الفانتازيا الاخيرة للعرب

 كلاديس مطر

وصل ولع الناس بالاخبار السياسية والمقالات التحليلية الى درك غير مسبوق بل حتى هزلي. آلاف المقالات التي تكتب حول العالم يوميا عن الصراع الدائر، وجهات نظر من كل حدب وصوب ، تصريحات ومقابلات على الهواء وفتاوي وخلاف في الافكار والمقاربات وتضليل هنا وكذب من هناك…والكل مازال يكمل سيره في وسط هذه الزحمة من الضباب الاعلامي السياسي يريد ان يعرف اين هو طريقه وكيفية الخروج من هذه المعمعة. ثم هناك الفيس بوك وكل تطبيقات التواصل الاجتماعي التي هبطت علينا من اللامكان فقلبت حياتنا رأسا على عقب. دفق من التعليقات والصور والاحلام والفانتازيا السياسية والجنسية والدينية والاجتماعية التي لا آخر لها .

“الحقيقة” الواضحة وضوح الشمس في صراع “الربيع” الدامي أصبحت تحت تأثير الادلجة والتسييس والطأفنة ولهذا فإن اي مقاربة لها او محاولة لشرحها لايمكن ان تجدي نفعا امام عقل هدته رياح التدين الطائفي والمذهبية الفتاكة. في بدايات الصراع على سوريا  كان يكُلف القتيل الواحد ما يقارب الخمسمائة ليرة سورية ( كانت قيمتها منذ 4 سنوات  أقل من 4 دولارات لاغير) وكان هناك ارقام فلكية من الاموال تُدفع للعاطلين عن العمل والجهلة وفاقدي الهدف لكي ينخرطوا في هذا الجحيم الذي هد البلد. لم يكتف صانعو الصراع  بهذا وإنما أمنوا دخول كميات مهولة من حبوب الكبتاجون لكي يمعن المجاهد في هذيانه وتطرفه ( من أهم عوارض هذه الحبوب المدمرة : السهر لفترة طويلة، تعطيل النشاط الذهني، كثرة الحركة واجهاد الجسد الى ما فوق طاقته، السرحان والشرود الذهني والنسيان، السلوك الهستيري من دون وعي وفقدان الاتزان والحكم الصحيح على الأمور والشك في الناس، العصبية الزائدة واضطرابات في الذاكرة واختلال في الإدراك وحالات من عدم التركيز وترتيب الأفكار علاوة على كل العوارض الجسدية الاخرى التي اهمها تدمير الجهاز العصبي المركزي في الجسم ). البارحة فقط منعت سلطات مرفأ بيروت دخول كمية كبيرة جدا من الكبتاجون فلربما ما يحدث في طرابلس من انتهاكات أمكن للجيش اللبناني من وضع حد لها لم يلقى رضى منظموه على اداء ” زعرانهم ” حيث الكبتاجون عنصر مساعد على التدمير . رافق كل هذا شعارات عقائدية ودينية تحرك الغرائز و تشل النفوس فتم تأمين كل مستلزمات الخراب إما استيرادا من دول ( أكثر تقدما وتحضرا ونفاقا) او تأمينا من السوق المحلية حيث (حطب) الصراع  ووقوده أتى من الجلهة ومثقفيهم ومؤذنيهم ورجال دينهم وسياسييهم وفنانيهم الذين لطالما كانوا يحملون علم البلاد على أكتافهم في أي مكان يذهبون اليه ويرقصون به.

في غمرة كل هذا تكمل بعض وسائل الاعلام وهي كثيرة مثل طوفان البحر عملية التأجيج بغرض زيادة عائداتها من الاموال ليس الا ولو وصل كل هذا الخراب باب دارها. اذا كيف نخرج من هذا النفق ومازال هناك المزيد من العقليات الداعشية النائمة والمرابضة تنتظرالتحرك ، عقليات مفتونة بدولة النكاح والحريم والسبي والذبح و زواج القاصرات وتعليم الاطفال كيفية قطع الرؤوس‼ العقليات الداعشية التي كان وراءها، من بين أسباب اخرى،  سفر شبابنا في منتصف الثمانينات الى بعض دول الخليج للعمل حيث جلبوا معهم تطرفا لم يكن مألوفا،ولو ظاهريا، في دول الشام المعتدلة  . وها هي هذه العقلية التي كانت نائمة مثل خلايا المرض تظهر لدى البعض من افراد وشباب الجيل الجديد الذي وجد أن هذا الحلم يمكن تحقيقه مع الدولة الاسلامية التي تحاول ان تومىء برأسها من بين ضباب المصيبة. إن هذا الجيل الشاب الداعشي المنفعل لم يعش  لسوء حظه – حقبات أبكر وأقدم حيث نساء ورجال، بقامات السنديان تركوا بصمات لا تنسى على عقلوبنا وعقولنا …جمال عبد الناصر و أنطون سعادة و أم كلثوم و صلاح جاهين وفارس الخوري وفاتن حمامة ونجيب محفوظ ونوال السعداوي وهواري بو مدين وكثيرون كثيرون غيرهم ممن لم يلتفتوا في زمنهم الى الجنون الذي انخرط فيه أولادنا وأبناؤنا حين سمحوا لابواب البيت ان يدخل منها الغريب و يستبيح كل شيىء. حين كانت أم كلثوم تغني ” أصبح عندي الان بندقية ..الى فلسطين خذوني معكم ” كانت الناس تنتفض رهبة وتأثرا في ثيابها، وحين كان عبد الناصر يقول ” ع الجذمة بكل المساعدات الأميركية ” كان الجمهور يصرخ صرخة رجل واحد: لبيك. وحين كان أنطون سعادة يقف مخاطبا الجمهور رافعا يده ” تحيا سوريا” كان إحساس بالانتماء والرقي والالتزام يلف الحشود ، وحين كانت نوال السعداوي تقول ” انا زي زيك ” كانت تمتلىء قاعات مسارحنا بجمهور نعثر عليه اليوم فقط في صالات الاوبرا في اوروبا، هذا الجمهور الذي كان جمهورنا فيما مضى . في تلك الايام كان الطلاب يذهبون بالبدلة الرسمية الى الجامعة والفتيات بالفستان الانيق لان للجامعة حرم وكان الكل يخرج في مظاهرات لتخليص الوطن من الاستعمار وليس لاستجلابه لاحتلال البلاد وانتهاك حرمة العباد …الطوائف الدينية نفسها كانت موجودة وكانت تتعايش ولم يكن في الوارد ان يكفر أحد الآخر عبر الهواء في موضة خرقت اليوم كل المتعارف عليه في الدين والدينا.

العقلية الداعشية مهدت لها الكثير من الحوادث التي وقعت في التسعينات وسنوات الالفين وربما حتى قبلا.  تحرك الاخوان المسلمين لتدمير سوريا ومصر واغتيال افضل مفكريها؛ قتل فرج فودة الكاتب العلماني، تكفير نصر حامد ابو زيد ونوال السعدواي وغيرهم، محاولة اغتيال نجيب محفوظ، وضع العديد من المثقفين والعلمانيين واليساريين وذوي العقل الحر على لوائح الاغتيال وتخويف المجتمع وترهيبه وانتشار الحجاب بين النساء وخصوصا الفنانات وتكفير كلا من الفن والتفكير الحر وثقافة التساؤل. لقد ظهر في تلك الحقبة الحنين ” المفاجىء” الى ازياء وعقلية الماضي الذي تم حشره عنوة بين تفاصيل يومياتنا فتشوهت الدنيا فينا والآخرة. مع ذلك لم يكن هناك برامج على مستوى الدولة لكي تتلقف كل هذا وتعالجه …لم يكن هناك خطة لاستيعاب هذا التطرف الوليد أنذاك، لم يكن هناك رؤية وطنية وحكومية ناجحة تستطيع ان تقترب من جسد التدين الملتهب و تهدئه لصالح الكل في المجتمع.  هناك يد خارجية تعبث في هذا الجسد ؟، نعم قد يكون هناك يد ما و لكن هذا جسدنا في نهاية المطاف . للرأسمالية الغربية البيضاء بكل ما فيها من ميول امبريالية استعمارية واستكبارية يد في ذلك ؟ نعم، هذا صحيح ولكننا أيضا نملك الارضية الخصبة والخشبة المتينة التي تسمح بمثل هذه الاختراقات. لقد ادعى الدين انه احتكر الحقيقة مرة واحدة والى الابد، ادعاء انتشر مثل النار في الهشيم فعمى العيون وأوقف التفكير وشل الارادات. حتى (الذروة) في تقنية العمل الروائي اصبحت مدانة كما ذكر مرة الكاتب الفذ جبرا ابراهيم جبرا وذلك لان الذروات ومصير الشخصيات يقررها الله فقط وليس احد آخر حتى ولو كانت شخصيات مختلقة على الورق ‼ ألهذا تأخر العرب في كتابة الرواية؟ ألهذا نحن أمة نخاف من ان نمشي خطوة الى الامام من دون اخذ موافقة الله ورجاله عليها؟ ألهذا نحاول ان نطابق بين كل مُكتشف جديد وبين الكتب المنزلة، فإذا كان متضمنا في كتاب الله ومتنبأ به مسبقا فاننا نوافق عليه والا فاننا ندير له ظهورنا؟ ما هذا الجنون الفالت من عقاله الذي وصلنا اليه؟ جنون تحتاجه حتما وبقوة السياسة ورجالها ورأس المال لكي يصلوا الى غاياتهم الاكثر اجراما و ارهابا من اي اجرام وارهاب.

مأسسة الثقافة والمثقفين، مأسسة الفكر والمفكرين، قولبة الميول والافكار، قولبة الارادات والمشاعر ..كل هذا لكي يتطابق مع كلام الله – المصمم على مقاسهم- الذي له الكلمة الفصل في المعارك الدائرة والطاحنة اليوم إذ كل شيىء يتم باسمه وبرضاه تماما مثل اله العهد القديم الذي كانت الحروب والقتل ونكران الاخر تتم باسمه. اله غيور لايعترف بالآخر ولا يرى أمامه سوى شعبه المختار. أليست فكرة الشعب المختار هي البذرة الاولى للطائفية و للتفكير الداعشي ؟ ما هذه الفكرة الاسطورية الماروائية السخيفة التي مازالت دائرة فوق كوكب الانسانية الايل للسقوط هذا ؟؟؟

في المسرحية الرائدة (ع الرصيف ، ربيع 1987) لسهير البابلي المذهلة التي قررت فجأة ان تعود الى الصواب و تتحجب وكأن كل تاريخها الفني الجميل كان خطأ، أقول في مسرحية (ع الرصيف) التي انتقدت بشكل غير مسبوق ورائع كل عصر الانفتاح الذي ذبح مصر اقتصاديا وسياسيا والاهم وجدانيا في حقبة الثمانيات وأدخل اليها التطرف اضعافا مضاعفة،  في تلك المسرحية، نعثر في واحد من المشاهد الفذة على صليب ضخم مزروع في وسط الخشبة مصلوب عليه المواطن الشريف الذي لا يبيع ولايشتري والذي لا يباع أو يُشترى ( الممثل حسن عابدين). لم تخرج وسيلة اعلام تنتقد رمزية الصليب وتعتبره ترويجا للمسيحية وتكفر كل العاملين بالمسرحية وانما فهموا مغزى التوظيف الامر الذي لم يعد واردا بعد سنوات قليلة جدا لاحقة حين بدأ محمد صبحي يعرض مسرحياته الرائعة مع الممثلة القبطية سيمون إذ قامت حينذاك الدنيا على رأسة ولم تقعد الى أن خرج على وسائل الاعلام بـ( لا إله إلا الله محمد رسول الله) متفوها بها لكي يهدأ من غلواء وحقد المتطرفين على تمسكه بنجمة مسرحياته أنذاك. ماذا حصل خلال تلك السنوات لكي يطل شبح التطرف المرعب برأسه بين الناس ؟؟؟ ماذا حدث ؟؟ هل كان كل هذا نائما ، غافيا، منتظرا أن يخرج كمارد فيفرد جناحيه على هلق هذه الدنيا وقرفها؟ نعم، لقد كان موجود دائما ولكن تحت غطاء ” الكياسة ” فلطالما سمعت هذه العبارة من الآخرين مع ابتسامة محببة ماكرة ” ضيعانك تكوني مسيحية “، عبارة ترن كثيرا في فضاء عقلي فادرك ان الداعشية كانت دائما موجودة تنتظر يومها لكي تنفجر. لكن الحل أن لا اكون مسيحية أو مسلمة فهذا أمر لم أقرره أنا حين ولدت، الحل يكون تطوير الاحساس بالانتماء للوطن ليطغى على اي انتماء آخر ،وهذه الآن وظيفة حكومات البلدان التي طحنها الارهاب الديني .

اليوم تُدعس الاعلام الوطنية بأقدام البعض ويعتدى على الجيش الوطني للبلاد و تمُد اليد الى الارهاب بحب وحمية لكي يجد له مكانا آمنا في شوارعنا وبين بيوتنا. كل هذا لكي يؤمن طريق آمن لخروج هذه الدولة الشاذة الى الوجود، دولة تلغى فيها كل الطوائف والعقائد والتيارات الفكرية المختلفة لتحيى على شذرات فكرية معزولة من ارث الماضي المشوه.

أما بعد،

اتمنى على ابناء وطني التطلع معي الى تلك الجهة من العالم حيث كل شيىء ينمو مع النسيم الناعم للفن ويترعرع مع أفراد يقدرون العلم و يدربون أبناءهم على الحياة الصادقة الشريفة . حياة نريدها طافحة بالحب والمحبة، بالتسامح ونكران الذات أمام الآخر، بالمشاركة العميقة لدرجة الذوبان، بالقبول المحب لدرجة التزاوج، بالتماسك بين اطراف المجتمع المختلفة لدرجة التماهي، بالتطلع الى أفق العلم والبناء والقيم الاخلاقية العالمية البديلة للنسبية الثقافية والدينية التي تزيد عزلة المجموعات المختلفة في البلد الواحد بعضها عن بعض وتؤسس لانهيار المجتمع. احترام عقيدة الآخر، احترام قوانين الدولة والمجتمع، معاملة الآخرين كما تحب أن يعاملوك، العناية بالاطفال ، العناية بالنظافة الشخصية، الاعتدال في السلوك الشخصي وعدم الاباحية، احترام الوالدين ، القدوة الحسنة، السعي للعيش مع الحقيقة، الامتناع عن ارتكاب أي عمل غير قانوني او جرائم قتل ، دعم الحكومات التي تعمل لصالح الشعب كله وليس فئة صغيرة فيه، الحفاظ على البيئة و تحسينها، الامتناع عن السرقة او الكذب وبناء ثقة الآخرين بنا، الوفي بالوعد والالتزامات، والجد في العمل، والعمل على ان يكون المرء كفؤا  ومحترما للمعقتدات الدينية للآخرين ….كل هذه هي قيم انسانية اخلاقية عالمية بديلة للنسبية الثقافية والدينية التي نتمسك بها والتي ابعدتنا عن العالم كله كجزيرة صغيرة تتخاطفها الامواج وياليتها كانت درعا اخلاقيا حقيقيا امام النوائب والتحديات التي تحدق بالامة كل حين.

تاريخنا العربي كان دائما مثل الجزر المعزولة كما شبهه مرة الدكتور محمد عابد الجابري في كتابة عن العقل العربي. إنه كذلك لأن تطورنا على كل المستويات لم يكن في اغلبه نتيجة لصراع وسائل انتاجنا او لانه مرتبط باي صيرورة مكانية او زمانية وإنما لان التغيير كان يفرض احيانا بمرسوم ديني او حكومي من (فوق).

إن السلوك الانساني النابع من فطرة الانسان وميوله الطبيعية البقائية واعطاء الحرية لهذا السلوك في التعبير عن نفسه هي الوحيدة التي يمكن ان تشفي هذا التشوه المهول في التاريخ الانساني العربي. أما الحرية التي كان يريد ان يستجلبها هذا الربيع الدامي فكانت هي الاخرى بمرسوم ولا تتناسب مع طبيعة الناس ومسيرة تطورهم الطبيعية في المنطقة ولهذا فإنها ولدت ميتة وغير قابلة للتنفيذ.

ليكن هذا درسا للجميع، التطور لا يأتي بحد السيف ولابأمر الهي ولا حتى بمرسوم حكومي ولا بتبويس الايادي او الدعاء عليها بالكسر ..والحرية لا تجلب عكسها والديمقراطية لا تكمم الافواه( أميركا احتلت وقصفت وغزت اربعة عشر بلدا اسلاميا منذ عام 1980  كما كمل على الباقي من الدمار بعض القوى المحلية المتواطئة والمتطرفة). وبغض النظر إن كان هناك من يتآمر علينا أو لم يكن هناك مؤامرة، علينا أن نبدأ بأنفسنا فنعرف كيف نتعاطى مع العقائد الدينية التي ابتلينا بها وأن نعرف كيف نتعاطى مع الله وتجلياته في هذا العالم الحزين وأن يكون هناك حرية بالنسبة لهؤلاء الذي لايريدون حتى أن يتعاطوا مع كل هذا بالمطلق وأن يستبدلوا بها القيم الاخلاقية والانسانية المشتركة . علينا ان نعرف ان الوطن باقي سبب موافقة الاغلبية على وجوده والابقاء عليه، وإنه سيختفي بلمح البصر في الوقت الذي يُكسر هذا الاتفاق .

……………بانتظار الضوء في آخر النفق اتمنى لكل فرد من أبناء وطني ولادة حقيقة لوعي جديد وقلبا يمتلىء بالحب لأخيه الإنسان..أمنية أتمنى أن لا تطول حتى يزهر الصوان …