العميد د. امين محمد حطيط
يحفل التاريخ العسكري الاسرائيلي بثابتة رئيسية تكاد لا تغادر حقبة من عمر هذا الكيان اللامشروع ، ثابتة اعتمدت في صلب العقيدة العسكرية الاسرائيلية و تمثلت بارتكاب المجازر خارج ميدان المعركة بهدف التأثير على المقاتلين لكسر ارادة القتال لديهم و تثبيطهم و حملهم على الفرار من المواجهة ، ثم لترويع بيئتهم الشعبية التي ينتمون اليها لتضغط عليهم للامنتاع عن القتال طلبا للسلامة ، تقوم بذلك من اجل التسريع بحسم المعركة مع تحقيق الانجاز العسكري الذي يبتغيه الصهاينة من الحروب التي يدخلونها .
و مؤخرا طورت اسرائيل “استراتيجية المجازر ” بشكل اكثر وحشية خاصة بعد ظهور المقاومة في لبنان اثر احتلال العام 1982 ، تطويرا اضاف لاهدافها عناصر جديدة تتمثل بالسعي لحجب الهزيمة في الميدان و الانتقام من الشعب الذين ينتمي اليه الرجال الذين يقاومونها و يمنعونها من تحقيق اهداف حربها العدوانية ، و بالتالي باتت المجازر في المنطق الاسرائيلي دليلا او قرينة على اخفاق او خسارة او عجز عسكري قتالي ، فت ردة فعل اسرائيل خارج الميدان انتقاما من ذوي المقاتلين و شعبهم حتى تفسد عليهم فرحة انتصارهم في المواجهة الميدانية ، او تجعل ثمن نصرهم باهضا بشكل يطيح ببريقه الى الحد الاقصى .
هذا المشهد الذي عايشناه في العام 2006 في عدوان اسرائيل على لبنان ، يستعاد اليوم في غزة في العدوان الاسرائيلي عليها ، و تبدو اسرائيل قد سلمت بفشلها و اخفاقها في مواجهة المقاومة الفلسطينية هناك ، حتى و لم يخف مسؤولوها هذه القناعة بل يصرحون بها علانية كما جاء في الكلام الاخير للوزير الصهيوني عوزي لانداو بقوله ” فشلنا في غزة و الردع الاسرائيلي تضرر ” .
هذا الاحساس بالفشل دفع اسرائيل الى اللجوء الى المجازر في نسختها الوحشية المطورة فبلغت بها حدا غير مسبوق في وحشيته و ضراوته ، حد بات من السهولة بمكان وصفه بانه عمل من اعمال الابادة الجماعية و الجرائم ضد الانسانية ، و انه يتعدى كل ما هو منصوص على حظره في اتفاقيات جنيف الاربعة ، و كل ما هو ممنوع في قواعد القانون الدولي الانساني ، مجازر اجرامية تذكر بما ارتكبته اسرائيل في لبنان في قانا مرتين متكررتين ، او ما ابتدعته من نظرية الارض المحروقة التي ترجمتها ب”نظرية الضاحية ” ، و لكن الوحشية الصهيونية في غزة تعدت ما سبق ، خاصة و انها ارتكبت في منطقة محصورة ضيقة يعيش فيها ما يلامس المليون و نصف المليون فلسطيني على ارض محاصرة معزولة عن العالم الخارجي و لا تصل مساحتها الى 400 كلم 2 . مجازر وحشية اودت بسلامة 12 الف شخص فلسطيني بين شهيد او مصاب اي بمعدل 1% من مجموع السكان في غزة و هو امر نادر الحصول في تاريخ الحروب .
و لان المجازر باتت القرينة و الدليل على الفشل و الاخفاق الاسرائيلي ، فاننا نبحث الان عن مضمون هذا الاخفاق الذي انتج جنون اسرئيل و دفع جيشها الى القيام بجرائمه و انتهاك كل ما يمت الى الاخلاق و الدين و الحق و القانون بصلة .
لكن قبل ان نعود الى الميدان و نفصل حقيقة الدوافع الاسرائيلية التي قادت الى مثل هذا السلوك الاجرامي نرى ان نتوقف عند الصمت العربي الاجرامي و التفهم الغربي اللاخلاقي ، صمت وتفهم اعتمدتهما اسرائيل كموافقة على جرائمها لا بل طورت تفسيرهما الى حد القول بان لديها تفويض عربي و دولي للقضاء على المقاومة و حاضنة المقاومة في غزة ، و جعل نتنياهو يفاخر بان اهم منجزات عدوانه هو تبلور حلف اسرائيلي اقليمي استراتيجي مع دول عربية و اسلامية و يقصد السعودية و دول الخليج و تركيا في مواجهة المقاومة و محورها .
. و عليه نقول ان اسرائيل تستفيد من هذا “التفويض الضمني” الاجرامي لارتكاب مجازر تطمئن الى انها لن تحاسب عليها ، فتتخذها اداة ترهيب وفقا لعقيدتها و طريق انتقام و عقاب ، و ما يهمنا الان هو البحث عن سبب قيام اسرائيل بالانتقام بهذه الوحشية ، او لنقل لماذا تريد اسرائيل ان تعاقب الشعب الفلسطيني في غزة .
لا يقرأ الجواب على هذا السؤال الا من الميدان اولاً ، حيث شنت اسرائيل هجومها العدواني على غزة مؤملة تحقيق حزمة من الاهداف الاستراتيجية الكبرى التي في طليعتها الاجهاز على المقاومة الفلسطينية و شطبها من محور المقاومة و من معادلة الصراع كلها ، يضاف الى ذلك ما يتعلق بالجيش الاسرائيلي ذاته خاصة لجهة هيبته و قوته الردعية و ما يتصل بمناعة الجبهة الداخلية الاسرائيلية و قدرتها على العمل في ظل حرب تدور على الحدود و تبقى نارها بعيدة عن داخل اسرائيل و مدنها و مستعمراتها ، لكن اسرائيل فشلت في تحقيق اي من هذه الاهداف ما ادى الى افتضاح امرها عسكريا و استراتيجيا و اكد اخفاقها في حرب انقلبت نتائجها عليها و جاءت بعكس ما توخته منها .
وقبل ان نفصل اكثر الاخفاقات الاسرائيلية في الحرب على غزة نذكر بان اسرائيل تجري تقييما لنتائج اي حرب تخوضها من خلال انعكاسها على شؤون خمسة هي : السياسة ، الاقتصاد ، السمعة ، الامن ، و الشأن العسكري ، و هي لا تعير اهمية كبيرة لكل من الشأن السياسي و الاقتصادي و السمعة لانها و في ظل الرعاية الاميركية و الاحلاف الاسترايجية التي ترتبط بها و التي فاخرت ببعضها مؤخرا كما ذكرنا خاصة مع دول النفط العربية و في مقدمتها السعودية ، فهي لا تعبأ بهذه الامور لانها مطمئنة الى ترميمها ان تضررت و الى اصلاح كل ما افسدته حربها ، لكن خسائرها في المجالين الامني و العسكري هي التي تؤلمها و تثير الجدل في داخلها و تطيح برؤوس المسؤولين في المستويين السياسي و العسكري على حد سواء ، و هنا نسجل في هذا الاطار اهم فشلين اسرائيليين في غزة :
1) الاول : فشل اسرائيلي في المجال العسكري و اكثر دقة على صعيد العقيدة العسكرية المرممة ، و الاداء في الميدان و سلامة الجنود . و نذكر بان اسرائيل رممت عقيدتها العسكرية و وسائل تطبيقها بعد حرب ال 2006 ، خاصة في مبادئ ” الحرب على ارض الخصم و النار في داره ” ، و “امتلاك اسرائيل لقرار الحرب بدءا و انتهاءا ” ، و “قدرة اسرائيل على الحسم و تحقيق النتائج المتوخاة من الحرب “، و اخيرا ” امتلاك القدرات و الطاقات لخوض حرب طويلة تصل الى 10اسابيع على الاقل . لكن اسرائيل فشلت في تحقيق اي من العناصر المرممة تلك ، فشلا شكل لها صدمة كبرى ستضطرها للعمل سنوات طوال من اجل معالجة الاخفاق ،كما ان المسؤولين فيها سيدفعون من مستقبلهم الثمن المناسب.
2) الثاني: فشل اسرائيلي في المجال الامني كليا و على الاتجاهين : المدني و العسكري ، و سقطت مقولة المجتمع الاسرائيلي الآمن و المنيع ، كما سقطت مقولة ” الجندي الاسرائيلي الآمن في الميدان الذي يقتل و لا يقتل ” و اكدت مواجهات غزة ان نصف الصهاينة باتوا في دائرة خطر نار المقاومة و ان الجندي الاسرائيلي واهن ضعيف يقتل و لا يقاتل ، يخاف و لا يخيف . نتائج ثبتت اسرائيل في دائرة ” عجز القوة ” التي ادخلتها فيها المقاومة في لبنان منذ العام 2000 .
هذه الخسائر تعتبرها اسرائيل كارثة فضائحية لها ، لتأثيرها على مستقبلها و مسار الصراع بكليته خاصة في مواجهة مكونات محور المقاومة الاخرى (سورية و ايران وحزب الله) .خسائر انقلبت لدى اسرائيل الى رعب اخرجها من جلدها و افقدها وعيها و دفعها الى التصرف الهستيري الوحشي ، فارتكبت المجازر الفظيعة لتنتقم لخسائرها التي تعدت كما قدمنا افتضاح وهن القبة الفولاذية و سفهت احزمتها الامنية بعد ان تعدت خسائرها البشرية العسكرية ال 350 اصابة بين قتيل و مصاب ، و لامست ال 400 جندي مستنكف او رافض عن الذهاب الى الحرب في غزة ، فضلا عن الذين اصابهم الانهيار العصبي و باتوا نزلاء المصحات العقلية ، دون ان ننسى عسكرييها الذين اسرتهما المقاومة بشكل اذل الجيش الاسرائيلي .. فهل ستعوض اسرائيل بجرائمها ما خسرته ؟ او تحجب اخفاقها ؟
رغم التواطؤ الاقليمي و الدولي مع اسرائيل ، نرى ان المقاومة و الشعب الفلسطيني الصامد في غزة و محور المقاومة الذي يراقب ما يجري و يحتضن المقاومة الفلسطينية سيفوت على اسرائيل تحقيق اهداف مجازرها كما فوت عليها اهداف حربها ، و ان المقاومة التي فضحت اسرائيل في كل ما كانت تدعيه ستتابع قتالها و سعيها حتى تنتقم للدماء و تستعيد الحقوق المغتصبة ، و على اسرائيل ان لا تنسى بان جرائمها هي من طبيعة الجرائم التي لا يسري عليها التقادم او مرور الزمن و اذا كانت اميركا و بعض العرب و الغرب يحولون دون ملاحقتها اليوم بهذه الجرائم و يتعامون عن “الهولوكوست” الحقيقي الذي صنعته في غزة فان هذا الحال من المحال ان يستمر طالما ان هناك محور للمقاومة ثابت قادرعلى لمتابعة و الملاحقة .
:::::
“الثورة”، دمشق