التغيير الجيوسياسي التركي… المستحيل الذي بات معقولاً

د. ليلى نقولا الرحباني

في واحد من أهم المؤتمرات الأكاديمية الدولية، الذي عقد في اسطنبول الاسبوع الماضي، تحدث أحد الأكاديميين الأتراك شارحًا سياسة بلاده الخارجية، معتبرًا أن التدخل التركي في سوريا كان بهدف حماية المدنيين، ومعترفًا بفشل السياسات التي اختارتها بلاده لتحقيق هذا الهدف، ملقيًا اللوم على سياسة الرئيس الأميركي باراك اوباما وعدم رغبة الغرب في التورط أكثر في الصراع في سوريا.

وهكذا، يعكس ذلك الأكاديمي التركي محاولة تصوير تركيا- أردوغان لنفسها للخارج، خاصة الغرب، بأنها حريصة على الاهتمام بحقوق الانسان، وحقوق المدنيين، متغاضين عن مشاكل عدّة أوقعت تركيا نفسها فيها، نتيجة للغرور الأردوغاني وأهمها على النطاق الاقليمي ما يلي:

– فشل سياسة تركيا في سوريا، وخاصة فشل محاولات التدخل العسكري العديدة التي بدأت منذ نشوب الأزمة في سوريا، وخاصة مع انكشاف الدخول العسكري التركي المباشر في جسر الشغور، امتدادًا الى تدمير حلب وسرقة مصانعها، وتأمين منفذ لبيع النفط السوري المسروق، وأخيرًا وليس آخرًا، الهجوم على كسب وتهجير الأرمن والعلويين منها.

– تداعيات فشل السياسة التركية في سوريا على الداخل التركي نفسه، هذا ناهيك عن القلق الذي يجتاح الاتراك في المناطق الحدودية مع سوريا، بسبب تغلغل الشبكات الارهابية وانتشار المسلحين وتركها فريسة للتسيب الأمني. ولعل ما حصل مع الاتراك في القضية السورية، يشبه – الى حد ما- ما حصل مع اللبنانيين في أمرين:

أولاً: خطر الارهاب: ففي يوم من الأيام، تغنّى وزير الداخلية السابق مروان شربل، بأن القاعدة تمر في لبنان ولا تستقر، في أسخف تصريح لمسؤول سياسي على الاطلاق، فها هي القاعدة قد عششت في لبنان، وباتت ترسل انتحارييها لقتل الأبرياء، وتخطط لاغتيال مسؤوليين سياسيين وقادة أمنيين، وكما في لبنان كذكلك في تركيا، التي لن تكون بمنأى عن الارهاب، والتي يتم التعتيم في اعلامها على اعتقال العديد من الشبكات الارهابية، وعلى محاولات تفجير هنا أو هناك يتمّ احباطها.

ثانيًا: مشكلة النازحين السوريين: فكما يعاني اللبنانيون من تفاقم مشكلة النازحين السوريين، والكلفة الاقتصادية التي ترتبها على لبنان، بالاضافة الى مزاحمة اليد العاملة السورية لليد العاملة اللبنانية، يتحدث الاتراك اليوم عن نفس المشكلة، ولعل من يزور المدن التركية الكبرى اليوم وخاصة المدينة القديمة في اسطنبول، يشعر أنه في مدينة عربية وليس تركية، فالباعة ينادون على بضائعهم باللغة العربية، والموظفون في المحال معظمهم سوريون، واليافطات تستخدم اللغة العربية.

– فشل السياسة التركية في العراق، فتركيا التي حاولت الابقاء على العديد من الأوراق في العراق، أهمها مع الأكراد في الشمال، ومع بعض زعماء القبائل السنية، ومع تركمان العراق، وجدت نفسها في مواجهة أعداء ثلاث على الساحتين السورية والعراقية: الحكومة العراقية والدولة السورية و”داعش”.

– فشل سياسة تركيا الكردية: إذ يظهر من تطور الأحداث أن الاكراد بصدد تعزيز حكمهم الذاتي مستغلين تخلي الجيش العراقي عن كركوك، وقيام البشمركة بالسيطرة عليها، واعلان الاكراد ضمها الى منطقتهم وإنهاء مرحلة من النزاع عليها مع الحكومة المركزية في العراق استمرت سنوات. وهنا، تجد تركيا نفسها بين خيارين أحلاهما مرّ: قبول ضم كركوك لكردستان، أو تركها فريسة داعش وحكمها الشرعي التكفيري.

هذا، يضاف الى أزمات تركيا مع كل من مصر، وصراعها على تزعم العالم السنّي مع السعودية، واختلافها مع طهران حول الازمة السورية، وخشيتها من استقلال كردستان وتحفيز أكراد تركيا على الاستقلال، وتدهور العلاقات مع أميركا والغرب بعد أحداث حديقة جيزي، وتوتر علاقاتها مع اسرائيل بعد حادثة مرمرة واذلال السفير التركي في تل أبيب، والبرودة في علاقاتها مع الروس بعد ضم القرم وغيرها.

وهكذا، تخسر تركيا سياسيًا، ولكن لا شكّ أنها تعيش مرحلة انتعاش سياحي يمكن ملاحظته بسهولة، وهو ما يمكن أن يبقي الاقتصاد التركي متماسكًا، لكن، ماذا لو قرر الارهاب الضرب في الداخل التركي؟ ليس بعيدًا أن يشهد القرن الحادي والعشرين تغييرًا جيو سياسيًا لم يستطع أن يحصل في القرن العشرين بعد الحرب العالمية الاولى.