القاعدة في شبه الجزيرة العربية، تهديدا مباشرا للاراضي الاميركية .. وعدد من المجموعات الجهادية السلفية تشكل تهديدا متوسط المدى نظرا  لرغبتها وقدرتها على استهداف مواطنين ومؤسسات اميركية خارج الاراضي، تتضمن السفارات الاميركية.”

        وحثت الدراسة صناع القرار على ضرورة التوصل لصيغة مقبولة لتوفير الامكانيات اللازمة بالتزامن مع متطلبات الاستراتيجية الجديدة المتجهة نحو آسيا في ضوء قيود تخفيض الميزانيات العسكرية، “وبلورة استراتيجية تتأقلم مع متطلبات مكافحة الارهاب تستهدف المجموعات الجهادية السلفية في سورية، التي بلغت حصتها اكثر من نصف كافة المجموعات لعام 2013 في العالم قاطبة، والتصدي لها سواء بالسبل السرية او بالتعاون مع الحلفاء الاقليميين والمحليين.”

التحليل:

زيارة اوباما الاوروبية: تحريض الناتو لمواجهة روسيا

تجديد مهام حلف الأطلسي

شهدت الساحة السياسية الاميركية ترويجا واسعا وآمالا كبيرة علقت على زيارة الرئيس اوباما لكل من بروكسل، لحضور مؤتمر قمة الدول الصناعية السبع باستثناء روسيا، وفرنسا للاحتفال بمعركة الحلفاء التي عدت حاسمة لهزيمة النازية، تمثلت بانزال عسكري ضخم على شواطيء مقاطعة نورماندي الفرنسية. ايضا، ترتب على الزيارة مساعي اميركية كبيرة “لتفعيل” حلف الناتو عسكريا واعادة الدول الاوروبية المشاركة الى حظيرة الحلف في ظل اوضاع اقتصادية داخلية متردية، واعلان اوباما (تبعه ايضا تصريح وزير الدفاع الاميركي، تشاك هيغل)، ان بلاده استحدثت صندوقا ماليا بقيمة مليار دولار لدعم مساهمات الاوروبيين بغية حثهم ايضا على “اعادة هيكلة تراتبية الحلف” دون المساس باهدافه “وانشاء قوات تدخل عسكري تابعة له للانتشار في ساحات الشرق الاوسط وآسيا وافريقيا ..”

          الأهم ربما التوقعات المتباينة والمتناقضة احيانا بامكانية لقاء ثنائي مباشر بين الرئيس الاميركي ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، لبحث اهم الملفات الساخنة بين البلدين: اوكرانيا وسورية، اللتين شهدتا انتخابات رئاسية متزامنة؛ حظيت الاولى بدعم وتأييد اميركي، بينما واجهت الثانية مقاطعة استباقية للنتائج ووصفها باقذع الاوصاف قبل حدوثها، لتؤكد نتائجها التفاف ملايين الشعب السوري والادلاء باصواتهم بكثافة لافتة حفاظا على الدولة السورية ومشروعها الوطني.

          اللقاء المرتقب خيب آمال عديدة بعد تمنّع الرئيس اوباما الظهور مع الرئيس بوتين او بالقرب منه، مما اضطر المضيف الفرنسي، فرانسوا اولاند، الى تناول مأدبة العشاء مرتين بفاصل ساعتين مع الضيفين دون ان يلتقيا. احد مستشاري الرئيس اوباما لشؤون الأمن القومي والمرافق له في الزيارة، بن دورس، صرح بأن الرئيسين اوباما وبوتين اجريا لاحقا نقاشا ثنائيا على هامش مراسيم الاحتفال، مشددا على انه نقاش غير رسمي “إنها محادثة غير رسمية وليست اجتماعاً ثنائياً رسميا،ً” في اعقاب اعلان قصر الاليزيه عن لقائهما.

ربما ما كان يدور في ذهن الرئيس اوباما امتعاضه الشديد من اعلان فرنسا قبل ساعات قليلة من لقاء القمة انها ماضية قدما في تلبية التزاماتها التجارية نحو روسيا التي اشترت سفينتين حربيتين من طراز “ميسترال” لحمل قوات مشاة البحرية والطائرات العمودية المقاتلة.

          ترتيبات الزيارة الرسمية للرئيس اوباما اصيبت بانتكاسة عملياتية قبل ان تبدا، اذ تعرض المسؤول الاميركي “الكبير” المكلف بالترتيبات في نورماندي الى اصابة خطرة بانفلونزا الخنازير، H1N1، قبل بضعة ايام من بدء الزيارة نقل على اثرها الى المستشفى لتلقي العلاج  ارفقتها السلطات الفرنسية بالاعلان عن تعرض نحو 20 مواطنا للاصابة بالمرض والاشتباه بتعرض 10 آخرين لذات العارض.

          الاحداث والتطورات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي السابق اعادت تسليط اضواء اعضاء حلف الاطلسي على استمرار المساهمه في الميزانية ومبررات وجوده، سيما وان الهدف المعلن لتأسيسه قد تبخر، اي حماية الدول الغربية لاراضي ألمانيا الاتحادية من هجوم بري مدرع مصدره حلف واسو.

          تسابق دول اوروبا الشرقية سابقا الى الفوز بعضوية حلف الاطلسي (الناتو) بعد خروجها من عباءة حلف وارسو احيا الأمل برفد الاول بدماء جديدة في البداية، خاصة دول بحر البلطيق الثلاث: لاتفيا واستونيا وليثوانيا، سرعان ما رافقها مضاعفة الاعباء العسكرية الملقاة على عاتق الاطلسي نظرا لهشاشة القوات العسكرية لتلك الدول التي “لا تملك اي طائرة مقاتلة وبالكاد تستطيع تخصيص ثلاث مدرعات مجتمعة.” للدلالة على مدى الأزمة الاقتصادية المرافقة، طُلِب من استونيا تخصيص 2% من ناتجها القومي السنوي للانفاق على الشؤون العسكرية، تليها دول البلطيق الاخرى في تخصيص نسبة متصاعدة من الدخل السنوي للشؤون العسكرية.

          الدول الاوروبية الرئيسة في الحلف تقتطع اضعاف تلك النسبة من ناتجها السنوي للانفاق على الشؤون العسكرية، والتي تحثها واشنطن باستمرار على المشاركة بنسبة أعلى من الدخل القومي؛ وتراجعت قليلا امام شبح التضخم والمصاعب الاقتصادية. وامتثلت كل من بريطانيا واليونان للمساهمة بنسبة 2%، جنبا الى جنب مع مساهمة استونيا، مما دفع باليونان الى تبرير خطوتها بأنها جاءت بدافع التصدي للاطماع التركية وليس لمواجهة روسيا. باقي الدول كانت مشاركتها ادنى من تلك النسبة: بولندا 1.8%؛ المانيا 1.3%، ايطاليا 1.2%؛ واخفقت كل من فرنسا وتركيا في المساهمة المطلوبة. الأمر الذي تسبب بتراجع الميزانية العامة لحلف الناتو 1.6% للعام المنصرم.

          في المقابل، بلغ انفاق الولايات المتحدة نحو 4.1% من الناتج القومي على الشؤون العسكرية.

تبدلات مهمة حلف الناتو

          استطاعت الولايات المتحدة تطوير مشاريع هيكلية القوة العسكرية للحلف من تشكيلات عسكرية تقليدية، قبل انهيار حلف وارسو، الى قوات اصغر حجما سريعة الحركة تستخدم في مهام التدخل السريع عبر العالم، مما انعكس في تخفيض الانفاق الاوروبي على القوات العسكرية وتحويلها المدخرات للانفاق على البرامج الداخلية.

          وسارع بعض الخبراء الغربيين الى توصيف حلف الناتو بعد انتهاء الحرب الباردة بـ “حلف من الديموقراطيات اكثر منه حلفا عسكريا.” المعلق اليميني المعروف، شارلز كراوثهامر، تنبأ عام 2002 أنه “ينبغي اعادة النظر بدور حلف الناتو ليصبح اكثر فائدة. ومهمته الجديدة يجب ان يهتم باستدراج روسيا كحاضنة لدخولها لاوروبا والتكامل مع الغرب. وذلك عائد بالضبط  الى تحول الناتو من حلف عسكري الى نادٍ من الديموقراطيات عابرة للمحيط الاطلسي يسهّل على روسيا الانضمام بسلاسة .. حلف الناتو (القديم) قد ولى. دعونا نستقبل روسيا للانخراط في الحلف الجديد.”

          غني عن القول ان تلك النبوءة قد ولت ايضا، بيد ان الحلف لن يكون بوسعه العودة لممارسة مهمته الاصلية بتجهيز ومرابطة قوات عسكرية تقليدية ضخمة على الاراضي الالمانية من ضمن خطة طواريء. فقد برزت ساحات مواجهات متعددة تنتظر ماذا سيفعله الحلف فضلا عن ضرورة تخصيص موارد اضافية لحماية بعض اعضائه الضعفاء واعانتهم على النهوض والاعتماد على قواهم الذاتية.

          وعليه، تحتل بولندا مركزا متقدما وحيويا في النظرة المتجددة للحلف، سيما وانها تمتلك اكبر مؤسسة عسكرية، عدة وعتادا، بين منظومة دول اوروبا الشرقية وتنتهج سياسات عدائية ضد روسيا. كما اسهمت بولندا في ارسال عدد من قواتها العسكرية ضمن قوات حلف الناتو الى افغانستان، مما يعزز امتلاكها نواة قوات عسكرية مدربة. ولدى القوات العسكرية البولندية نحو 900 مدرعة وما ينوف عن 100 طائرة مقاتلة، جلها من صناعة الاتحاد السوفياتي لكنها تسندها بمدرعات المانية حديثة من طراز “ليوبارد.”

          يدرك القادة العسكريين والاستراتيجيين الاميركيين ضعف القوات العسكرية لدول الحلف التي تشترك حدوديا مع روسيا، باستثناء تركيا وبولندا. الأمر الذي يستدعي تشعب مهام الحلف بالتصدي لروسيا بتحريك قوات عسكرية تقليدية بطيئة الحركة يرافقها قوات محمولة سريعة الحركة تتخذ مواقعها على الفور على اراضي الدولة العضو في الحلف المهددة، وباستطاعتها الاشتباك سريعا مع القوات الروسية.

          وشرعت الولايات المتحدة العمل لتحقيق ذلك منذ زمن، وارسلت في شهر نيسان الماضي نحو 600 عنصر من المظليين من اللواء 173 المحمول جوا للمرابطة في استونيا ولاتفيا وليثوانيا وبولندا “للاشتراك في مناورات عسكرية يجريها الحلف.” كما عززت المفرزة الجوية البولندية بطائرات مقاتلة اضافية من طراز اف-16 مع طواقمها بغية التواصل وتنمية سبل التعاون مع سلاح الجو البولندي. وذلك اضافة لثلاث طائرات نقل ضخمة من طراز C-130J التي ترابط في قاعدة بوويدز الجوية في بولندا، كجزء من اجراءات التناوب الاعتيادية التي تتم كل اسبوعين.

          يجادل اولئك الخبراء والاستراتيجيين ان لحلف الناتو ضرورة اخرى تتمثل بنشر قوات ومعدات مسبقا في الدول التي تشترك حدوديا مع روسيا مما يعزز مهمتها كقوة اشتباك اولية تسمح لرفدها بتعزيزات سريعة في زمن الازمات.

          وتشكل العمليات الجوية لحلف الناتو في دول بحر البلطيق تطبيقا مبكرا على ابعاد المهمات المقبلة. وقامت الولايات المتحدة في شهر آذار الماضي بنشر ست طائرات مقاتلة اخرى من طراز F-15C لتعزيز الطائرات الاربعة من ذات الطراز والمرابطة في ليثوانيا تمكنها من تحريك سريع للطائرات المعترضة المتوفرة لدى سلاح الجو بغية حماية دول  البلطيق. جدول التناوب للقوات الاميركية بدء مطلع العام الجاري وانتهى في بداية شهر ايار الماضي. ومنذ ذلك الحين تسلمت كل من بولندا وبريطانيا وفرنسا والدانمارك مهام الحماية الجوية لبلدان بحر البلطيق.

          كما اقدم حلف الناتو على تعزيز تواجده قواته العسكرية في جنوب شرق اوروبا، رغم تراجع واضمحلال فرص تعرضها لتهديد ما. وساهمت كندا بعدة طائرات مقاتلة لتعزيز مهام قوات الحلف في الحماية الجوية هناك. فضلا عن ذلك، هناك ايضا قوات التناوب للبحر الاسود ومقرها قاعدة “ميخائيل كوغالنيشيانو،” الجوية في رومانيا والتي تتضمن مرابطة نحو 250 عنصر من قوات مشاة البحرية الاميركية (المارينز)، يضاف اليها نحو 500 جندي و 175 عنصر مارينز اميركي يقيمون بشكل مؤقت في القاعدة الجوية المذكورة. قوات مشاة البحرية هي احد مكونات قوات المارينز الخاصة لمهام جو-ارض، التي شكلت بغية نشرها سريعا للتعامل مع عدد كبير منالعمليات العسكرية في افريقيا واوروبا.

          بالعودة للقاء قمة حلف الناتو في بروكسيل تجدر الاشارة الى اتخاذها تدابير اضافية لبلوغ تعزيز عاجل لقوات دول الحلف. فقد صادق وزراء دفاع الحلف على “خطة عمل للاستعداد القتالي،” التي ترمي لتطوير قدرات قوات التدخل لدول الحلف، وتحديث القدرات الاستخبارية والاستطلاعية للحلف، وتخزين معدات ولوازم عسكرية مسبقا في دول الحلف المطلة على روسيا، وتركيز هدف التدريبات العسكرية لقوات الحلف على مواجهة التهديد الروسي. الولايات المتحدة من جانبها وعدت بتوفير بضعة آلاف من القوات العسكرية لتعزيز قوات التدخل السريع، تتضمن لواء من قوات فرقة الفرسان الاولى، وعدد من طائرات تزويد الوقود جواً وسفن حربية مرافقة.

          كما صادق وزراء الدفاع على خطة اعدتها المانيا لتعزيز تواجد القوات متعددة الجنسية في دول اوروبا الشرقية. ورحب الأمين العام للحلف بقرار الدانيمارك والمانيا وبولندا لرفع جهوزية القوات متعددة الجنسيات المرابطة في الشطر الشرقي الشمالي من بولندا. وقال “من شأن القرار شد عضد قدراتنا للتعامل مع التحديات المستقبلية في المنطقة. فضلا عن انها مساهمة معتبرة لمسألة الدفاع المشترك.”

          في سياق هذا التمدد وتجديد المهام المنوطة بحلف الناتو ينبغي على قيادته تعزيز سبل التعاون مع الدول غير الاعضاء في الحلف “والمؤيدة للغرب.” وعقب لقاء وزراء دفاع الناتو مع نظيرهم الاوكراني، ميخائيل كوفال، اعرب المجتمعون عن دعمهم للحكومة الاوكرانية في سعيها لبسط الأمن وتحقيق الاصلاحات الدفاعية. كما اجمع اعضاء اللقاء على بلورة حزمة مساعدات شاملة لاوكرانيا من شأنها تثبيت اقدام قواتها المسلحة، وسيتم التوصل للصياغة النهائية خلال الاسابيع المقبلة.

          تدرك قيادة حلف الناتو قصور امكانياتها في نشر وحدات عسكرية كبيرة في “الدول الأمامية،” وحاجتها لتصعيد وتيرة الدورات التدريبية التي تتطلب تدوير قوات اضافية على اراضي تلك الدول، وفي الوقت نفسه تعزيز اطر التعاون مع القوات المسلحة المتعددة. ونفذت قيادة الحلف العسكرية مناورات عسكرية كبيرة اطلقت عليها مناورات “الرمح الثابت 1،” على اراضي استونيا بدأت يوم 16 ايار وانتهت في 23 منه. وشارك في المناورات نحوة 6,000 جندي ينتمول لبلجيكا والدانيمارك واستونيا وفرنسا ولاتفيا وليثوانيا وبولندا وبريطانيا، الى جانب مشاركة اميركية. يشار الى ان عدد لا باس به من القوات المشاركة تموضع مسبقا في استونيا والمشاركة في مناوراتها التي بدأت يوم 5 أيار وامتدت بهم المهمة للمشاركة في مناورات حلف الناتو لاحقا.

          المستجدات الهيكلية على حلف الناتو قد تستدعي بقاء وحدات مدرعة في الخدمة بعد نيلها ارشادات بالتسريح، منها عدد تابع لاعضاء الحلف المشارك في الحرب على افغانستان والذين كانو يتأهبون لاخراج المدرعات الثقيلة من ساحة القتال. كما قد ينطوي على المتغيرات اعادة الاهتمام لتقنية المدرعات وتعاظم الاعتماد عليها بشكل اكبر مما شهدته ابان العقد المنصرم. وعليه، سيحظى قطاع المجمع الصناعي العسكري الاميركي بنصيب الاسد من الميزانيات المرصودة للقوات العسكرية وجهود تحديث معداتها ولوازمها.

 

هل تكفي التدابير المتخذة

          بعد انتهاء الحرب الباردة وتقليص ميزانيات الانفاق العسكرية تراجع حجم قوات حلف الناتو، وتصاعدت المشاورات بين اعضاء الحلف سعيا لترميم توجهات الحلف بما يلائم التحديات الراهنة، وافساح المجال لكل دولة عضو المضي في تحديث قواتها العسكرية.

          لا يزال الحلف ينعم ببعض المزايا منها تضخم النطاق الدفاعي عما كان الأمر خلال الحرب الباردة، اذ وقعت معظم دول اوروبا الغربية آنئذ تحت مرمى نيران القوات السوفياتية. اما اليوم، فقد غاب ذلك التهديد عن كل من المانيا وفرنسا وبريطانيا، واضحى اكثر تعقيدا بالنسبة لروسيا ان تقدم على توجيه ضربات عسكرية محكمة لدول الحلف الاساسية.

          يصنف القادة العسكريين الاميركيين من ضمن مزايا الحلف تطور التقنية العسكرية المتقدمة لدوله الاساسية: اميركا، بريطانيا، فرنسا والمانيا؛ بينما لا يزال الجيش الروسي يعتمد على معدات من مخلفات الحرب الباردة، كما يقولون.

          ومن المزايا الاخرى للحلف ان نهاية الحرب الباردة وفرت له فرصة لبلورة قوات للتدخل السريع باستطاعتها القيام بمهام قتالية، كما يجري في افغانستان، والتي يتم اعدادها لمواجهات مباشرة مع القوات الروسية. وهي الفرصة التي حفزت قيادات الحلف على تعويض القصور بالانتشار الواسع في دول اوروبا الشرقية مترامية الاطراف الى الاعتماد على قوات سريعة الحركة باستطاعتها الانخراط على الفور في اي ساحة تتطلب ذلك. يشار الى ان تلك القوات تتضمن عددا كبير من العناصر القتالية المجربة في العراق وافغانستان مما يعزز اداءها الميداني اضعاف عددها المباشر.

          ويزهو قادة حلف الناتو بامتلاكهم شبكة واسعة ومنتشرة من سبل الدعم اللوجستي – في المستويين العسكري والتجاري. الأمر الذي يترجم بنشر سريع وناجع للقوات المطلوبة في دول اوروبا الشرقية عند نشوب ازمة؛ فضلا عن القاعدة الاقتصادية الواسعة للحلف مقارنة بما يتوفر لدى روسيا.

          تعتبر الشريحة العسكرية المولعة بالمغامرات والحروب ان روسيا لا زالت تشكل تهديدا لاوروبا، وامتدادا لاميركا، وتنفرج اساريرهم لعزم دول الحلف اخذ الأمر على قدرٍ عالٍ من الجدية. وتدرك تلك الشريحة حاجة الدول الاعضاء الاحدث في الحلف لتحديث قدراتها القتالية مما يعني تعاظم اعتمادها على دول الحلف الاساسية لتوفير قوات محترفة متطورة تقنيا وسريعة الحركة، لجسّ ومواجهة القوات المسلحة الروسية. ما لم يعد يقينا لدى تلك الشريحة هو مدى التزام وتضحية دول الحلف الاوروبية بموارد مالية هي في امسّ الحاجة اليها للانفاق على وَهْم متطلبات التحضير للدخول في حرب باردة مجددا يبقى المستفيد الاكبر المجمع الصناعي العسكري على ضفتي الاطلسي.

:::::

المصدر: مركز الدراسات الأميركية والعربية – المرصد الفكري / البحثي

الموقع: THINKTANKMONITOR.ORG

العنوان الالكتروني: thinktankmonitor@gmail.com