«داعش» العراق: من هنا بدأت

طارق الدليمي

يعتقد المؤرخ والمحلل العسكري الهولندي ـ الاسرائيلي، مارتن فان كريفيلد، أن «داعش» الوحش هو تنظيم عسكري عابر للحدود، أساسه النشاط الخليجي للتوازن الحربي مع ايران المتنفذة في العراق والمنطقة. وقد دعمته بفعالية مخابراتيا وعسكريا تركيا وأميركا، ومهمته تنظيف الطريق من كل القوى «الليبرالية» و«العلمانية» التي تشكل عقبة في وجه الاستراتيجية الجديدة للمشيخات والممالك الخليجية. وهو يتميز بقسوة غير عادية حتى عند العرب والمسلمين. والمحلل المذكور مقتنع بأن الاستدارة والتراجع عن دخول بغداد قد تكون مؤقتة، إلا إذا اتخذت أميركا القرار في منع سقوطها لأسباب قاهرة، وأن الغرض الأساسي لها، يظل السيطرة على حقول النفط في العراق وتثبيت خريطة المحمية الكردية هناك.

لكن المهمة المباشرة تتلخص في تشكيل قوى عسكرية فعالة مستقلة ولها القدرات الموازية أو تتجاوز إمكانيات «داعش» الضاربة، وتكون خارج نطاق الحكم السياسي في بغداد. ويؤكد أن هذه التشكيلات قد تكون مشابهة جدا «للصحوات» السابقة المحلية، ولكنها أكثر حيوية وأهدافها ذات طابع إقليمي منتشر. وسيكون عمادها تحالفات عشائرية متنوعة، تبدأ في المناطق «السنية» الشمالية والغربية من العراق وجنوب تركيا، وتنتهي إلى حدود الجزيرة العربية. لكن آفاق هذه التشكيلات لن تكون محصورة في الغايات المعلنة راهناً، بل ستكون وظائفها إضافية قريباً، ومن دون أن تمت بصلة إلى حقيقة بقاء أو زوال دولة «داعش» في الموصل تحديدا.

العملية السياسية والبرامج العسكرية

منذ بداية الاحتلال وفي ظل الحاكم جاي غارنر، طرحت على أعلى المستويات التخطيطية في أميركا مسألة جوهرية تتعلق بالصلات التي يمكن تثبيتها بين «العملية السياسية» التي تعتني بالجهاز الحاكم العراقي المنتقى أو المنتخب، من قبل المحتل وعناصر «الكوندومينيوم» الاقليمي المتعاون معه، والخطط العسكرية الموضوعة من أجل حماية هذه السياسة وتحقيق الحد الأدنى من الأمن والاستقرار في البلاد. من هنا فإن العملية السياسية لا تخضع فقط لقوانين فكرة بناء الحكومة، وإنما تتجدد على ضوء نشوء ونمو قوانين تعتبر ثانوية في ظروف المتغيرات الخاصة، من شأنها أن تخدم القوانين الأساسية للصراع وتساعد على خلق الأشكال الملائمة دوماً للسيطرة السياسية على السلطة والثروة واحتكار الديموقراطية والسلاح معا. وكانت كتابة الدستور والانتخابات الدورية وحكومات المحاصصة الطوائفية والعرقية متناظرة مع المضمون العسكري للاحتلال، في تصفية جيوب المقاومة المسلحة، وتنظيف المدن والأرياف أمام جحافل البناء السياسي الاقتصادي لحكومة الوكالة التابعة كلياً للسوق العالمية. ومنذ البداية لم يكن الاحتلال مهتماً ببناء جيش مركزي على غرار جيش النظام المنهار، وكان يشجع الميليشيات الطوائفية، شرط أن لا تكون معادية له سياسيا أو تحاربه عسكريا. وعندما اكتشف أن محصلة الصراع في بداية العام 2006، ليست لمصلحة هذه الاستراتيجية، قرر البدء بتغييرها على ضوء الخطة المتكاملة سياسيا، وهي الدمج «التكتوني» بين الجغرافيا السياسية الداخلية لقوة الاحتلال، والتطبيق السياسي الحياتي للاحتلال وعلاقته مع قوى المكونات والعلاقة السياسية بين هذه المكونات أيضا. هكذا كانت الاندفاعة الأولى في 2006 ـ 2007. وهي حجر الزاوية في بناء وترسيخ حكومتي المالكي في 2006 و2010. حققت «الاندفاعة 1» غرضها العسكري القاضي بتدمير المقاومة المسلحة وتشكيل قوات عشائرية للصحوة وأبناء العراق والقوات الخاصة المعنية. وكان الهدف السياسي تعزيز منظومة بناء حكومة طوائفية بقيادة «التشيع السياسي» أولا، و«حزب الدعوة»، المسند من قبل المرجعية، ثانيا. أما الطموح البيوسياسي فقد اكتملت دوائر آفاقه الصراعية في التطهير الطوائفي الشامل في بغداد، لتكون بغداد هدف الحصار والاحتلال، وبعدها بؤرة المقاومة وحاليا تؤسس من جديد لحروب «داعش» و«داعش» المضاد.

من الحصار إلى «الاندفاعة»

يقول توماس هيكسلي، إن الحقائق الجديدة تبدأ بدعة وتنتهي إلى خرافة. ففي بداية الحصار الجائر الذي أحكمت آخره أميركا على العراق، وفي ظل سعيها المحموم للسيطرة عليه سياسيا والهيمنة عليه نفطيا، بدأ صدام حسين في العام 1994 حملته «الايمانية» بقيادة الشيخ المصرفي «عبد اللطيف الهميم» وأدخل جميع كوادر حزب البعث، المدنية والعسكرية، الوسطى والعليا في صفوف هذه الحملة. وفي هذا السياق المكتظ والغامض كشفت المخابرات العراقية عن محاولة انقلاب عسكري كان يحاول تنفيذها اللواء الركن الطيار، محمد مظلوم الدليمي، قائد قاعدة البكر الجوية. التنظيم يحمل اسم «خط الفرقان» ودوافعه التخلص من سطوة صدام حسين السياسية والقبلية والتعاون مع التيارات الإسلامية خارج «البعث»، لإقامة الدولة الإسلامية في العراق. أعدم الضابط المذكور مع أركان مؤامرته، ورافق ذلك انتفاضة عشائرية في مدينة الرمادي قادها البو علوان عشيرة الضابط مع قبائل أخرى. وكشف أن التنظيم كان قد بدأ منذ العام 1987 أثناء الحرب العراقية ـ الايرانية. وتشير أوراق الشاي المهربة من الجزيرة العربية إلى أن ضباطاً من الحرس الوطني السعودي الذين هربوا منذ العام 1969، على أثر محاولة انقلابية فاشلة، إلى العراق، كانوا على صلة جيدة مع المجموعات العسكرية الانقلابية وخاصة مع بعض الضباط السعوديين من منطقة الدليم في الجزيرة والذين ساهموا بفعالية في انتفاضة جهيمان العتيبي، في الاستيلاء على المسجد الحرام في العام 1979، وهرب البعض منهم أيضا إلى العراق. وكان هناك في العراق، السعودي علي غنام عضو القيادة القومية للحزب من جبيل. ويؤكد المؤرخ والمحلل العسكري العقيد أحمد هاشم، المدرس في كلية الحرب في البحرية الأميركية، أن الانقلاب العراقي الفاشل ترك أثرا كبيرا في المئات من النخب العسكرية العليا في الجيش والذين لم يتعرف عليهم التحقيق وساهموا لاحقا في مقاومة الاحتلال العسكري الاميركي.

حل الجيش وانحلال المؤسسة

يمكن القول، من دون مبالغة، إن مجموعة كبيرة من المحللين العسكريين، ومنهم مارتن فان كريفيلدواندرو باسيفيتش وكذلك ويليم لند، قد اتفقوا من خلال دراسة التقارير السياسية والعسكرية للاحتلال، على أن الجيش العراقي الذي «حل» سياسيا من قبل الاحتلال قد «انحل» عسكريا وفكريا بعد ذلك مباشرة. ويتناغم معهم الضابط العراقي من تلعفر، وكان رئيس مجلس قضاء تلعفر بين 2005 و2008، نجم عبد الجبوري، والمتفرغ للقضايا الاستراتيجية اللوجستية في جامعة الدفاع الوطني الاميركية. وانعكس ذلك بوضوح من خلال الاستقطاب الحاد والمتناقض الذي حصل في صفوف مراتبه العليا وأثر على خياراتهم وانحيازاتهم السياسية في مجرى الصراع العسكري ضد الاحتلال. ويجزم المؤرخ أحمد هاشم، من خلال جولاته الميدانية وصلاته الشخصية المباشرة، بأن العديد من القيادات المهمة والمتمرسة من هؤلاء الضباط قد انسلخوا فعليا عن «البعث» وانخرطوا، أو هم شكلوا فعليا، في منظمات عسكرية سياسية ذات محتوى إسلامي ـ وطني بحسب التعبير المحبذ لهذا المحلل القدير. بهذا المعنى، يؤكد هذا الخبير أن الاتجاه الاسلامي ـ الوطني لم يكن طوائفيا أبدا في نشاطه اليومي، بل كان عبارة عن «خط» سياسي عام منطلقاته وطنية عراقية وتوجهاته إسلامية معتدلة. وهو أقرب إلى النموذج «السوداني» منه إلى نماذج البغدادي في «داعش» أو أحمد دباش في «الجيش الاسلامي» وآخرين غيرهم. وكانت الأكثرية من الضباط ترفض الدعوات المتشددة لـ«القاعدة». بل ان «البيئة» العامة والخاصة في شمال وغرب البلاد كانت معادية جدا لتوجهات «القاعدة» وأشباهها، وحتى مناهضة لخط «كتائب العشرين» بقيادة الضاري صديق «القاعدة»، ما يدحض فكرة أن نشوء «داعش» نتاج البيئات «السنية» ويختزل نموها من منطلقات طوائفية فقط.

خطة الحملة المشتركة

في ذروة «الاندفاعة -1» في العام 2007، شكلت لجنة سياسية عسكرية عليا من قلب المعارك في بغداد، ورفعت تقريرا إلى جورج بوش، بعنوان «خطة الحملة المشتركة»، وكانت اللجنة تشمل الجنرال ديفيد بيترايس والسفير ريان كروكر، قائد القوات الاميركية ويليم فالون، ووزير الدفاع روبرت غيتس والخبير العسكري الاسترالي ديفيد كيلكولين. كانت الخطة تلخص انتقال أقسام من المقاومة إلى جانب الاحتلال، ونشاط البعض منها بشكل مستقل عن الاحتلال ضد «القاعدة»، وتعاون البعض القليل من بقايا المقاومة مع «القاعدة» ومشتقاتها، خصوصاً بعد نهاية الزرقاوي المعروفة. وكانت الخطة، اجتماعيا، تعني فصل العشائر عن «القاعدة» وتزويدها بالمال والسلاح، والاستعانة بقول الانكليز بأن «القبائل لا تصمد أمام المال من بغداد إلى الخرطوم». وقد استفاد الاحتلال هنا من التناقض الفكري بين المقاومة و«القاعدة» في تأليب أحدهما على الآخر واستنزاف وتركيع الطرفين. فالمقاومة تريد إخراج الاحتلال من العراق وهزيمته بينما كانت «القاعدة»، ولا تزال، تفكر باستنزاف الاحتلال بعيدا عن خروجه أو البقاء في المنطقة. وهنا ارتكبت المقاومة خطأها المنهجي حين تصدعت منظومتها السياسية المعادية مركزيا للاحتلال وبدأ يطفو على جلدها طفح الطوائفية والشوفينية البغيض، وانعكس ذلك إعلاميا وبعدها سياسيا في خيارات علاقاتها وانحيازاته مع الخليجية النفطية التكفيرية أو الرجوع للتعاون مع الاحتلال الاميركي أو قادة السنجق البارزاني الكردي وتحالفه مع تركيا الاردوغانية. إن قانون تحول الرئيسي إلى ثانوي، وبالعكس، من القوانين الصارمة ولا ترحم في سياق التفاعل والصراع. وعدم الفهم يؤدي إلى كوارث فاجعة وغير منتظرة. وقد تسللت «الاندفاعة» بقيادة بيترايس من خلال هذه الثقوب السوداء وتعالت أفكار بيترايس وطموحاته من القضاء على المقاومة إلى مفهوم «تعريق» الصراع مع ايران في العراق أو حتى في أعماقها.

:::::

“السفير”