ضرورة تكامل السياسة والميدان لإنهاء الأزمة السورية

العميد د. أمين محمد حطيط

منذ اللحظة الأولى التي تأكد لسورية فيها أن هناك عدوانا خارجيا عليها تلبس لبوس الحركة الإصلاحية متوسلاً فئة سورية محلية، مذاك اتخذت القرار بالمواجهة على خطين: الاول الدفاع عن البلاد بوجه العدوان و الثاني تلبية مطالب المواطنين السوريين الصادقة والهادفة لتطوير النظام وإصلاح ما يجب إصلاحه على طريق بناء سورية الحديثة المتطورة، وهي عملية كما يعرف الجميع لا تتوقف عند عمل وتدبير فالتطور شرط ملازم لطبيعة الحياة. و في الوقت الذي نزلت القوات العسكرية الى الميدان بعد طول استمهال و تأني سارعت القيادة السورية إلى وضع برنامج تنفيذي للتطوير والإصلاح وفقا لما تتيحه الظروف، ثم دعت الفئات والشرائح الوطنية السورية للحوار تحت سقف السيادة الوطنية والقرار السوري المستقل. لكن قيادة العدوان على سورية صعدت من عملها الميداني و الاستثمار بالعنف و منعت الحوار وأصرت على تحقيق أهدافها بالقوة الإرهابية وانصاع اليها من الحق نفسه بقرارها.

والآن وبعد مضي ما بات يقترب من السنوات الأربع وبعد أن تيقن المعتدي أن الإرهاب لن يسقط سورية، وأن سورية تميز بين إصلاح تبتغيه وتعمل من اجل تحقيقه وتبحث عن السوريين المؤهلين للمشاركة بالعملية الإصلاحية لتحاورهم، وبين إرهاب ترفضه وتحاربه وتبحث عن مصادره وينابيعه وأدواته لتعطلها تمهيدا لاجتثاثه وتطهير البلاد منه، بعد أن تبين للمعتدي ذلك تظاهر بانه ضد الإرهاب، لكنه أصر على غيه في دعمه بالسلوك والممارسة ، مع مناورة واضحة لتعطيل اي حل سياسي لا يحقق اهداف العدوان الاساسية.

هنا يكون من المفيد أن نؤكد بان للحل السياسي في علم القانون ضوابط و معايير  و لمحاربة الإرهاب في العلم العسكري أصول و قواعد ثابتة ، لا تؤتي أوكلها كما يجب إن لم تحترم جميعها على وجه كامل، أما الانتقائية خاصة في محاربة الإرهاب كما يدعون فإنها لا تعدو العمليات الاستعراضية أو العمليات التجميلية على حد قول الرئيس بشار الأسد ،  أي تجميل التقصير وعدوانية السلوك بعمل قد يخدع البسطاء ، و تحت هذا العنوان تندرج عمليات القصف الجوي التي نفذتها طائرات التحالف الأميركي المعلن ضد داعش  و الذي يخفي شيئا آخر، إذ أن هذه العمليات لم تؤد حتى الآن  إلى قتل اكثر من  300 إرهابيا  في سورية قتل  معهم للأسف  250 مدنيا سوريا طالتهم النار الأميركية في بيوتهم أو حقولهم ، و قد استلزم ذلك الف غارة و 75 يوما من العمل و 3 مليارات  دولار كما تتداول المؤسسات الغربية المعنية بالمتابعة .  بذل كل ذاك الجهد والأنفاق ولم يؤد إلى تنظيف بقعة ولم يخرج الإرهاب من مدينة ولم يقطع عليه طريق غزوة، بينما العكس حصل على يد الجيش العربي السوري والقوات الرديفة حيث تم الالتزام بالقواعد العسكرية الصحيحة في المجابهة، فأدت عملياته في الفترة ذاتها إلى تنظيف وتطهير مساحات شاسعة على أكثر من اتجاه وإرداء 10 أضعاف العدد المذكور من الإرهابيين بين قتيل ومصاب في اقل من نصف الفترة ذاتها.

لكن سورية التي تسجل إنجازات نوعية في محاربة الإرهاب تعلم جيدا بان هذه المهمة لا يمكن أن تكتمل باستعادة الاستقرار الى البلاد و وضع حد لهذا الخطر الجسيم إن لم يستكمل السعي على خطين متلازمين:

–    عمل داخلي يحقق مصالحة وطنية شاملة تغلق اي باب او مصدر يستفيد منه الارهابيون من الداخل ،عمل لا يستثني أحدا من الشعب السوري إلا الذين يخرجون أنفسهم بأيديهم من المشهد عبر ارتهانهم للخارج وتنكرهم للسيادة الوطنية وتسخير طاقاتهم لسفك الدم السوري أو المساعدة على ذلك، وهذا الخط هو ما يعبر عنه بالحل السياسي للازمة، الحل الذي يصنعه السوريون بأنفسهم، دون أن يملى عليهم من شقيق أو صديق أو خصم أو عدو، وإذا استلزم الامر مساعدة من مخلص حريص على سورية وسيادتها فانها تقبل مشكورة لكن لا يمكن قبول  تدخل العدو والخصم في شأن سوري داخلي. وانطلاقا من هذا المنطق الوطني رحبت سورية بالمسعى الروسي للحل السياسي، الذي لا يتخطى سيادة سورية و ارادة شعبها و وحدة ارضها .

–    عمل خارجي يتم  بتعاون دولي شامل لمجابهة الإرهاب ، يبدأ بتجفيف مصادره البشرية و المادية و العقائدية ، ثم قطع الطرق عليه لمنعه من الوصول إلى الميدان السوري أو العراقي ( و هي الميادين التي يتفشى فيها العمل الإرهابي ) كما و الحؤول دون اقتحامه ساحات جديدة خاصة في الأردن و لبنان و السعودية التي باتت مرشحة لاستيراد ما صدرت من الإرهاب بشرا و فكرا و تمويلا ، و الأهم الملح اليوم هو أن تبدأ الدول المجاورة لسورية بالقيام بهذا العمل خاصة تركيا التي تعتبر الجسر الرئيسي الذي يعبر عليه الإرهاب إلى العراق و سورية برعاية و دعم تركي واضح ،و بهذا المنطق و الفهم استمعت سورية باهتمام لمبادرة دي مستورا الذي اظهر رغبة في تجميد القتال جزئيا كخطوة اولى على طريق الحل ، و ابدت استعدادا لدرسها من اجل التحقق من احترامها للقواعد و الاصول المعتبرة لاستعادة الاستقرار دون ان يعطى الارهاب اي فرصة بالنمو او تحقيق اي مكسب مهما كان نوعه و حجمه .

لقد اتخذت سورية المواقف الايجابية من المسعى الروسي  وابدت الاهتمام بالمبادرة الاممية  متسلحة  بالإنجازات التي حققتها في الميدان على صعيد محاربة الإرهاب مغتطبة  بالتغير في المواقف الدولية منه ، تغيير يؤكد على صوابية الموقف السوري منذ البداية . ثم كلل ذلك باللقاء الثلاثي الذي عقد في طهران و الذي أسس لمنظومة إقليمية فاعلة نواتها ايران و سورية و العراق منظومةلمحاربة الإرهاب بجدية و فعالية ، في وقت   تصاعدت فيه الهواجس الغربية من مخاطر الإرهاب المرتد عليها الذي قد يبدأ بالتفجر في شوارعها و أحيائها الآهلة مع بدء عودة بعض الإرهابيين من حاملي جنسية تلك الدول اليها . كل ذلك فتح الباب أمام عمل متكامل لإنتاج بيئة تمكن من ملاحقة الإرهاب على صعيد دولي من جهة ، و السير قدما بحثاً عن حل سياسي يصنعه السوريون .

لكن في مقابل هذه الإيجابيات على صعيد الحرب على الإرهاب والدفع باتجاه الحل السياسي، يصدم المتابع بمواقف البعض الذين يصرون على العيش خارج الزمن منفصلين عن الواقع، في حال من المكابرة والعمى السياسي الذي لا يؤدي إلا إلى مزيد من المعاناة لسورية والعراق والمنطقة كلها، التي هم منها والتي لن تكون بيوتهم في القريب القريب إلا هدفا لنار الإرهاب الذي لن يوفرهم.

نقول هذا ونحن نقرأ ما جاء في بيان دول الخليج مؤخرا من مواقف لا نصيب لها من المنطق والواقعية السياسية، أما تركيا ومع عدائها المعلن لسورية وشعبها، فقد تكون أدركت شيئا يحملها على التفكير بمراجعة مواقفها، إما لسبب اقتصادي قد تكون روسيا صنعته لها لدى زيارة بوتين الأخيرة اليها أو “لسبب آخر” قد تكون إيران وراءه بعد لقاء مسؤولين من البلدين مؤخرا. ومع أننا لا نملك قدرا من ثقة بصدق اردغان ووفائه، إلا أننا لا نسقط مصلحة تركيا في مراجعة مواقفها كما أسلفنا ولإن المصلحة هي من يسير اردغان فقد يكون التصور بإمكانية المراجعة تصورا مقبولا.

و بناء عليه ، نرى أن الهجوم المعاكس الذي خطط له محور المقاومة في الآونة الأخيرة و دعمته فيه بشكل خاص روسيا ، بدأ يحدث تغييرا معقولا في المشهد بحيث يعزل الإرهاب و يلزم الجميع بمواجهته و تكون سورية قد نجحت فيما أصرت عليه منذ الحظة الأولى عندما أعلنت أن لا حديث عن حل سياسي أو عملية إصلاحية إلا بعد الإقرار بوجود الإرهاب و الالتزام بمحاربته ، و تكون نجحت مرة اخرى عندما بدأ التسليم دوليا بان حكم سورية هو شأن سوري لا يحق لاحد الأملاء فيه و هذا هو جوهر المبادرة الروسية ، و ان وقف العنف و الارهاب شرط لا بد منه للانطلاق في الحل السياسي و هذا ما ينبغي ان تكون عليه مبادرة دي مستورا، ما يعني أن المشهد الجديد بات يتشكل و بتسليم الجميع ضمنا أو علنا أن لا حل و لا مخرج من الأزمة إلا باجتثاث الإرهاب و هو مسؤولية دولية و بترتيب البيت السوري و هو مسؤولية سورية .

:::::

“الثورة”، دمشق