فاشية أنظمة وقوى الدين السياسي…

الراسمالية في المركز والريعية في المحيط

(الجزء الثالث والأخير)

 

د. عادل سمارة

 

الثورة المضادة تحتل الدين

 

          ليس هناك من اتفاق على أن استجابة الاتحاد السوفييتي لنداء الجمهورية الأفغانية كان مساهمة في تقدم البلد او كان سلوكا إمبرياليا سوفييتياً. كما لا يتفق الكثيرون على ان الولايات المتحدة اعتبرت التدخل السوفييتي عاملاً إضافيا لمجموع عوامل تقويض ذلك النظام.

لكن هذا التدخل السوفييتي جاء مثابة فتح صنبور لتخلص دول الخليج وخاصة السعودية من تراكم أعداد غفيرة ممن أعدتهم وهابياً لمقاتلة الشيوعيين والمرتدين وكل من لا يتطابق مع فتاوى فهمهم للإسلام. مقاتلة بل قتل من لا يسير مسارهم الفاشي في تشكيلة ما قبل راسمالية ثقافيا ونمط تفكير، ومعولمة من حيث السيولة المالية.

قد يفيد المقتطف التالي لفهم الحاجة المزدوجة السعودية الأمريكية للتدخل في افغانستان. فبالنسبة للسعودية هي فرصة للقذف بكل هؤلاء الوهابيين المتحمسين الذين حتى احتلوا المسجد الحرام، والذين هم نتاج تعاليم الوهابية للتخلص منهم من جهة، ولإثبات بأن النظام السعودي السياسي وعقيدته الوهابية هي حامية حمى الإسلام.

من الطريف الإشارة إلى أن اقتراح قيام السعودية بمواجهة الشيوعية، وخاصة في أفغانستان،  هو من مدير المخابرات الفرنسية والذي ابتلعته السعودية بسعادة بالغة[1].  لذا كما يبدو كانت المبادرة لاحتلال أفغانستان في مصلحة السعودية قبل ان تكون مصلحة أمريكية.

“… منذ استلامه مسؤوليات المخابرت السعودية  في عام 1977 والأمير تركي يحول مبالغ ضخمة من المال لخوض حروب سرية. في منتصف السبعينات  كانت السعودية من الأعضاء المؤسسين لنادي سفاري  والذي كان فكرة الكسندر دي مرنشيه  الرئيس اللطيف للمخابرات الفرنسية  التي زودت السعودية بالغاز الذي انهى حصار مكة. كان الخوف الذي انتشر بسبب الأطماع السوفييتية والكوبية في افريقيا بعد الاستعمار  والعجز الأمريكي بعد فضيحة ووترجيت في العمل السري، المحرك الرئيسي لعرض اقتراح  من قبل المغامر ميرنشيه على والد الأمير تركي، الملك فيصل. كان اقتراحه كما يقول الأمير تركي:

“… انه بسبب ابتعاد الأصدقاء الأمريكان  من اللعبة …فإنه يصبح لزاما علينا نحن الدول التي تملك التوجه نفسه أن نبعد الشيوعيين  خارج افريقيا  بالمال والسلاح والجنود – وأي نوع من الحيل الأخرى”  كنا نقوم بذلك من أجل امريكا، لكنا كنا نقوم به من اجل انفسنا ايضا. كانت السعودية ترى في الماركسية فلسفة بغيضة ولعنة على البشر والدين. رأينا من واجبنا ان نحارب الاتحاد السوفييتي اينما وصل تهديده[2]

          من الواضح أن دور السعودية في تقسيم العمل الإمبريالي الأمريكي على توابعها وعملائها لم يعد يقتصر بعد الطفرة النفطية على تمويل حركات الإرهاب ومشاريع الثورة المضادة عالمياً. فطالما توفر لديها مخزونين:

  • السيولة المالية الهائلة
  • والأعداد الغفيرة من خريجي الثقافة الوهابية الكافرة (ليس التكفيرية).

صار لا بد من تصريف المخزونين قبل انفجارهما داخلياً. لذا، كان ميرنشيه مثابة المسيح المخلص للدولة المأزومة.

 بخصوص المال فقد فُتحت له مسارب عدة أهمها أربعة:

  • مواصلة تمويل مدارس التثقيف الوهابي باسم الإسلام[3]
  • تقديم تغطية مالية لعجوزات الأنظمة العربية ذات العجز على ان لا تكون هذه الأموال للتنمية مما يسمح للسعودية بالهيمنة على القرار العربي سياسيا ويسمح بتوسع التثقيف الوهابي اجتماعيا. هو ما اصطلح على تسمية الدول العربية ب “دول الفائض ودول العجز”.
  • تمويل حركات الثورة المضادة في العالم حسب الأجندة الأمريكية
  • تحويل مقادير هائلة من الفوائض المالية إلى الولايات المتحدة كي تقوم بإعمار السعودية طرق وسكك حديد ومباني…الخ[4].

“… لقد اعد الجاسوس الفرنسي كل شيى. سوف تقوم الوكالة الفرنسية بتقديم الدعم الفني  والمعدات والخبرة، بينما تزود المغرب ومصر بالسلاح. اما السعودية فستقوم بتقديم المال. طلب رئيس المخابرات الفرنسية  من الشاه الانضمام –الأمر الذي كشف مبكرا عن نشاطات النادي عند هروب شاه ايران  من طهران 1979، تاركا ورائه الوثائق من دون تمزيق.  في مارس عام 1977  قام الجنود المغاربة  (بدعم وتسليح السعودية) بصد هجمة كوبية انغولية كانت تنوي الإطاحة بموبوتو سيسي سيكو في زائير، كما تمت رشوة  الرئيس الصومالي محمد سياد بري للابتعاد عن  الترحيب بالسوفيات عن طريق تقديم سلاح مصري قيمته 75 مليون دولار  (دفعت من قبل السعودية) كما ان المال السعودي مكن تشاد والسودان من الابتعاد قليلا عن معمر القذافي”.[5]

أما بخصوص المخزون المتضخم من الشباب الوهابي فقد وجدت السعودية سوقاً هائلة له في أفغانستان. لتصبح هذه السوق ممتدة على نطاق عالمي مما يستغرق المخزون الوهابي اوالإخواني من الشباب والعمال والفلاحين الفقراء والمضيعين طبقياً وليتم تسخيرهم ضد الأمة العربية خاصة وباسم الإسلام. لعل هذا هو الإسلام الذي تحدث عنه جيمس وولسي، وهو ما يسمح لنا بأريحية بالقول بأن هناك مجموعة من الإسلامات أحدها الإسلام الأمريكي.  حيث كشف رئيس وكالة الاستخبارات السابق جيمس وولسي ما مضمونه: «سنصنع لهم إسلاماً يناسبنا، ثمنجعلهم يقومون بالثورات، فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية. ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر».

في هذا المناخ، بدأ التجنيد لغزو امريكي سعودي لأفغانستان عبر المجاهدين,

في “… فبراير 1980،  وافق كارتر على برنامج سري  يضع افكاره موضع التنفيذ- اتفاق سري بين السعودية والولايات المتحدة  يقضي بالمشاركة المتساوية بينهما دولارا بدولار، لدعم المحاربين الأفغان، وجر السوفييت إلى “فيتنامهم الخاص بهم”. انفقت الدولتان  ما يزيد على 3 بليون دولار لكل منهما، بحسب ما قاله راشيل برونسون  الذي يعتبر مرجعا  في العلاقات الأمريكية السعودية، في اتفاق تعاوني تبين انه  مغير للعالم[6]“.

 يكمل الكاتب في موضع لاحق من الكتاب بأن الولايات المتحدة لم تدفع حصتها!

          ليست مبالغة  بأن الثورة المضادة قد غيرت العالم بدءا من أفغانستان. لقد تفكك الاتحاد السوفييتي وتم تدمير الأنظمة العربية ذات التوجهات القومية والتقدمية والعلمانية ويتعرض هذا الوطن لجيوش جرارة من قوى الدين السياسي سواء من داخلها أو من خارجها.

وهكذا، فإن نبتة سايكس-بيكو لا تزال تورق زقوما. فالدولة القطرية أدت دورها ضد القومية العربية، وأثبتت ولائها المطلق لخالقها ،المركز الإمبريالي فتحكمت بحصتها من اقتصاد التساقط من الريع النفطي الذي يزيد عن حاجة وترف الأسر الحاكمة،وهي حصة هائلة رغم ضآلتها مقابل حصة الشركات الغربية، ثم قامت برد هذه الحصة ايضا لصالح المركز الإمبريالي على شكل تمويل الحروب وتمويل تثقيف بالوهابية بخلق إسلام امريكي بلا مواربة.

من هي عناصر قوى الدين السياسي الفاشية؟

يشكل الريف دائماً مخزن قوة العمل الفائضة المرشحة للعمل في المدينة سواء في الصناعة أو الخدمات أو الجندية. طبعاً هذا في وضع الأمم التي اتخذ تطورها مساراً طبيعياً، أو لنقل تدريجياً في التطور كما هو حال الدول الأوروبية الغربية خاصة.

وعلى الدوام، تهرب أو تتسرب قوة العمل الريفية الفائضة وغير المالكة او التي تملك حيازات من الأرض لا تكفيها، تتسرب إلى المدن. هكذا تمكن الفلاحون، دون وعي منهم، من تقوية البرجوازية الصناعية الصاعدة في أوروبا الغربية مما لعب دورا بارزاً في التحول من الإقطاع إلى الراسمالية.

يختلف الوضع في البلدان العربية مقارنة مع أوروبا، ويختلف حتى من بلد لآخر من حيث ظروف الحياة، مستوى التعليم والثقافة، وبالتالي فرص العمل. وهذا الاختلاف مرده إلى التجزئة بما في ذلك تجزئة الثروة من جهة، وطبيعة أنظمة الحكم، وبالطبع التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية نفسها من جهة ثانية، وكل هذا راجع إلى الرسملة الهشة والمشوهة لهذه البلدان.  لكن النتائج نفسها فيما يخص مآل قوة العمل الفائضة والمهمشة في مختلف البلدان العربية وحتى الإسلامية.

          أشرنا أعلاه إلى فراغ الساحة المجتمعية العربية فكريا وثقافيا من القوى القومية والشيوعية العربية، الأمر الذي اشغلته الثقافة الدينية بمفاهيم وقراءات أنظمة وقوى الدين السياسي للإسلام.

لقد وجد الشباب العاطل عن العمل في هذه الثقافة مرشده إلى الحياة ليحقق لنفسه دور فيها. وهي ثقافة تربطه بالسماء وتفصله عن الأرض. ثقافة تُشعره بأنه قد تعلم الإسلام الصحيح وبأن هذا الإسلام مهدد من الكفار وبأن دوره تحرير الإسلام. أما تصنيف الكفار فيتزايد بمتوالية هندسية قد تنتهي بالعالم إلى آخر “بطل” قاتل!

بعد هذا الحشو التهييجي، ما الذي يمنع شاب لا يعمل ولا يملك، ما الذي يمنعه  من القبول بدور المقاتل من أجل “الإسلام”. فهو من جهة من طبقة اجتماعية فقيرة، قد يكون أميا وقد يكون ذي تعليم بسيط. قد يكون بحث عن عمل ولم يجد، وقد يكون قد اشتغل منذ سن العاشرة في ورشة او مجال خدمات. وهناك شبَّ على سماع الإهانات والاحتقار والعمل المضني والأجرة الضئيلة، وسماع أوامر: يا ولد، قوم إعمل كذا،  جيب قهوة، نظف سيارة الزبون، يلعن ابوك…الخ. وقد يكون أحب ولم يُقبل، وحاول الزواج المبكر لحل الحاجة الجنسية ولم يستطع. وهو يختزن كل هذا بالطبع. وقد يكون من اسرة فقيرة كان اباه يعمل في مكان ما مزرعة ما، وتم فصله.

أما الفئة الأخرى من مخزون قوى الدين السياسي فهي التي وفرت لها الأنظمة قومية الاتجاه تعليما مدرسيا وجامعيا مجانياً، ولكنها حين تخرجت وجدت نفسها بلا عمل. غضب هذه الفئة وفقرها أيضا دفعها إلى الدين السياسي سواء كتنظير أو بذهابها إلى الخليج حيث تم هناك مسح الثقافة التنويرية التي حصلت عليها في مصر وسوريا مثلا، لتحل محلها الأفكار الوهابية أو الإخوانية. هذه الفئة شكلت القيادة او الكوادر الوسيطة لقوى الدين السياسي. أما الصف الأول لهذه القوى فهو من رجال الأعمال وكبار التجار ذوي العلاقة القوية بكل من أنظمة الخليج الريعية أو الأنظمة الراسمالية الغربية.

هناك الكثير من الظروف التي يمكن للمرء التفصيل فيها. لكن ما يهمنا هنا أن هذا الشاب وجد في التثقيف بأدبيات الدين السياسي ما يخلصه من ذلك الذل. فما الذي يمكن أن يمنعه من الانخراط في هذه القوى التي توفر له:

  • الدخل المالي الغزير الذي لم يحلم به قط[7].
  • وتوفر له التثقيف الذي يحرضه على “الثورة” ضد مضطهديه الكفار من صاحب العمل إلى رئيس الدولة؟ لنتذكر  الغوغاء من العراقيين الذين كانوا يقدمون عرضاً أمام جنود الاحتلال الأمريكي لإسقاط تمثال صدام حسين يوم سقوط بغداد (9 نيسان 2003) ، ولا شك أن معظم هؤلاء قُتل لاحقاً على أيدي بعضهم بعضا وعلى ايدي الجنود الأمريكيين. ولنتذكر كيف قتل قادة العراق الحاليين صدام حسين يوم عيد الأضحى ليُرسوا حقدا طائفيا كانوا في غنى عنه. ولنتذكر كيف قام هؤلاء بالتمثيل بالعقيد القذافي الذي طاردته وقتلته المخابرات الأمريكية والفرنسية وهو حي، وها هم يذبحون بعضهم بعضاً.
  • وتوفر له السلاح الذي بوسعه به قتل الجندي او الضابط او رئيس الدولة؟
  • وتوفر له النساء بالمجان وبأعداد غفيرة تحت فتوى جهاد النكاح[8].

أليس هذا مناخ توفير الفرصة والإمكانات لقوى شبابية عديدة من الممرورين نفسيا وحياتياً كي ينتقموا؟

يردنا هذا إلى النقاش المديد حول ثورية الطبقة العاملة أو حصر خياراتها في الثورة الطبقية. وهذا الحصر هو في الحقيقة نمطاً من نمطية الإيمان الأعمى أو الفتوى بلا تدقيق ولا قراءة صحيحة.

صحيح أن هذا الشباب يقوم بما يقوم به لأجل غيره، وبلا مضمون طبقي، ولكنه غير واعٍ، يرى الأمر في نطاق فرصة الانتقام الفردي حتى لو انتحاراً. هي بالنسبة له لحظة الانتقام الفردي، لحظة حرية أخذ قراره بيده ولو لمرة واحدة للحظة واحدة.

بل هو يستسهل الموت تفجيراً معتقدا بأنه شهيداً تنتظره الصفوف من الحور العين. والموت بهذه الطريقة لا يحتاج لتدريب ولا قوة أعصاب كما هو حال المقاتل المشتبك الغواري والذي يتقي الموت ويتوقعه في كل لحظة ويواصل القتال.

يمكن للمرء فهم حماسة هؤلاء الذين تحولوا إلى إرهابيين من سماع حديث قطاعات شعبية كثيرة عنهم، يؤيدون داعش والقاعدة ويرون بأن ما يقومون به هو الحل. وهذا يفسر وصول كثيرا من الناس إلى الاقتناع بأن القتل هو الحل! وتطوع فلسطينيين من الأرض المحتلة 1948 لصالح داعش! إنها لحظة جنون جماعي لا ثورة.

 

المناخ السياسي الاجتماعي لفاشية الدين السياسي

يختلف ما يحدد طبيعة السلطة الفاشية في بلدان الخليج العربي عنه في بلدان المركز الراسمالي التي أفرزت الفاشية. فكما اشرنا هناك طبقات متمايزة متفارقة وحتى متصارعة في المركز، طبقة عاملة وطبقة برجوازية وطبقة وسطى وشرائح أخرى، وهناك أحزاباً ومنظمات مجتمع مدني…الخ. والأهم من كل هذا، هناك قاعدة إنتاجية تستغرق المالكين والعاملين. وهناك الديمقراطية السياسية التي أعطت العمال حقوقا ما، اقلها وربما اهمها واخطرها معاً، حق الإضراب والمطالبة بأجور أحسن، وهي حقوق غالبا ما تتم تلبيتها عبر جهاز الدولة وسلطة الطبقة/الشركة التي من مصلحتها امتصاص احتجاج العمال كي لا يقع الإضراب الكبير الذي يشل مواقع الإنتاج فيقطع خط الإنتاج الذي يولد الربح علماً بان الربح  بل الربح اللامحدود هو هدف الطبقة الراسمالية.

في هذه البلدان تولدت الفاشية التي هي السلطة الطبقية الراسمالية حين الأزمة.

لم تستخدم الفاشيات الأوروبية الدين كثيراً (المانيا وإيطاليا وإسبانيا). ولكن اللافت أن الأزمة المالية الاقتصادية في الغرب الرأسمالي والتي بدأت من منتصف ستينات القرن العشرين، متمظهرة في تدني معدل الربح، والهجوم على مكتسبات العمال، وإعادة المرأة إلى المنزل لتكون كاثوليكية جيدة، وتفاقم هذا الهجوم حينما تم تبني السياسات النيولبرالية التي هي فاشية اقتصادية بامتياز. فهي هجوم على الطبقة العاملة دون ان يتم تجنيدها في مرتب او ميليشيا  لحزب البرجوازية الحاكم، (كما كان في غيطاليا والمانيا سابقاً)  مما جعل عجزها عن الحراك والتصدي، بغض النظر عن الأسباب، خدمة لفاشية البرجوازية.

لقد أدخلت الراسمالية الأمريكية الدين السياسي إلى جانب فاشيتها الاقتصادية التي  نبعت من مدرسة النقودية في شيكاغو، وهو الدين الذي تجلى في المحافظية الجديدة وفي تيارات فاشية أخرى في اوروبا. دين سياسي مسيحي متراكب مع اليهودية يبرر للولايات المتحدة التحكم بالعالم وارتكاب مذابح ضد أمم بأكملها[9].

هناك فوارق هائلة بين ممارسة الدين السياسي في المركز وفي الميحط وخاصة العربي، وهو غالبا ناجم عن الفارق في بنية التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية في المركز والمحيط.

صحيح أن الانعطاف إلى الدين في المركز متعلق بالأزمة الاقتصادية. لكن المشكلة او الاستعصاء أن هذه الأزمة الاقتصادية لم تتحول بعد إلى أزمة اجتماعية. فالأزمة الاجتماعية في مجتمع صناعي إنتاجي تأخذ منحى طبقيا، تناقض وصراع طبقي. فلم يتم في المركز تخريب خط الإنتاج بل ولم تحصل إضرابات شديدة كذلك.

 ولأنها لم تأخذ هذا المنحى الطبقي بعد، فقد انحصرت في ردة طقوسية من جهة، وتم تصديرها ضد بلدان المحيط من جهة ثانية، وهذا ما أعطاها بعد الفاشية المعولمة. وإلا ما معنى الهجوم على الإسلام وعلى ارض المسلمين؟ لا شك طبعا أنه هجوم مصلحي مغلف بالدين تقبلته الشعوب هناك بشكل نفعي انتهازي وحتى عنصري طالما يزيح النار عنها على غيرها.

لعل الأمر أكثر جلافة في تركيا المسلمة، حيث يُعاد انتخاب حزب الدين السياسي وراسه اردوغان رغم حربه على سوريا المسلمة بما في ذلك سرقة القاعدة الصناعية من حلب وتسهيل بيع نفطها المسروق من قبل قوى الإرهاب إلى الشركات الغربية!  الحزب الذي يحافظ على تحالف وتعاون استراتيجي مع الكيان الصهيوني وعلى عضويته في الناتو.فأكثرية الأتراك انتخبوا الحزب متمتعين بالاستثمارات الغربية مفضلين تحسن وضعهم  الاقتصادي على أُخوَّة الدين!.

في بلدان الخليج النفطي التي هي انظمة دين سياسي وتغذي قوى الدين السياسي (الوهابية في السعودية والإخوان في قطر) أمامنا تشكيلة اجتماعية اقتصادية:

  • تحكمها سلطات عائلية بدوية الثقافة مليارديرية السيولة المالية
  • تقودها عشيرة  يكون الملك فيها أحيانا أمي تماما[10]  أما بقية الأمراء فبالكاد يتمكنوا من قراءة  كلمات مكتوبة بأحرف ضخمة. كيف  لعشيرة كهذه أن تتعامل مع الشركة متعددة الجنسيات لولا وجود خبراء غربيين يحصلون على مبالغ خيالية ويكرسون التبعية في الأعماق.
  • قوة عمل تربأ عن العمل وتعتاش على تفضلات سلطة تحتل الريع الموجود في البلد
  • أما قوة العمل قيد العمل فمستجلبة من الخارج، مقموعة وبلا حقوق تكره البلد والبلد تحتقرها وتمارس ضدها عنصرية من مستوى متخلف.
  • إذن تشكيلة مشوهة بدون بنى طبقية محددة وبدون أحزاب أو أية مسحة من الديمقراطية حيث يعالج كل شيء بحد السيف، مليئة بمحزون شبابي غارق الثري منه في الملذات وفراشات الليل وأما الفقير فغارق في الثقافة الوهابية.

نحن إذن إزاء راسمالية ريعية هي الطابع العام، ولكن في بنيتها تكوينات طبقية باهتة غير منتجة وطبقة عاملة مستجلبة من الخارج تشتغل ضمن البنية الريعية، لكنها عابرة الوجود على الأرض وتعلم أن ليست لها حقوق المواطنة ولا حتى الإقامة مما لا يضعها في اي مستوى من مخاصمة السلطات الثلاث المتحالفة في هذه البلدان وهي:

  • السلطة الإمبريالية التي تسيطر على القرار المالي الأمني  السياسي الإقليمي والخارجي للبلد
  • والسلطة السياسية الحاكمة والتي تسيطر على الناس كلياً
  • والسلطة الدينية التي تكره الأجنبي وتطيع وتفتي بحواز تبعية السياسي له

 في هذه الحالة، فإن هشاشة البنية الطبقية وهلاميتها يجعل من المجتمع حالة او تجمعاً عاماً يسهل على الفاشية السياسية مدعومة بمثقفها العضوي أي الفاشية المؤسسية الدينية أن تحكم وتسيطر معفاة من توفير اية حريات اجتماعية سياسية ثقافية. أي شمولية فيما يتعلق بالموقف من الحريات سواء السياسية او الاقتصادية او الفكرية الثقافية.

في الحالة الخليجية حيث لا اضطرارا لقمع الطبقة العاملة المستجلبة على نحو غير استيطاني (كما الكيان الصهيوني) حيث تعمل مقتنعة بأن لا حقوق لها، أو الطبقة العاملة المحلية المتشظية والتي تبتعد عن قطاعات الإنتاج حيث تنحصر في أعمال خدمية وأجهزة السلطة البيروقراطية، فهي تفتقر لثقافة الطبقة العاملة بحكم طبيعة مصدر الدخل ومجال العمل وبالطبع نمط الإنتاج الأمر الذي جعل منها أداة في تمكين الفاشية السلطوية والدينية. وهذا ما اتخذ :

  • الشكل الكلاسيكي في فرق المطاوعة
  • والشكل الجديد المعولم  في الدور الإرهابي لصالح المركز الراسمالي بدءا  بتشكيل القاعدة في افغانستان وصولا إلى داعش في المشرق العربي.
  • والشكل الإقليمي في الحرب على الأنظمة العربية قومية الاتجاه.

 

أيها الإسلام الصحيح؟

 

هل الإسلام دين ودولة؟  ما مدى براءة وعلمية الغربيين الذين يقولون بأن الإسلام: “لا يمكن تجزئته، ولا يمكن استبعاده” وأين هنا موقع الفرد فيه إذا صح هذا القول؟ وما الفرق بين الفردانية في الغرب المتقدم وبين وجود طقوسية دينية؟ ما السبب في تغييب الفردانية في الإسلام، . ثم أليس الحاكم ورجل الدين الإسلامي فرداني؟ لماذا الرعية لا؟

 هل السبب فردانية راس المال؟ هل كان الإسلام سابقا كلياني؟ ما العلاقة بين الكليانية والفاشية؟

ولكن، أليس الإسلام ضد الإكليروس؟ فكيف لا تكون هذه القاعدة مقدمة لعلمانية الاسلام؟ أم أن الإسلام تراث شامل وثقافة سياسية؟ وان كان هكذا فيجب ان لا يتورط في الإقصائية. فكيف تحتم ان يكون اقصائياً إلى الحد الأقصى؟ وما هي العوامل التي إذا توفرت تقود إلى  تحويله فاشيا على يد أنظمة وقوى الدين السياسي؟

لكن الإسلام نفسه تعايش مع  اتباع الديانة الفارسية القديمة  الزرادشتية واعتبرهم من اهل الكتاب، هذا ناهيك عن اديان في العراق لم نسمع بها سوى بعد ذبحها على يد داعش، مثل الكاكائية.  لقد قبل الإسلام بالتعددية الدينية منذ اربعة عشر قرناً. وحافظ على اليهود والنصاري بتعدد طوائفهم.

هل تعود هذه المرونة الإسلامية إلى فهم وموقف السلطة في الدولة المزدهرة من رعاياها، وهو الأمر الذي يضيق كلما تراجع الوضع الاقتصادي للدولة أو كلما كانت تابعة؟  لماذا لم يكن الإسلام إقصائياً؟ هل لأن القوي لا يقصي.  كيف كان الحاكم العربي في إشبيليا في  الأندلس يحيط قصره بالحي اليهودي ثم الحي المسيحي وأخيراً الحي الإسلامي؟

إذا كان الإسلام دين ودنيا، فكيف نصل إلى المخول بأن يمثل الدين والدنيا؟  فالتاريخ حافل بالفرق الإسلامية المتناحرة على السلطة، كيف نفرز الأحق من بينها لا سيما وأنها تمثل أحزابا سياسية ماضيا وحاضراً. منها إسلام دول: الفاطمية،  والإدريسية  وإمامة عمان والقرمطية  في البحرين  وزيدية اليمن ثم حديثا وهابية آل سعود وسنوسية ليبيا. ثم الأحزاب كالإخوان والتحريريين واليوم القاعدة وداعش…الخ

إذا كانت الخلافة مسألة فقهية فهل من الصحيح تحويلها إلى مسألة عقدية؟ كما تفعل القاعدة وداعش؟

هل الإسلام الصحيح هو إسلام الوهابية السعودية الذي تخرجت منه القاعدة وداعش، حيث غذاها فكريا وماليا وتحريضا وتسليحاً بدءا من دفعها إلى افغانستان وصولا إلى سوريا؟ هل يمكن الثقة بصدقية إسلام السعودية (سلطة وشيوخاً) التي شحنت بالوهابية شباب بلادها وخلقت ودعمت القاعدة وداعش منذ نهاية سبعينات القرن الماضي وحتى آب 2014،  ولكن حينما كفَّرت داعش النظام السعودي بل ومختلف أنظمة الخليج، وقررت امريكا محاربة داعش محاربة نفاقية بهدف دفعهم إلى سوريا، تحولت فتاوى مشايخ السعودية بتكفير داعش كما أفتى مفتي السعودية عبد العزيز بن شيخ؟ وهل الموقف الوسطي السعودي صحيحاً بأنها تحارب داعش الحركي وليس العقدي، أم أنها لا تستطيع التنكر لفكر داعش الذي استقته من السعودية نفسها؟

الإسلام ليس أمة واحدة، وإلا فما معنى دفع تركيا لمحمد علي ليهدم المملكة الوهابية لصالح العثمانية 1818، ولتختلف القاهرة بقيادة الإسلامي السيسي مع تركيا اردوغان في العام الماضي وتتحالفان اليوم بقيادة أمريكا ضد سوريا المسلمة؟ كيف يمكن لأمريكا أن ترغم “الإخوة الأعداء في السعودية وقطر وتركيا ومصر” على الجلوس معاً وعلى الحرب معاً ضد سوريا لولا أنهم جميعاً يجمعهم الإسلام الجديد، الإسلام الأمريكي؟

من هو الإسلام الصحيح؟ السعودي الوهابي أم الإخواني القطري وهما تحت راية امريكا تعتديان على سوريا والعراق؟

كيف يمكن أن يقوم الأزهر بمنح الملك عبد الله في السعودية درجة الدكتوراة على خدماته للإسلام؟  بينما السعودية ومعها الإمارات وقطر شاركت في قصف الجيش الليبي لإسقاط نظام العقيد القذافي المسلم. واليوم تقتتل السعودية والإمارات مع قطر في ليبيا وكله باسم الإسلام؟ وجميعهن يلتقين تحت راية أمريكا في جدة ضد سوريا بحجة مواجهة داعش[11]؟

وهل إسلام حماس هو الصحيح وأحد أبرز قادتها يفتي بأن الإسلام يسمح بمفاوضة العدو الصهيوني[12]، وأمينها العام خالد مشعل يفتي في قطر في حواره مع اميرها ومع رئيس سلطة الحكم الذاتي في رام الله، بقبوله دولة في المحتل 1967 بينما قيادات أخرى في حماس تتبرأ من إقواله؟

عودة أم صحوة أم استثمار؟

إذا كانت كل هذه الفواحش تُرتكب باسم الدين وتحت يافطة الصحوة الإسلامية، فهل من خطر على الإسلام  وخاصة على الأمة العربية أكثر من هذا؟ هل كل هذه الدماء تعبير عن عودة الدين وهي حقا استدعاء الدين والاستعانة به بل استثماره لأهداف ومصالح سياسية طبقية بلا مواربة.

مع هذه “الصحوة” تشتبك الطوائف والمذاهب والإثنيات مع بعضها بعضاً. ولكن، حين تطلب منها الولايات المتحدة ان تصطف إلى جانب بعضها لأجل هدف امريكي  محدد، لا يتردد ايا منها عن تلبية الطلب. فهل امريكا إذن هي الإسلام الصحيح وعنوان الصحوة؟

هذه الصحوة رباعية الأبعاد:

  • صحوة الحرب المفتوحة على العروبة
  • صحوة الاعتراف الفعلي بالكيان الصهيوني[13]
  • صحوة التذابح المفتوح بين المذاهب الإسلامية
  • وصحوة تتويج الولايات المتحدة قيادة للإسلام والناتو جيشاً يحمي أرض الإسلام.

هل الصحوة هي حلول انظمة وقوى الدين السياسي محل العلمانية والعروبة والفكر القومي والشيوعي؟

بل وابعد من ذلك، فالصحوة هي جوهرياً تمكين إيديولوجيا السوق، تمكين الغرب الرأسمالي من إعادة إنتاج سيطرته على نطاق موسًَّع معولم.  تعميم السوق كإيديولوجيا، وتوسيع السوقلدى غير المنتجين، بل المستهلكين بشرهٍ استهلاكي لا ضوابط له.

وبعد، ليست الفاشية مدرسة واحدة لا في المركز ولا في المحيط. فهي تختلف باختلاف طبيعة التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية ومستوى تطور أنماط الإنتاج المهيمنة. ليس الدين هو الذي يحدد فاشية دولة او حزب ما، بل المصالح الاقتصادية في التشكيلات الراسمالية سواء المتقدمة الاحتكارية في المركز أو الريعية في المحيط وخاصة العربي. فأظمة وقوى الدين السياسي في الوطن العربي تبدو وكأنها فاشية بسبب الدين، بينما هي تقوم بتسييس الدين خدمة وتشريعاً لمصالحها السلطوية وبالطبع الاقتصادية.