العميد د. امين محمد حطيط
حمل خطاب القسم الذي القاه الرئيس بشار الاسد في الاسبوع الفائت الكثير من المضامين الهامة المتراوحة بين السياسي الداخلي و الاستراتيجي الدولي ، لكن الاهم برأينا كانت تلك العبارة المفتاحية الي تضمنها الخطاب ” المرحلة الجديدة ” التي ستواجهها سورية انطلاقا من المشهد الذي آلت اليه الامور بعد 40 شهرا من مواجهة عدوان معقد مركب شنه الغرب عليها و على المنطقة .
فالمرحلة الجديدة التي اشار اليها الرئيس الاسد ليست كما قد يتراءى للبعض بانها تعني الحكم و الادراة الداخلية فحسب ، بل انها تعني – و على اهمية الموضوع الداخلي الذي اتخذ ذريعة مزيفة كاذبة لاطلاق العدوان عليها و التسويق و التحشيد له – تعني سورية و المنطقة في علاقاتها الاقليمية و الدولية في ظل اخفاق المشروع الصهيو اميركي في الميدان السوري في مواجهة محور المقاومة و ترنحه في ميادين ما اسمي زورا “ربيع عربي ” ، و اطلقنا عليه تسمية “الحريق العربي ” التسمية التي اكدتها الاحداث و مجريات العدوان بشكل قاطع.
و الان و بعد افتضاح امر العدوان و اخفاقه في تحقيق اهدافه في سورية ، و انسحاب اخفاقه على ميادين اخرى خارجها الى الحد الذي مكن الرئيس الاسد من نعي ” الربيع المزيف” كما وصفه ، ما يعني انتصار سورية و من معها في المواجهة ، انتصار تحقق تراكما انطلاقا من اخفاق العدوان في تحقيق هدفه في المهلة الاصلية التي حددها بستة اشهر ، و هي المهلة التي جددت او مددت اكثر من مرة ، الى ان اقر اوباما مؤخرا بالفشل و اتجه الى ميدان جديد لتعويضه فكان الانتقال الى العراق في الشهر الفائت ، و كانت المرحلة الجديدة في المواجهة التي تحدث عنها الرئيس الاسد .
مرحلة يطبعها الانقسام الدولي العام مع تشكل محاور المواجهة الاقليمية في صراع دولي يحتدم ، صراع يتخطى دول “الحريق العربي ” ليدق ابواب اروبا الشرقية و يشعل الضوء الاصفر لاكثر من دولة في الاقليم و خارجه ، صراع وصل الى الهيئات الدولية التي انعكس الانقسام الدولي عليها حتى عطل بعضها او شلها الى حد كبير او فرض شيئا من التوزان فيها كما هو حال مجلس الامن الدولي .
مرحلة نجد فيها اميركا و معها الغرب الاستعماري ترعى محورين متنافسين تستعملهما معا لمواجهة محور المقاومة المشكل من ايران و سورية و المقاومة في لبنان ، و الذي يحتضن المقاومة الفلسطينية المستمرة ممسكة بالسلاح الشريف و لا تشغلها عن فلسطين فنادق الدوحة و استنبول و غيرها ولا الحسابات المصرفية و الموائد .
ترعى اميركا ” المحور الاخواني” المتشكل من تركيا الاردغانية و قطر الطامحتين الى وضع اليد على البندقية المقاومة لاسكاتها في غزة و تدجين المقاومة لتصفية القضية الفلسطينية عبر الغرف السوداء ، و “المحور الوهابي” الذي يرفض اصلا فكرة المقاومة و يرى فيها ضربا من “المغامرة و الجنون و استدراج الضرر” على يد “المساكين اليهود ” حسب الوصف السعودي ماضيا و حاضرا ، و هو محور يتشكل من السعودية و من يدور في فلكها من دول الخليج و يسعى الى ضم مصر ما بعد الاخوان كليا اليه ( اما العراق فلا زال قيد التنازع لتحديد موقعه بين المحاور الثلاثة او تقسيمه)
و من الواضح ان فلسطين و المقاومة لاجلها هي معيار التمييز بين المحاور الثلاثة (محور المقاومة ، و محور تدجين المقاومة ، و محور رفض المقاومة ) ، و هنا كان موقف الرئيس الاسد في منتهى الوضوح و الرؤية الاستراتيجية بتأكيده الالتزام بالقضية الفلسطنية التزاما لا تؤثر فيه التحولات و المتغيرات ، و فصله بين فلسطين – القضية و الفلسطينيين – الاشخاص الذين فيهم من غدر بالحليف و باع القضية ، و بهذا تكمن اهمية الموقف السوري الذي و بعد ان اثبت بالحجة القاطعة ان العدوان على سورية لم يكن الا من اجل حملها على التخلي عن فلسطين و التقوقع داخل حدود فرضها الانتداب على الامة ، يؤكد التمسك بفلسطين بصرف النظر عن سلوك الفلسطينيين ذاتهم باعتبارها قضية الامة المركزية ، موقف يشكل ردا استراتيجيا عالي المستوى على العدوان ، و ينبثق عن ادراك عميق لخريطة المواجهة و اهداف العدوان و لطبيعة الصراع الذي توسع دوليا ، حيث وقف الى جانب محور المقاومة من الحلفاء ما قد يوازن الدور الاميركي الغربي في احتضان محوري العدوان و ادواته ، و برزت دول البريكس عامة و الصين و روسيا خاصة في طليعة حلفاء محور المقاومة .
و عليه تكون السمة الرئيسية للمرحلة الجديدة التي نوه الرئيس الاسد عنها هو هذا الفرز الذي يوحي بالطمأنينة من جهة كون سورية التي صمدت و حققت الانجازات الهامة التي قادت الى الاقرار الغربي باخفاق العدوان عليها ، سورية هذه لم و لن تكون مستفردة في المواجهة ، كما يلقي على عاتق المسؤولين في سورية و سواها من مكونات محور المقاومة و حلفائه الدوليين ، يلقي عليهم مسؤولية حفظ الانتصار و الحذر من كيد عدواني جديد يمكن ان يمارس لاجهاضه ، خاصة و ان انجازات محور المقاومة ادت الى رسم مشهد نقيض للحلم الاميركي المعروف .
فالاميركي سعى لجعل الشرق الاوسط بحيرة له يتحكم هو بنفطها و ممراتها المائية و يقبض عبرها على الاقتصاد العالمي، لكنه و بعد ما يقارب العقدين من العمل بشتى الطرق كان “الربيع المزيف” اخرها ، يرى اليوم الشرق الاوسط مقطعا بخطوط تميز منطقة الحرية و و السيادة الوطنية التي يحميها محور المقاومة بكفاءة واضحة ، و بين منطقة تهتز فيها الهيمنة الاميركية و يرتجف فيها حراس المصالح الغربية الذين فرضوا على شعوبهم و منحوا لقب شيخ او امير او رئيس او ملك .
و مع هذا الفرز معطوفا على طبيعة الامور في المنطقة ، سقطت نظريات الحياد و النأي بالنفس بعد ثبوت عقمها في ظل صراع تشعل اميركا ناره للسيطرة على ما ليس في يدها ، و كما كنا نسخر من هذه النظريات لعدم واقعيتها و قصر نظر اصحابها فان مجريات الامور جاءت لتؤكد على صوابية ما ذهبنا اليه ، و قد كان الرئيبس الاسد بليغا في توصيفه و موضوعيته العلمية عند مقاربة هذه النظريات و رفضها لاستحالة تطبيقها اصلا .
اما العنصر الاساسي الاخر الذي يميز المرحلة الجديدة فهو طبيعة اداة العدوان الرئيسية و هو ” الارهاب” الذي يعتمده اصحاب المشروع الغربي في مواجهة المقاومة التي يبديها اصحاب المشروع السيادي في المنطقة اي محور المقاومة و حلفائه . و هنا و بعد التمييز بين المقاومة و الارهاب ، و في ظل التمسك السوري بالمقاومة تمسكا نهائيا تبنى عليه استراتيجيات المواجهة و الدفاع ، فان سورية في المرحلة الجديدة ستتابع حربها على الارهاب دونما توقف او تراجع حتى يندحر المشروع عن منطقة السيادة الوطنية اولا و عن كامل المنطقة ثانيا .. مع ما للامر من انعكاس على مسارت المعالجة الامور مستقبلا ، انعكاس يعلم اهميته المختصون بالشأن و لا نرى موجبا للدخول في تفاصيله الان .
لكن يكفي ان نقول بان سورية في رفض مهادنة الارهاب و رفض التخلي عن اي حق او ارض من اقليميها ، تحزم امرها في رفض مشاريع التفتيت و التقسيم و تضع الارهابيين بين خيارين اما الفرار من الميدان او المواجهة حتى القتل او الاصابة و الاسر ، و اذا كان خيارهم فرارا فان على الدول التي يمكنهم دخولها خلسة او بجوزات سفر ، ان تنتظر منهم ممارسة “كفاءاتهم الارهابية ” على اراضيها . اما فكرة او تصور ان يبقى الارهاب محصورا على الارض السورية فهي فكرة ساقطة على اصلها لان سورية بما تملك من قوة ذاتية و تحالفية قادرة على استعادة كل حبة تراب اختل امنها على يد الارهابيين ، وقادرة عل اسقاط مشاريع التفتيت و التقسيم .
اما اسرائيل و التي هي احد السببين لكل ما يجري من حرائق و نزف في المنطقة (النفط هو السبب الاخر ) فان وضعها في المرحلة الجديدة يبدو انه سيتبدل حيث اننا نراها تغرق اكثر في دائرة ” القوة العاجزة ” الدائرة التي ادخلتها فيها المقاومة في لبنان في العام 2000 لدى طردها من الجنوب ، و ثبتتها فيها في العام 2006 ، و جاء ما يحصل في فلسطين اليوم منذ اسر الصهاينة الثلاثة وصولا الى المواجهات في غزة و حولها و التهيب الاسرائيلي من المواجهة الميدانية باجتياح غزة كليا او جزئيا ، يثبت ان اسرائيل غادرت كليا منطقة “الهيبة الرادعة ” و “القوة القادرة” ، و اهتز الدور الوظيفي الذي اسند اليها غربيا لاخضاع المنطقة ، و سيكون لهذا الامر تداعيات لن تنحصر في حدود فلسطين التاريخية ، ما يمكن سورية و محور المقاومة من استغلال المشهد الجديد و البناء عليه مستقبلا و يكفي ان يطرح السؤال التالي : اذا كانت غزة المحاصرة ذات المساحة الاقل من 400 كلم2 وضعت اسرائيل في المشهد الذي تتخبط فيه الان فكيف سيكون حالها مع الجبهة الشمالية حيث سورية و حزب الله ؟ … الخبير العاقل يعرف ان الجواب لا يريح اسرائيل.
انها مرحلة جديدة اذن ستفرض قواعدها على المنطقة و العالم و تقدم عناصر جديدة لنظام عالمي جديد قيد التكون ، نظام كما توقعنا في الاشهر الستة لبدء العدوان على سورية بانه سيولد من الرحم السوري ، فان سورية و محورها و حلفاؤها اليوم يدفعون حثيثا لاقامته على انقاض احلام اميركية باحادية قطبية و لت الى غير رجعة فاحبط اصحابها ، و ما الحادث المأسوي الذي حل بالطائرة الماليزية فوق اوكرنيا و الذي حمل بصمات تشير الى ارهاب الدولة المرتكب لتوريط روسيا بقرار لا تبرأ منه اميركا الا وجه يعبر عن حالة الاحباط التي يعانيها اصحاب المشروع الغربي بعد انهيار حلامهم .
:::::
“الثورة” دمشق