ضد التطبيع ولو كان “حلالا”

الطاهر المعز      

بعد زيارة البابا (الكنيسة الكاثوليكية) إلى فلسطين المحتلة خلال شهر أيار 2014 التي استغلتها الكنيسة وبعض النافذين في لبنان لممارسة التطبيع، خلافا للقانون اللبناني، زار الأمين العام “لمنظمة التعاون الإسلامي” (التي تمثل الحكومات) القدس ولم يكتف بذلك بل دعا مسلمي العالم لزيارة القدس المحتلة، وناشد شركات السياحة تيسير ذلك لهم (وكأن شركات السياحة تمنح تأشيرات لمن يريد دخول فلسطين)، وأعلن اختيار مدينة القدس عاصمة للسياحة الإسلامية لسنة 2015، وتزامنت هذه المسرحية الرديئة مع إعلان حكومة العدو بناء مستوطنات جديدة على الأراضي المصادرة من أهل البلاد الأصلانيين، في القدس وفي غيرها من أرض فلسطين، من النقب إلى غور الأردن ومن نابلس إلى الجليل، ولم يكتف ممثل “منظمة التعاون الإسلامي” بممارسة التطبيع، بل أضهر براعة فائقة في المراوغة ومعسول الكلام، إذ قال بحضور زعيم فيلق المطبعين (محمود عباس) وممثل الحلف الأطلسي، المسلم حتى النخاع، قنصل تركيا لدى الكيان الصهيوني في القدس، وسفير الأردن، ممثل نظام اعترف علانية بالإحتلال: “إن زيارة القدس تأكيد على أحقيتنا بالمسجد الأقصى والقدس الشريف مهما كانت الصعوبات، وتعبير عن تمسكنا بهذا المكان الذي لا نقبل أن ينازعنا عليه أحد”، أما عباس فقد تجاوز الحدود، إذ دعا إلى “عدم الإصغاء للدعوات المضللة التي يطلقها البعض بتحريم زيارة القدس وهي تحت الاحتلال… إن على المسلمين زيارة الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين كما يزورون الكعبة والمسجد الحرام”، وكان الأمين العام “لمنظمة التعاون الإسلامي” قد دعا في أيار/مايو الماضي “جميع المسلمين لزيارة مدينة القدس والمسجد الأقصى والصلاة فيه، تأكيدا على هويتهما الإسلامية ومواجهة سياسية التهويد الإسرائيلية”

نذكر من انطلت عليه حيلة ممثل “إسلام الأنظمة” أن كل من يريد زيارة القدس يحتاج إلى موافقة وتأشيرة سلطات الاحتلال التي تفرض كذلك على الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية وقطاع غزة الحصول على تصاريح خاصة تمكنهم من الدخول إلى المدينة، والتي لا تمنح عادة لمن هم دون سن الخمسين، وتعرض هو نفسه صحبة السفير الأردني لدى حكومة الإحتلال، إلى الإيقاف والتعطيل لمدة ساعتين، عند مدخل المدينة، وأجبره جنود الإحتلال على العودة من حاجز “حزمة” بمدخل القدس إلى “رام الله”، ثم العودة إلى نفس الحاجز، قبل السماح له بالدخول لزيارة المسجد الأقصى، وذلك بعد يوم واحد من دعوته مسلمي العالم لزيارة مقدسات المدينة بعشرات الآلاف، وكأن المسألة بهذه البساطة أو تطبيقا ل”كن فيكون”، وكأن هذا الشخص فاقد الكرامة، ويعتبر إذلال جنود الإحتلال له أمرا طبيعيا، خلافا لجدنا عنترة بن شداد الذي صرخ قبل 14 قرنا ونيف “لا تسقني ماء الحياة بذلّةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظلِ، ماءُ الحياةِ بذلّةٍ كجهنّمِ، وجهنّمٌ بالعزّ أطيبُ منزلِ”

لقد رفضت الكنيسة المصرية هذه الدعوة للتطبيع (باسم الدين) وصرح المتحدث باسمها “موقفنا واضح من زيارة القدس، بعدم السماح للأقباط بزيارتها، وعدم دخولها إلا مع إخواننا المسلمين، وهذا من الثوابت الوطنية الراسخة للكنيسة القبطية… نحن مع الإرادة الشعبية للمسلمين بعدم زيارة القدس، فإذا توافقوا على زيارتها سنزورها معهم، وإذا أصروا على موقفهم من عدم زيارتها -وهو الحادث الآن- فنحن نرفض زيارتها أيضا”، وكان البابا الراحل “شنودة الثالث” قد اتخذ قرارا بحظر زيارة القدس حتى يتم تحريرها من الاحتلال، وأعلن البابا الحالي “تواضروس الثاني” التزامه بهذا القرار، وعبر ممثلو جامع الأزهر عن نفس الموقف، خلافا لمفتي مصر السابق علي جمعة الذي دافع عن التطبيع ومارسه سنة 2012

اعتبر رئيس الحركة الإسلامية في فلسطين المحتلة (الإحتلال الأول) “رائد صلاح” ان هذه الزيارة إلى القدس، وكذلك الدعوة إلى زيارتها “عثرة مؤلمة وتطبيع غير مباشر مع الاحتلال الإسرائيلي، وإن مردودها يصب في مصلحة الاحتلال الإسرائيلي ويكرس السيادة الباطلة على القدس والمسجد الأقصى المبارك”، واتخذ الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين نفس الموقف (على الصعيد الشخصي)، رغم التمويل القطري، ورغم تداخل هذه المنظمة مع الإخوان المسلمين الذي لم يظهروا حماسا للمقاطعة، أثناء فترة حكمهم سواء في المغرب أو تونس أو مصر، بل حاربوا الفكرة، واجتمعوا مع الصهاينة وأدلوا بالأحاديث الصحفية إلى وسائل إعلام العدو وشاركوا في مؤتمرات أعتى المنظمات الصهيونية وتبرئوا من مقاومة العدو، لإرضاء الراعي الأمريكي للإسلام السياسي “المعتدل”، أي “الإخوان المسلمون”

هناك فرق بين دخول الفلسطينيين، أصحاب الأرض الشرعيين، وبين الزائرين الآخرين، عربا كانوا أو عجما، إذ أن من حق كل فلسطيني، يقيم في أي جزء من العالم، الزيارة والإقامة في بلده، أما بقية سكان العالم فيمكنهم التضامن مع الفلسطينيين بأي طريقة تساعدهم على تحرير أرضهم ووطنهم، وليس بتكريس سيادة الإحتلال، ولسائل أن يسأل عن الفائدة التي تحصل للفلسطينيين كشعب من هذه الزيارات السياحية التي لا تتم سوى بموافقة العدو المحتل، والأمر ينطبق على الفنانين والأدباء العرب (من غير الفلسطينيين) والعجم الذين يأتون إلى رام الله أو القدس أو حيفا، للمشاركة في حفلات وندوات تمولها الدول الامبريالية (راعية الكيان الصهيوني) أو منظماته “غير الحكومية”، لأن هذه الزيارات تحصل تحت راية الاحتلال وبشروطه، وهو المستفيد الوحيد منها

سبق أن أثارت زيارات الأمين العام السابق “لمنظمة التعاون الإسلامي” (آب 2013) وزيارة مفتي مصر السابق علي جمعة (2012 ) إلى القدس ضجة واحتجاجات واسعة داخل مصر وخارجها، ولكن المطبعين يشيرون إلى موقف سلطة الحكم الذاتي الإداري، منذ اتفاقيات أوسلو، وممارساتها التي تجاوزت التطبيع إلى السهر على أمن العدو، وهي ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ حركات المقاومة، إذ مكنت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (أي فتح في واقع الأمر) الإحتلال من التخلص من واجباته (كمحتل) المتمثلة في توفير الحد الأدنى من شروط الحياة للشعب الرازح تحت الإحتلال، مع التحكم في الأرض وما تحتها وما فوقها وفي حياة الفلسطينيين، بأقل الخسائر، ومنعهم من الوصول إلى القدس أو أي شبر من فلسطين بدون موافقة جنوده ومخابراته، أما سلطة أوسلو فهي لا تتحكم في شيء سوى في رقاب الفلسطينيين، لتسليم المقاومين إلى جيش الإحتلال باسم “التنسيق الأمني”، ولا يمكن تسجيل أي مولود فلسطيني في أي سجل كان قبل تخزين المعلومات الضرورية عنه لدى مخابرات العدو، ولا يمكن لأي شخص (بمن في ذلك أعضاء السلطة نفسها) أو أي سلعة دخول فلسطين من أي معبر كان، بدون ترخيص العدو

إن المساندة الوحيدة للفلسطينيين تتمثل في مساعدتهم على التخلص من الإحتلال وتقرير مصيرهم والعيش في وطنهم وعودة اللاجئين والتحكم في الثروات، لا إلى تقاسم وطنهم مع العدو (وهو لا يقبل بذلك) أو التفريط في أي شبر منه، من النقب إلى الجليل ومن غور الأردن إلى حيفا، وعندما ينال الشعب الفلسطيني استقلاله، يقرر مصيره وعاصمته ونظام حكمه الخ وهي مرحلة أخرى

شخصيا، لا يهمني أن تكون القدس أو حيفا أو عكا هي العاصمة المقبلة لفلسطين المحررة، فالمهم أن تتحرر فلسطين، وبعد ذلك ينظر الشعب الفلسطيني في الأمر، ولكن بودي زيارة حيفا والتمتع بذلك المنظر الخلاب من جبل الكرمل المنحدر نحو الميناء، الذي شهد تهجير نحو سبعين ألف فلسطيني من حيفا إلى سواحل سوريا ولبنان سنة 1948… بودي التجول في الحي التاريخي لمدينة عكا، الواقع على البحر المتوسط، وهو مهدد بالتهويد، مثل حي الحليصة في حيفا وأحياء أخرى في اللد أو الرملة الخ، ولكن هذه الأراضي محتلة من أوباش غرباء، جاؤوا من أصقاع العالم، ولا علاقة لهم بهذه الأرض، والدليل حقدهم على أشجار الزيتون التي يناصبونها العداء ويقتلعونها كلما سنحت لهم الفرصة، في حين “يقدس” كل سكان البحر المتوسط هذه الزيتونة التي تضرب عروقها في أعماق الأرض، لتعيش وتثمر لفترة قد تفوق القرن

من واجبنا كعرب وكتقدميين العمل على تحرير فلسطين، لا على حث من وقعوا في براثن الإستعمار الإستيطاني على الإستكانة والخضوع، بل مساعدتهم على تحرير أرضهم بكافة الوسائل المتاحة وخلق الوسائل غير المتاحة حاليا، لحرمان العدو من الشعور بالأمن والإستقرار، والمقاومة تحرم العدو من تدفق المهاجرين ومن الإستثمارات، وتدفع المستوطنين إلى الهجرة، طلبا للأمان، والمقاطعة بكافة أشكالها هي أيسر شكل من أشكال المقاومة وهي أضعف الإيمان

لا داعي للإستشهاد بمواقف قادة منظمة التحرير والسلطة المتعاملة مع المحتل لتبرير الإنبطاح والتخاذل، لأن أغلبية الشعب الفلسطيني من اللاجئين، ومنظمة التحرير نفسها تأسست قبل احتلال 1967 بهدف تحرير المحتل من 1948 وعدم الإعتراف بقرار التقسيم… إن مواقف وقناعات وممارسات التقدميين لا تنتظر تأشيرة من أي كان، بما فيها المنظمات الفلسطينية نفسها، للقيام بواجبهم في الوقوف إلى جانب اللاجئين وضحايا الإحتلال والقصف وهدم المنازل وجرف الأراضي الزراعية

أما السؤال الأخير فهو: هل طرأ تغيير إيجابي على حياة الشعب الفلسطيني منذ اتفاقيات أوسلو ومنذ تعدد زيارات الفنانين والمثقفين العرب إلى رام الله ومنذ تكاثر عدد المنظمات غير الحكومية في فلسطين؟