محمد العبد الله
لم تتوقف اردتدادات العملية الدموية الإرهابية التي استهدفت صحيفة “شارلي هيبدو” الأسبوعية، وسوبر ماركت “هيبر كاشير”، على حالة الاستنفارالعسكري/البوليسي “المحلي” داخل أراضي الجمهورية الفرنسية، والأمني “العابر للحدود” داخل القارة الأوربية والأمريكية، بل وصلت إلى استنفار عالمي في مواجهة الإرهاب الذي ضرب باريس، وفي الدعوة للقضاء على “الذئاب المنفردة”التي نفذت الهجومين الإرهابيين، وملاحقة الآخرين الذين مازالوا طلقاء بانتظار اللحظة المناسبة للإنقضاض على هدف جديد، وهذا ماعبرت عنه_ ومازالت_ وسائل الإعلام، والإدارات السياسية/ الديبلوماسية في دول العالم .
إرهاب القلم والريشة
أمام سيل التعليقات والتحليلات والكتابات التي غطت مساحات هائلة في وسائل الإعلام، بدءاً من الصحافة المقروءة مروراً بمواقع التواصل الاجتماعي وانتهاءاً بالإعلام المرئي والمسموع، فإن تفاوتاً بل، انحيازاً_ باستثناء قلة من الأقلام الجادة والموضوعية والرصينة التي عالجت القضية من مختلف جوانبها_ ظهر في تناول الحدث من خلال البحث عن الدوافع والأبعاد ، بهدف الوصول لدراسة نتائج ماحصل، وماسيحصل، أمام إصدار الصحيفة المذكورة نسخة جديدة وبعدة ملايين ، تتضمن رسوماً مسيئة للنبي محمد(ص)، في إصرار فج وقبيح ويحمل أكثر من علامة استفهام حول من يقف مجدداً خلف “إشعال الحرائق” ووضع حكومات الغرب ومئات الملايين من شعوبها، في حالة هستيرية تقوم على وهم “الإسلاموفوبيا” من أجل تصدير أزماتها الاقتصادية والاجتماعية للخارج في محاولة مكشوفة لتحويل النضال الداخلي، الطبقي والاجتماعي، نحو عدو خارجي. علماً، أن من قام بالعمليات الإرهابية الأخيرة هم مواطنون فرنسيون. إن تبني بعض السياسيين وصناع الرأي العام لذلك الوهم في محاولة جعله “واقعاً موضوعياً” يعكس الأفكار العنصرية التي صاغها “صموئيل هنتينغتون” قبل عشرين سنة عن “صدام الحضارات” بما يُنتج ويعمم أشكالا من الصراع الهادىء حيناً والعنيف والدموي في أحيان أخرى بين الحضارة الأوروبية والإسلام .
إرهابيون في صدارة المشهد
في المسيرة الدولية التي دعا إليها قصر الإليزية والتي شارك فيها أكثر من خمسين من قادة تلك الدول، كتعبير عن وحدة العالم في مواجهة الإرهاب، تصدر ذلك الكرنفال العالمي، قادة دول، وملوك ممالك، ورؤوساء حكومات، معظمهم يشكلون الطغمة المالية المتوحشة التي تنهب الشعوب، وبعضهم أجراء وعبيد يعملون في خدمة تلك الطغمة، وجميعهم يتبادلون أدواراً مختلفة ومتفاوتة، لكنها، تكمل بعضها، في تصنيع أو دعم أو تمويل أو تدريب آلاف الإرهابيين الذي يزرعون الموت والدمار في عدة دول، معظمها، إسلامية. وإذا كانت القيم الإنسانية والأخلاق السياسية، تتطلب إعلان الإدانة الشديدة على “الإرهاب المسلح”الذي يسفك ويحلل دماء البشر، فإن التنديد بالوجه الآخر”الإرهاب الفكري” الذي يأخذ أشكالاً وتعابيراً متعددة من خلال استهدافه المباشر للمعتقدات الدينية والأنبياء ، يجب أن يكون بنفس الدرجة التي نددنا بها بمواجهة حملة السلاح من الإرهابيين. وإذا كان بعض دعاة وحماة حرية التعبير يبررون هذا التمادي الوقح على المعتقدات والرسل، فإن دفاعهم يتساقط عن تلك الحرية عندما تتم الإشارة و التدقيق في “الهولوكست” أو “الأساطير اليهودية”، لتبدأ جوقات الردح والعنصرية بالصراخ تحت دعاوي مضللة وساقطة بإسم “الهجوم على السامية” أي التعرض للتابو المحرم نقده “اليهودية الصهيونية”.
نتنياهو والمزاحمة على البروز
رغم ماأحاط المشاركة الرسمية لرئيس كيان القتل والمذابح المتواصلة في تلك المسيرة من لغط ومماحكات، خاصة، بعد العودة عن عدم المشاركة، حينما تبين أن قتلة آخرين من قادة الغزاة المستعمرين ” أفيغدور ليبرمان ونفتالي تينت” سيشاركان، واندفاعه للتواجد في الصف الأول، متسللاً من الصف الثاني كما فضحته الصور المنشورة على أكثر من وسيلة إعلام صهيونية. تحت عنوان “عار في باريس…لماذا يقفز” يكتب “شمعون شيفر” المقال الافتتاحي بتاريخ 13/ 1/ 2015 في صحيفة يديعوت احرونوت (كنا نتوقع من رئيس الوزراء أن يمثلنا بشرف لا أن يوقع عليها الخجل. لا يوجد كلمة اخرى. خجلت لرؤية الزعيم “الاسرائيلي” يتدافع نحو الباص أول الزعماء، وبعد ذلك يشق بمرفقه لنفسه مكان في الصف الاول من رؤساء الدول الذين ساروا بصمت بينما كان يلوح بيديه نحو الواقفين على الشرفات على طول الطريق). ثم نقرأ على موقع “المصدر” الصهيوني (… نجح نتنياهو بالانزلاق إلى الصف الأول، وبعد عدة دقائق من المسيرة وهو في المُقدمة، ويبتسم للكاميرات، بدأ نتنياهو أيضًا بالتلويح للجماهير التي على جانبي الطريق وكأنه ملكة إنجلترا بحق، وكأن المسيرة هي موكب نصر، وليس حدث مأساوي مُحترم )
قادة القتلة وبورصة الانتخابات
حرص “نتنياهو وليبرمان وتينت” على توظيف دماء اليهود الأربعة الذين قتلو في محل لبيع اللحوم في الحملة الانتخابية القادمة للكنسيت.حرص كل واحد منهم على تهييج مشاعر اليهود من أجل إعادتهم للحالة التي تخدم هجرتهم للمستعمرة الكبيرة، نقطة الضعف في هذه المشاعر، التركيز على “استهدافهم” و”ضعف الدولة في توفير حمايتهم” وتصوير المستعمرة بأنها المكان الآمن لهم. وقد كان كلام نتنياهو في الكنيس اليهودي في باريس قبل انطلاق المسيرة، واضحاً ومباشرا في التأكيد على دعوة يهود فرنسا للهجرة إلى الكيان، في استفزاز معلن للحكومة الفرنسية من حيث تعامله مع مواطنين فرنسيين على أساس ديانتهم في تناقض صارخ مع ” المواطنة “. أما أفيغدور ليبرمان فقد ردد مواقف نتنياهو كما نقله موقع “يديعوت احرونوت”(نحن ندعو اليهود للهجرة إلى “إسرائيل”. وصلنا إلى ذروة هجرة يهود فرنسا ولكن ذلك ليس كافيا. في عام 2014 وصل ل “إسرائيل” 7000 مهاجرا من فرنسا، ولكن ذلك بعيد عن تحقيق القوة الكامنة. مطلوب منا القيام بعدة تسهيلات،على سبيل المثال بمجال تحويل الأموال والاعتراف بالشهادات. وزارة الاستيعاب تقوم بتركيز جميع الحواجز البيروقراطية”. الاستياء من هذه التصريحات لم يكن ماصدر عن الفرنسيين، بل جاء في افتتاحية صحيفة هآرتس يوم 13 / 1 (…دعوة نتنياهو لمواطني فرنسا اليهود الهجرة الى “اسرائيل” لأن فيها فقط سيجدون أمنهم، أهان الفرنسيين وقيادتهم عن حق. بمعنى ان نتنياهو يقرر بان لا دولة قادرة على مكافحة الارهاب مثل “اسرائيل” ).
خاتمة
يحرص قادة حكومات شركات الاحتكارات والنهب والتوسع الغربية على دفع الصراع بين ملايين الشباب العاطلين عن العمل أوالذين يعملون في المهن والخدمات “الدونية” حتى لانقول ” الوضيعة” والقاطنين في الضواحي البائسة والمكتظة بالسكان، بمضامينه الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية،إلى أشكال من العنصرية الإثنية والدينية، بهدف حشد الكتلة الأكبر من المواطنين بمواجهة كتلة أخرى – حتى لانقول أقلية_ ذات ثقافة ومعتقدات أخرى، من أجل الوصول إلى التنفيذ الميداني لهلوسات هنتنغينتون والمحافظين الجدد في أكثر من قارة وعاصمة. كما أن زعماء عصابات المستعمرين في الكيان / الثكنة، يحاولون نقل الصراع بين قوى وجماهير حركة التحرر الفلسطينية/العربية، والحركة الصهيونية وكيانها القائم على المذابح والطرد والتهجير والتوسع، إلى صراع ديني من أجل خدمة اليهودية/ الصهيونية، وهذا ماحاول نتنياهو التركيز عليه في خطاباته وتصريحاته بالأيام الأخيرة، عندما وضع حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية/ العربية بمصاف قوى الإرهاب التكفيري المتعددة الأسماء .
إن إرهاب منظمات (بيغيدا “وطنيون أوربيون ضد أسلمة الغرب” وبيتار ودفع الثمن وأبناء الهيكل) وغيرها،ذات النزعة العنصرية والفاشية والدينية هو الوجه الآخر لإرهاب فكري تمارسه أقلام ورسومات شارلي هيبدو وسواها، وجميعها لاتقل خطراً ومأساوية عن الإرهاب الدموي .
:::::
جريدة “قاسيون ” الأسبوعية – العدد 689