ثلاثة صهيونية راهنة

عبداللطيف مهنا

ثلاثة اهداف تتسيد الآن قائمة استهدافات السياسة الصهيونية ولها تُسخَّر مختلف الجهود ويبذل حثيثها ابتغاءً لإنجازها…واحدها، استراتيجي رئيس وتليد ودائم وتجري تطبيقاته على مدار الساعة، وهو استكمال التهويد لما لم يهوَّد بعد من فلسطين، أو ماتعيش الآن على رتمه وتشهد تجلياته اليومية المتسارعة القدس وسائر الضفة، وآخرها الإغارات الليلية المتلاحقة على المنازل العربية في حي سلوان المقدسي واغتصابها، والاجتياحات التي باتت شبه اليومية لباحات الأقصى والذي بات الآن عرضة للتقسيم الزمني، إلى جانب مسلسلات الإعلانات المتعلقة بمتواليات عطاءت بناء الوحدات السكنية في المستعمرات المتوالي توسيعها وتسمينها في كامل انحاء الضفة.

…وثانيها، اكمال الالتفاف على منجزات الدم الفلسطيني المقاوم في الحرب العدوانية الأخيرة على غزة، والمماطلة لإبقاء الحصار  الصهيوني والعربي المضروب منذ سبعة اعوام عليها، أو تمديده بأشكال جديدة تأخذ بعين الاعتبار دروس هذه الحرب وما فرضته  من وجوب تبديل في معالجتهم للحالة الغزية المتفجرة…دروس من أهمها أن هذا الحصار المحكم على فداحة آثاره قد فشل لجهة تحقيقه لهدفين رئيسين كانا المتوخيين منه، وهما، اضعاف المقاومة وسد المنافذ في وجه امدادها وتطورها ومنع تعاظم قوتها، وتجويع شعبها وزيادة معاناته وعذاباته لتحريضه عليها، أو بغية دفعه للإنفضاض من حولها وحتى الانتفاض عليها، الأمر الذي كشفت ملحمة الصمود والتضحيات البطولية لهذا الشعب في مواجهته لعدوه وما تلاها ماهو عكسه تماما…الأشكال الجديدة المرادة للحصار يمكن اختصارها في التحسين النسبي للوضع المعيشي الرهيب للمحاصَرين تجنباً لخطر انفجار تُخشى عواقبه، عبرالسماح بادخال مدروس وبالقطارة للبضائع، لكن بدون مواد البناء اللازمة لإعادة حقيقية لاعمار مادمرته حروبهم الثلاثة الأخيرة المتلاحقة. بلغة أخرى، استمرار هذا الحصار وربط مسألة رفعة بنزع سلاح المقاومة، واستطراداً، بإنجاز التسوية، بمعنى تصفية القضية.

…والثالث، محاصرة احلام الأوسلويين الفلسطينيين، التي اقصى ما تحلِّق ألان بأجنحتها في سماواته هو الآعتراف الرمزي بالدولة، واكثر ما ترنو اليه هو وهم اجبار الصهاينة بقبول جدولة انسحابات في سياق حلول يفرضها عليهم ربيبهم “المجتمع الدولي”…حول مسألة الاعتراف هذه يرد الجنرال يعلون وزير الحرب الصهيوني على سؤال ابان رحلته الأخيرة للولايات المتحدة قائلاً: “سموا هذه دولة أو امبراطورية، لكنها فعلاً ستكون حكماً ذاتياً”!

الواقع العربي والراهن الفلسطيني خير مشجِّعين للصهاينة في مساعيهم لتحقيق اهدافهم الثلاثة هذه، فلاهما  يسمحان بإعادة اعمار غزة ولارفع الحصار عنها، ولاباعتراف ذي قيمة عملية بالدولة الافتراضية، أو بجدولة انسحابات مأمولة، ناهيك عن اعاقة استكمال استراتيجية التهويد المتسارع، أو حتى التصدي لجاري انتهاكات المقدسات الإسلامية والمسيحية التي لايبدو أنها تحرك شعرة في لامبالاة العرب والمسلمين والعالم على حد سواء…وزيادة، فالمانحون في مؤتمرهم القاهري الأخير اعطوا الصهاينة مايشتهونه لجهة التحكم الفعلي في اعادة اعمار ما دمَّروه في غزة، وتيرةً ووجهةً وتوظيفاً، وحتى المشاركة في مغانمه!

الراهن العربي لايريد من يشغله عن داحس وغبراء حروبه الداعشية تحت البيارق الأميركية، والراهن الفلسطيني الرسمي المحكوم بتوجهاته التسووية انحدر الى مستوى استغلال الحصار واعادة الإعمار لإقصاء الخصوم والتوظيف التسووي…عودة المناكفات الى سابق عهدها بهذه السرعة تذكِّرنا بأن الانقسام يظل هو الثابت في الساحة الفلسطينية، أما كرنفالات المصالحات التي تواترت وتبخرَّت فور انقضاء مواسمها، فهى تكاذب لايتعدى التكتيكات التي ليس من شأنها أن تصمد طويلاً أمام  التناقضات المعلنة للبرامج، لاسيما وأن الانقسام هو اشتراط صهيوني، بمعنى أنه بات شبه مسلمة اوسلوية ليس في الوارد تجاوزها مادام خيار المفاوضات لامن خيار سواه عند اصحابه…مثلاً، حكومة الوحدة المظفَّرة لم تجرؤ حتى الآن على صرف رواتب موظفي غزة!

لقد كانت الأهداف الصهيونية الثلاثة، إلى جانب الحرب الأميركية على داعش والملف النووي الإيراني، هي وحدها الكامنة وراء رحلة يعلون الأميركية المشار اليها، دون أن نغفل المعلن من اهدافها، ومنه مايصفه الصهاينة بمسح اثار انتقاداتهم الفجة لكيري، وبحث القضايا الاستراتيجية المشتركة وجدولة المساعدات الأميركية للكيان الصهيوني مع نظيره هايغل، والاجتماع ببان كي مون والمندوبة الأميركية في الأمم المتحدة سامانثا باور لتطويق مسألة التحقيق في جرائم حربهم الأخيرة على غزة واستهدافهم للمنشأات الأممية خلالها، يضاف اليه كالعادة، انتهاز فرصة المقابلات الصحافية والدعاوية في اجهزة الإعلام الأميركية الصديقة بامتياز.

ما تقدم، لا يعني بحال أن الصهاينة، وإن تكاتفت كل المعطيات التي بيَّناها آنفاً لصالحهم، هم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق اهدافهم المذكورة. لكن ذلك من عدمه رهن بمدى افادة القوى الوطنية الفلسطينية  بدورها من دروس تجربتها الملحمية في غزة والبناء عليها، ووضهعا نصب اعينها حقيقة أكدتها عقود من المواجهات والتضحيات ناهزت القرن، تقول بأن هذا الشعب المكافح الصامد لاتوحِّده إلا مقاومته ولا يحمى قضيته من التصفية إلا شهداؤه.

لذا، وفي غياب المرجعية الوطنية المستندة إلى برنامج اجماع وطني مقاوم، أواستحالة ايجادها بسبب من التهافت التسووي الأوسلوي، فليس أمام قوى المقاومة الفلسطينية إلا المسارعة لتوحيد صفوفها واعادة الاعتبار لتحالفاتها واصطفافاتها الطبيعية مع القوى المواجهة والممانعة والداعمة للمقاومة قومياً واقليمياً ودولياً والاستعداد للجولة القادمة، هذه التي يبدو أن بوادر انتفاضة مقدسية قد بدأت في اشعال فتيلها وقد لاتلبث الضفة من زيادة اوار التهابها…وإلا، وفي ظل مثل هذا الواقع العربي والراهن الفلسطيني، فما من حائل دون الصهاينة واستكمال ما لم يستكمل بعد من استهدافاتهم.