قراءة في رواية عزازيل ل يوسف زيدان
عادل سمارة
من السفح الغربي لتلك القمة الجبلية في قريتي المُطِّلة على بحر يافا بينما كنت أطوي الكلمة الأخيرة من رواية يوسف زيدان، عزازيل، كانت الشمس تغرق في بحر يافا معلنة موت نهار. أليس مدهشاً موت نهار بعدما عبَّ من طاقة الشمس طوال ساعاته الإثني عشر؟ لكنه كأي نهار يموت مخلفا ورائه بعض الحرارة كما جيوب المقاومة التي لا تنسحب بسهولة حتى وقت هزيمة الجيش الكبير.
تابعت لحظات غرق الشمس وقد أصبحت خلف بنايات أقامها الاحتلال على شاطىء يافا فبدت أعمدة ومكعبات من الإسمنت الجلف تنيخ على صفيحة ذهبية لا نهائية الامتداد، أين منها سبائك الاحتياطي الذهبي التي نهبتها الولايات المتحدة من كل الدنيا حتى من فك أسنان الهنود الحمر، وليس آخرها ما نهبته من الذهب الذي حنته ليبيا قبل افتراسها بالناتو وقوى الدين السياسي.
لافت أن انطفاء قرص الشمس في ماء البحر فلم ينثر في الأفق ولا الفضاء رذاذ هذا الإطفاء الهائل. هل هو كاتم الإطفاء كما كاتم الصوت التطبيعي الذي أنهى عبقرية ناجي العلي ؟ أم ان بحر يافا مختلف مثل يافا نفسها؟ كما هي كنيسة الإسكندرية مختلفة عن الفاتيكان.
ويافا التي تغسل قدميها صباحاً بماء البحر وجسدها نهاية النهار بعد أن دنسته الصهيونية ومنها الصهيونية العربية والفلسطينية، ليست جد بعيدة عن الإسكندرية التي تتعرى تماما على شاطىء البحر نفسه. جميل أنت ايها البحر خادم يافا وعاشق الإسكندرية المدينة التي اذاقت بطل رواية عزازيل طعم القمع السياسي في ثوب الدين وقمع العشق المحرم ممزوجا بإصرار الراهب هيبا، وربما يوسف زيدان نفسه، على أنه الأجمل.
عزازيل رواية في صراع نفسي داخل الذات الإنسانية، تتمظهر روحانيا إلى حد قد يخفي حقيقتها المادية التي تبدأ من اللحظة الأولى لولادة الإنسان أي بدء العد التنازلي لحياته الضئيلة ضآلة لا تستحق التسجيل قياسا بالزمان وصراع الإنسان فيه مع المكان. إنها مقاومة الإنسان للموت بحثاً عن الخلود. هذا هو المستوى الفلسفي في الرواية.
في مسيرة هذا الصراع الداخلي في الذات والخارجي مع المحيط، يحلق الكاتب مبينا ان الناس سلسلة من البشر وسلسلة من العزازيل (الشياطين) وبمحاولته أي الإنسان التي لم ولن تنجح في حسم هذا الصراع لا بد أن يلجأ إلى الله أو يخلق كل عالم إلهَهُ الخاص أما صلة الوصل بينه وبين الله فهو الدين.
قد تكون المسألة الأساس في الرواية محاولة الإنسان الجمع بين التمسك بالدين وتبرير الخروج على مقتضياته دون رفضه. الخروج على تقييدات الدين بالإيمان الذي هو أرحب من جهة وهو الطريق السريع والمباشر بين الفرد وبين الله بعيداً عن جميع الآخرين من جهة ثانية.
كيف لا، وهيبا بطل الرواية راهب وطبيب وعاشق وشبق ومسيحي ووثني معاً ومقابل أو إلى جانب كل واحد من هؤلاء شيطانه الذي يباريه ويقدم له النصائح. هنا الشيطان ليس الذي ألفناه، بل هو محب للشخص نفسه هو الشخص الآخر للشخص نفسه باحث له عن المتعة، ساخر من إيمانه وتقشفه يضحك منه بقهقهة او بابتسامة خبيثة في بعض الحالات. الشيطان الحقيقي هنا ليس سوى حوار العقل البشري ذاتياً. حوار صاخب لم يتوقف على امتداد الرواية قاصدا به الكاتب التأكيد على شقاء الإنسان وتردده في كل ما يفعل إلى جانب إصراره على فعل ما يفعل.
عزازيل هي اقتتال مُضنٍ داخل النفس بين قيود الدين والوثنية. يُعارك المرء نفسه حتى تخور قواه فيغط في نوم اقرب إلى الإغماء. هي محاولة تاريخية موجزة تبين كيف تمكنت المسيحية من سحق مصر الوثنية بقوة السيف والساطور. في عزازيل، قامت الغوغاء بقتل هيباتيا الوثنية لكنها الفيلسوفة الجميلة وسحلها في الشارع حتى تمزقت إرباً. هكذا يتمزق العقل والعلم والجمال على يد الغوغاء. ترى هل استلهم يوسف زيدان ماساة الحلاج هنا؟ أم يغمز من قناة هذيان التكفير والهجرة في مصر والمطالبة بهدم الأهرامات وهو ما يتمظهر اليوم بقتل العلماء وإزالة تمثال العذراء وأبي تمام في العراق وسوريا على يد الإرهاب المجسد في قوى الدين السياسي. هل يقصد يوسف زيدان أننا اليوم هناك في نفس البرزخ الزمني بين وثنية ومسيحية مصر؟ يا إلهي هل ما زلنا هناك!
حياة الراهب هيبا تملأ الرواية، مما يدفعنا للتساؤل: هل هدف الرواية تبيان الصراع بين الوثنية والمسيحية؟ أم تبيان الصراع الداخلي المديد في حياة الإنسان؟
هيبا الراهب يحل الرغبة الجنسية عند الرجل بالانتقال في لحظات اللقاء مع المرأة من المسيحية إلى الوثنية. مع المرأة يسترجع هويته الأخرى كمستلزَم لقضاء وطراً. تماماً كما تقوم قوى الدين السياسي اليوم بفتاوى جهاد النكاح لتقضي وطراً كذلك.
لم يبين يوسف زيدان جيداً، كيف ان عشيقته الوثنية أوكتافيا كانت من الجرأة بمكان إلى حد ملاقاة مصرعها تضامنا مع الأستاذة/الفيلسوفة. وربما قصد هنا، دون تعميق، بأن الإنسان العادي البسيط أو المصري الفصيح قادر على تمييز الخبيث من الطيب، قادر على الانحياز للعلم والفلسفة في مواجهة تديّنٍ فرضه رجال الدين. كأنه يقول اين هؤلاء من الفلسفة وحتى من الإيمان.
في شخص هيبا يتجلى الصراع تحديداً بين رجل الدين والرجل العادي في العلاقة بالمرأة. لقد سجل يوسف زيدان أمرا شديد الأهمية دون ان يشير إلى ذلك بشكل مبتذل، بين أن المهزوم الرئيس في الرواية هي المرأة فلم يحميها لا علمها ولا عقلها الفلسفي ولا جمالها. ما من امرأة في الرواية لم تنتهي نهاية مأساوية او حزينة، وكل ذلك بعد تمتع الرجل بها ومن ثم مغادرتها!
يأخذك يوسف زيدان وهو يصف جمال كل نساء الرواية بجمل لا حدَّ ولا سقف له. وهنا يتقاطع مع وصف الأديان للنساء. (أنظر مثلا نشيد الإنشاد أو امرأة عزيز مصر). لا بل إن مختلف الكتاب من مختلف الثقافات لا يختارون لقصصهم ورواياتهم سوى النساء مفرطة الجمال!
أمر عجيب! هل هي الذكورة التي تحتل تاريخ الإنسان والدين معاً؟ إن صح زعمي، فإنني لم أقرأ عن بطلة رواية أو قصة ليست جميلة جمالاً أخَّاذاً!
ينتقل زيدان من جدل الإنسان الداخلي هو وعزازيله إلى جدل الحياة الأوسع وينتهي إلى الجدل المسيحي الفلسفي فيما يخص ألوهية المسيح أم أنوسته وموقع السيدة العذراء بينهما لكي يُبقي الأمر على حاله باب جدل مفتوح، هذا وإن كان زيدان ينتهي لصالح نسطور في مواجهة الإمبراطور ورؤساء الكنائس التابعين له.
ولست أدري إن كان يقصد زيدان الانتصار للمسيحية الشرقية في مقابل المسيحية الغربية المترسملة بل الخاضعة كمثقف عضوي لراس المال. مسيحية الغرب مسيحية السلطان، احتلت مسيحية الشرق مسيحية الروح.
في جدل العلاقة بين الكنيسة والسلطة التي تتفوق في النهاية فيُهزم ليس الوثني وحسب بل رجل الدين الذي لم يتسلح بالسلطان.
لافت في الرواية تكرار الكاتب لعبارة السيد المسيح بأنه جاء ليُلقي في الأرض سيفا؟ هل هذه المسيحية الغربية؟ فهو لم يتطرق قط إلى عبارته النقيضة: ” من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر”. ترى هل كان ذلك لمقتضيات مبنى الرواية الذي يبين الصراع بين الوثنية المصرية والمسيحية وهو الصراع الذي حُسم بالقوة على صعيدَيْ المجتمع وحتى الكنيسة. هل هدم معابد المصريين القدامى هو طبعة داعشية كهدم الأهرام.
من شبه الواضح أن زيدان حاول تأكيد أن الأصل الفلسفي اليوناني هو من مصر من جهة، ومن جهة ثانية، فإن روما جلبت لمصر القمع السياسي الإمبراطوري الروماني. فهو لا مباشرة يُناظر فلسفة مصر واثينا بوحشية امبراطورية روما، وكأنه يقول، مع روما تذكروا أمريكا ومع الغرب تذكروا روح الشرق وبداية التاريخ المؤنسن.
لم تفت الكاتب الإشارة إلى ان الكثير مما في الوثنية المصرية القديمة وارد في الأديان؟ هل أراد بذلك نسب الدين لحاجة الإنسان وتحميله اوجها كما قال الإمام علي بعقله المرن حتى في عصره؟ هل قصد ان المسيحية اخذت عن المصريين ثالوث ايزيس وحورس واوزير؟
جدال الصفحات الأخيرة رواية بحد ذاتها، هل كان: ” للقيصر الروماني ان يتمكن من قتل المسيح بما هو إله؟ هل كان لا بد من قتل المسيح لتخليص المسيحبية من اليهودية التي جعلت الإله منهمكا مع البشر؟ وكان لا بد من إعادته الى السماء؟ فكان وجود المسيح الذي يؤكد وجود الله مع انسان في الأرض في شخص المسيح؟ ثم ترفعه مستعينة بالأساطير المصرية القديمة الى موضعه السماوي الأول”…الخ. يُصر الكاتب على تثبيت القلق الأبدي التالي: “الإلتباس نقيض الإيمان مثلما ابليس نقيض الله”.
وبنصح على لسان أحد النسطوريين بترك مجادلة رؤوس الكنائس ومن ثم الإيمان اي الذهاب في طريق الى الله لا يحده قانون مكتوب ولا كلمات مخصوصة
رواية مليئة بالأسئلة. لكن السؤال الكبير: لماذا اختار يوسف زيدان المسيحية موضوعاً لروايته وليس الإسلام؟ ترى، هل كانت تجربة سلمان رشدي ماثلة أمامه؟ ليس شرطاً أن يعالج الإسلام من مدخل سلمان رشدي بالطبع، ولا من مدخل برنارد لويس ولا من مدخل صمويل هنتنجتون والمحافظين الجدد بتركيبتهم العجيبة (لبراليون ويهود وصهاينة وتروتسكيين معاً). ففي تاريخ الإسلام الكثير مما يُقال ويُناقش. أم أن أوان ذلك لم يأت بعد كما كتب الراهب العربي النسطوري المجهول عن نفس الرقائق التي تشكل جوهر هذه الرواية وكما ورد في مقدمة الرواية. وقد يكون للرها وحلب معنى هاما اليوم نظرا لما تلاقيه حلب.
ملاحظة1: مع إنهاء هذا الكتاب رددت الأنباء ما يلي:
القدس – قرر البطريرك ثيوفيلوس و “ مجمعه المقدس ” اليوم قطع راتب سيادة المطران عطاالله حنا رئيس اساقفة سبسطية للروم الارثوذكس و هو المطران الفلسطيني الوحيد في البطريركية و ذلك بسبب مواقفه الاخيرة من الازمة البطريركية و موقفه الواضح من كثير من القضايا الاخرى و هي خطوة هادفة لابتزاز سيادته و الضغط عليه و على كافة الاكليروس العربي.
لعل وراء الهجمة على المطران العربي الفلسطيني الأرثوذكسي رفضه تجنيد العرب المسيحيين في الجيش الصهيوني بينما ممثل حزب التجمع الوطني الديمقراطي باسل غطاس يؤيد هذا التجنيد، وكذلك موقف المطران لصالح سوريا.
ملاحظة 2: قبل شهر طلبت مني صديقة أكاديمية تقديم يوم عمل لحوالي 30 سيدة في موضوعات الجندر والتنمية. حاورت من الصامنة والنصف حتى الثانية والنصف. خلال الحديث قلت أن الرسول محمد كان عبقرياً. اعترضت سيدة بأنه أُمياً. لم اناقشها. بعد ايام طلبت من المحاضشرة اعتذاراً مني لأنني قلت أن النبي عبقري! إذا كان تراث النبي في يد أُناس يرفضون عبقريته، فنحن…بألف خير.